AJ 25th Book

في كل جدار ثغرة

لقد قدمت الجزيرة محتوى استقصائيا في برنامج المسافة صفر مدعما بالوثائق، والشهادات، وصور الأقمار الاصطناعية، وتقنيات الرصد والتتبع الحصرية، وتحليل المعلومات، وبجهود الفرق المتخفية والمصادر الخاصة ومن الميدان حرصنا أن نكون أوفياء لشعار الجزيرة «الرأي والرأي الآخر» فطرقنا أبواب أشد الناقدين للجزيرة، رغم معرفتنا سلفا بأنهم لن يقووا على مواجهتنا. بنينا شبكة من المتعاونين اتسعت وتنوعت بتنوع حلقاتنا فوجدنا أنفسنا أمام أخبار تردنا لا تحتمل التأجيل، فقدمنا مجموعة من التقارير التحقيقية النوعية لغرفة الأخبار. لكن دعوني أخبركم عن الجانب البعيد عن الشاشة.. عن الدروس التي تعلمتها وما أزال. تعلمت أن الصحافة الاستقصائية عمل جماعي، لا مكان فيه للبطل الأوحد، فتلك خرافة. هنا، عليك أن تترفع عن صوت الأنا لصالح صوت «نحن». فـ»نحن» تمثل زملاء مخلصين ومبدعين ومتجددين، حرموا حتى من الفخر بما أنجزوه خوفا على أنفسهم وذويهم. في عالمنا العربي ما تزال الصحافة الاستقصائية تراوح عند خط البداية. فبمجرد أن تقول إنك تعمل على فيلم تحقيقي تثير الغضب والريبة. أو كما يقال لي دائما «أنتِ مشكلجية». في بعض الدول، «الجزيرة» تهمة فما بالك حين تقول بأنك في الجزيرة وتعمل في التحقيقات الصحفية.

عرضت الجزيرة قبل المنظمات الإنسانية الدولية شهادات لنساء لاجئات من أقلية الروهينغيا في بنغلادش تعرضن للاغتصاب في ميانمار على يد رجال الأمن، في فيلم «الروهينغيا، التنكيل والصمت.» وقع ذلك بعد أن منعتنا السلطات البنغالية من الدخول وأعادتنا من المطار فقمنا بإرسال فريق إلى المكان لتسليط الضوء على معاناتهم والاقتراب من جراحهم في إقليم أراكان. ثم وصلنا إلى حلايب وشلاتين في الجانب المصري عبر فريق وثق عمليات تنقيب غير مشروعة عن الذهب في أراض متنازع عليها مع السودان، ورصدنا المشهد الميداني المتوتر. ثم كشفت الجزيرة عن وجود سجون سرية ومعدات عسكرية في ميناء عصب الإرتري في فيلم «حرب الموانئ». كما كشفنا عن جوانب معتمة من الصراع في القرن الإفريقي. وتمكنت الجزيرة في فيلم «السقوط على أبواب طرابلس» من الوصول إلى قلب بنغازي -معقل قوات حفتر- وكشفت عن حركة طيران نشطة لنقل السلاح والمرتزقة. كنا في الميدان، من جبهات القتال المستعرة نعيد رسم خارطة المواجهة في ذهن المتلقي من خلال إطلاعه على التفاصيل الدقيقة المتوارية عن الأنظار. بعد ذلك جاء حصاد عام ونصف من العمل في فيلم «رسائل سيتا.» ذلك التحقيق الذي كشف عن عوالم الحسابات الوهمية وشبكات التضليل المعلوماتي في الأزمة الخليجية. كيف تدار؟ ومن أين؟ ومن الدول التي تقف خلفها.

بل هي بالنسبة لنا قلق ينازعه صبر. حصاد بعد انقطاع. ولادة بعد حرمان. غيث بعد عطش. إن أهم دروس العمل الاستقصائي أنه يعلمك الصبر. فلكل فيلم من أفلام برنامج «المسافة صفر» مسار تحقيقي مختلف وحكاية عنوانها دائما « فصبرٌ جميل!».

«ونحن» تمثل أولئك الشجعان الذين يخاطرون بأنفسهم فيعملون سرا في أماكن ظن أعداء الجزيرة أنها اقتلعت منها. ففي كل مرة يذهب فريق إلى مكان ما لتنفيذ عمل أشعر كأنني أنام بين القبور، هؤلاء هم الجنود الحقيقيون وأنا لست إلا جزءا من عمل أبطاله الحقيقيون في الظل. أبطال يتحركون بين الألغام وسط الظلام. تعلمت أنه لا توجد ملفات مغلقة، ولا أماكن يستحيل الوصول إليها. ففي كل جدار ثغرة يمكن الولوج منها للوصول إلى الهدف، مهما كانت القيود والسدود. علمتني الصحافة الاستقصائية أن الجودة أهم من الكم وأن الشهور التي نكون منتظرين فيها ولادة فيلم جديد ليست مجرد شهور حبلى بالأيام والساعات والدقائق،

151

150

Made with FlippingBook Online newsletter