حكاية سبارتاكوس بين الواقع التاريخي والخيال السينمائي سينما التاريخ
بالحربة في ظهره من الخلف. وبينما كان جسد درابا يتدلى من المنصة قام كراسيوس بذبحه وقطع رقبته، ثم سقط جسد درابا فوق الرمال التي تغطي أرضية الحلبة. سبارتاكوس بين الحقيقة والخيال السينمائي والمعروف تاريخيا أن هذه الأحداث الدرامية لم تحدث في واقع الأمر سواء في عهد كراسيوس أو حتى في عهد الأباطرة المجانين من أمثال كاليغولا ونيرون ودوميتيان وكومودوس. ومع ذلك يرى النقاد أن فيلم سبارتاكوس كان فيلما ناجحا على الرغم من قيام المخرج بتحريف بعض الأحداث التاريخية ولكن على نطاق ضيق، ولكنه أبدع في تصوير حياة العبيد وخاصة سبارتاكوس وكرايكوس وعلاقاتهم مع رجال السياسة الرومان وعلى رأسهم كراسيوس ويوليوس قيصر بالإضافة إلى القراصنة الصقليين ناهيك عن التمرد الذي نشب في مدرسة المصارعة في منطقة كبوة الإيطالية. لقد تم تجسيد الشخصيات والأحداث بشكل لا لبس فيه من الناحية التاريخية. وعلى الرغم من اقتراب أحداث الفيلم إلى حد كبير من الوقائع التاريخية التي مرت بها الإمبراطورية الرومانية آنذاك، فإن ستانلي كوبريك - مخرج الفيلم - قد عب ّّرعن عدم رضاه عن الفيلم بعد حضوره للعرض الافتتاحي قائلاًً: «لست مسرو ار من الفيلم لأنه يفتقد إلى قصة جيدة». ومع ذلك يعد ستانلي كوبريك من المخرجين القلائل الذين حافظوا على
وقد يصاب المؤرخون بالدهشة عندما يكتشفون أن خصم سبارتاكوس، المصارع الأسمر «درابا» - الذي جسد دوره ببراعة الممثل وودي استرود - لم يصارع بالأساليب المتبعة لدى المصارعين السيلتيين القادمين من بلاد الغال أو المصارعين السامانيين أو حتى المصارعين التراقيين، وإنما ) الذي يحمل شبكة retiarius تقمص دور المصارع الريتاري ( ورمحا ثلاثي الشعب أثناء المباريات. وعلى الرغم من أن صورة المصارع المجهز بالشبكة والرمح ذي الشعب الثلاث كانت تجذب الجماهير بشكل واضح فإن المشهد غير حقيقي من الناحية التاريخية لأن هذا النوع من المصارعين لم يظهر في حلبات المصارعة إلا في العهد الإمبريالي الروماني، ومن المؤكد أن هذه النوعية من المصارعين لم تكن معروفة حتى العهد الأوغسطي - عهد الإمبراطور أغسطوس- أي بعد هروب سبارتاكوس من مدرسة المصارعة بستين عاماًً. بالإضافة إلى أن المصارع الريتاري - الذي يحمل شبكة ورمحا ثلاثي الشعب - لم يكن من المسموح له بمصارعة المصارعين التراقيين المجهزين بالدروع الثقيلة والسيوف المقوسة كما حدث في الفيلم، وإنما كان يتقاتل مع المصارعين من فئتي: السيكيوتر المُُطارِِد، أو المورميلو المُُدرََع. وفي الفيلم رأينا أربعة مصارعين، من بينهم سبارتاكوس ودرابا، وقد فُُرض عليهم تقديم عرض قتالي في ساحة مدرسة المصارعة في كبوة للترفيه عن الإمبراطوركراسيوس وزوجته وابنته وصهره،
صديق محمد جوهر قصة تمرد العبد سبارتاكوس وهروبه من مدرسة تعد قبل الميلاد 73 في عام Capua المصارعة في منطقة كبوة من أروع الروايات التاريخية الرومانية خاصة أن سبارتاكوس ورفاقه قد استطاعوا تحدي الجيوش الرومانية لمدة ثلاث سنوات. لقد استطاعت بضعة آلاف من العبيد اليائسين من الحياة في روما أن يقذفوا الرعب في قلوب الرومان ويهزوا أركان الدولة الرومانية ودعائمها. ومن وجهة نظر صن ّّاع الأفلام فإن العدالة يجب أن تتحقق بانتصار العبيد على فيالق الإمبراطورية الرومانية وجيوشها التي لا تقهر، ولكن