AJ 25th Book

الوداع الأخير

المحاصرة، يلقون نظرات الوداع الأخيرة على مدينتهم، يتذكرون ماضيها ويتمعّنون أنقاضها، وآخرون يحرقون بيوتهم وممتلكاتهم لكيلا تسيطر عليها قوات النظام ومليشياته بعد خروجهم. فجر اليوم التالي، وصلت حافلات التهجير، وفي هول ذاك المشهد، حين كانت أفواج المهجرين تتدافع للنجاة والخروج من المدينة، حينها وقبل أن أصعد الحافلة وقفت على كومة ركام من أطلال المدينة، مستذكراً شريط سنوات قضيتها فيها بحلو أيام الطفولة والدراسة، ومرّ سنوات المحرقة والحصار، ثم شغّلت كاميرا هاتفي الجوال، وقلت:

الوداع الأخير مراسل قناة الجزيرة الإخبارية | عمرو حلبي

تمطر المدينة بمختلف أنواع الصواريخ والقنابل المتفجرة. قتلت كثيرًا من أهل المدينة ودمرت كل شيء، مستشفيات ومساجد ومدارس وخزانات مياه ومخابز وأسواقا. أذكر أني وصفت يومها ما كان يجري «بيوم القيامة» خلال إحدى المقابلات. بينما كانت قوات المعارضة ونحو ثلاثمئة وخمسين ألف مدني من أهل المدينة محاصرين في جيب صغير غربي المدينة وجنوبيها. ومع اقتراب موعد اقتحام آخر الأحياء المحاصرة، كانت أفواج النازحين تتجه من تلك الأحياء إلى مناطق النظام على أمل الخلاص من الجحيم، بعضهم عبر ونجا، وآخرون ضربت القذائف طوابير نزوحهم فمزّقت أجسادهم وقتلت أحلامهم. فجرًا، عند لحظات الوداع الأخير لعائلتي وأقاربي قبل إرسالهم إلى مناطق سيطرة النظام، جاءني مسرعًا مسؤول التفاوض عن قوات المعارضة ونادى بي لاهثًا: عمرو...لا ترسلهم، الروس وافقوا على وقف إطلاق النار والإخلاء بعد ضغوط دولية. كانت عودة إلى الحياة... أرسلت الأخبار العاجلة للقناة وانطلقت مع زميلي المصور نغطّي أكبر عملية تهجير شهدتها البلاد، كان كأنه البعث والنشور من تحت الأنقاض، آلاف الحلبيين المحاصرين اكتظوا في شوارع الأحياء

منتصف الليل، أركض مسرعًا نحو منزلي، غير آبه بوابل القذائف والرصاص المنهمر يمنة ويسرة. فالنفس لا تعرف الخوف على أعتاب الموت حين تكون منهكةً من جحيم محرقة كالتي هدّت حلب وأهلها. وصلت المنزل وكان يعجّ بالنساء والأطفال، أقارب وجيران، كأنهم مساجين ينتظرون الحكم الأخير. قلت لزوجتي: «جهزوا أغراضكم، النظام والروس والإيرانيون رفضوا التفاوض وإجلاء الأهالي. الجيش صار على أطراف الحارة وسوف يقتحمها، رح نوصلّكم لمناطق النظام عند الفجر». كان الخيار الأخير لي ولكثير من الأهالي المحاصرين في أحياء حلب الشرقية، إرسال النساء والأطفال إلى مناطق سيطرة قوات النظام السوري على أمل نجاتهم ولئّ يدفنوا تحت أنقاض المنازل التي تدكها البراميل المتفجرة. أما نحن -الشباب والرجال- فكنا على يقين من مواجهة المصير المحتوم، «إما الموت أو الاعتقال». فقوات النظام السوري وحلفاؤه، اقتحموا أول أحياء حلب الشرقية، وسرعان ما كانت تهوي واحدا تلو الآخر تحت وابل القذائف والنيران والطائرات الروسية التي كانت

323

322

Made with FlippingBook Online newsletter