صنّّاع السينما لم يتمادوا في تزييف التاريخ وتغيير الحقائق ولذلك انتهت الأفلام بانتصار الجيش الروماني على سبارتاكوس وجنوده كما حدث على أرض الواقع. ولولا خشية صنّّاع الأفلام من التداعيات التي قد تنجم عن التلاعب بالحقائق التاريخية التي وردت على لسان سالوسيتوس وبلوتارش وفلوروس لكان لهم رأي آخر. لقد قرأنا في التاريخ عن رحلة سبارتاكوس الطويلة عبرإيطاليا وعن حروبه التي خاضها بشجاعة حتى الموت في سعيه للقضاء على العبودية ولكنه لم يصلب ولم يُُسمر جسده فوق الصليب كما شاهدنا في الأفلام. وفي الواقع فقد حارب سبارتاكوس الرومان بشجاعة ولكنه لم يستطع أن يقضي على نظام الاستعباد. لقد تم تصوير انتفاضة سبارتاكوس في خمسة أفلام. وكان أفضل الأفلام عن سبارتاكوس الفيلم الذي . لقد استغرق عرض 1960 أخرجه ستانلي كوبريك في عام مليون دولار، وكان 12 دقيقة وتكلف إنتاجه 184 الفيلم نحو يعد رقما فلكيا في عالم الإنتاج 1960 هذا المبلغ في عام السينمائي. ولقد جسد الفيلم بشكل رائع سلسلة المواجهات
بين العبيد من أنصار سبارتاكوس والجيوش الرومانية حيث ركّّز على الجوانب الإنسانية في حياة العبيد وانتقد الجهل والاحتقار والغطرسة التي تعاملت بها السلطات الرومانية الرسمية مع حركة التمرد. ويعد الفيلم إدانة صريحة لعدم المساواة في الحقوق بين العبيد وعامة الناس كما يدين الفيلم القوانين كلها التي كانت وراء تلك التفرقة في المعاملة. ولقد اقتبس المخرج بعض الكلمات التي جاءت على لسان سبارتاكوس نفسه حيث قال: «عندما يموت الرجل الحر فإنه يفقد متع الحياة التي كانت متاحة له، أما العبيد فإنهم لا يجدون حريتهم إلا في الموت ولذلك سوف ننتصر». تحريف تاريخي في مصارعة سبارتاكوس على الرغم من أن فيلم سبارتاكوس صوّّره كأعظم مصارع في التاريخ، فإن الجمهور لم يره وهو في حلبة المصارعة إلا قليلا ًً، بل إن الجماهير رأت بطل الفيلم، كيرك دوجلاس وهو يخوض سلسلة من المعارك كقائد جيش المتمردين الذي تصدى لجيوش الرومان، ولم يظهرالبطل في حلبة المصارعة طوال الفيلم سوى في مشهد واحد قبل هروبه من مدرسة المصارعين في كبوة، حيث كان يتقمص دورالمصارع التراقي. وُُيعد هذا المشهد منطقيا لأن سبارتاكوس ينحدر من أصول تراقية، أي إنه جاء من تراقيا (منطقة مجاورة لروما القديمة) ولكن الأسلحة التي استخدمها سبارتاكوس - في الفيلم - ليست هي المعدات التي كان يتسلح بها المصارعون التراقيون - آنذاك - لأن المصارع التراقي وقتها كان يرتدي درعا ثقيلا ويحمل سيفا مقوس ًاً. إن الدرع الدائري الصغير الذي كان يلبسه بطل الفيلم والسيف القصير الذي كان يستله في يده لا يشبهان الأسلحة التي اعتاد المصارعون التراقيون على الظهور بها في الحلبة. كما أن بطل الفيلم لم يلبس خوذة أو واقيات للسيقان كما كان يفعل المصارعون الرومان القدماء.
ولم يحضر هذا العرض أي جماهير من عامة الناس. وفي نهاية القتال الدموي بين المصارعين الأربعة أََجبر درابا سبارتاكوس على الاستسلام والانبطاح بعدما وجه إليه الرمح متعدد ا � أرض الشعب. ولقد أشارت زوجة الملك إلى درابا بأن يقتل سبارتاكوس حيث نكست إصبع الإبهام وهي الإشارة المتبعة في هذه الأحوال، ولكن درابا لم يفعل ما أومر به، وإنما قام بإلقاء الرمح تجاه كراسيوس وأسرته ثم قفز إلى المنصة حيث تجلس الأسرة الملكية في محاولة لقتلهم، وعندما كان درابا على وشك الفتك بهم طعنه أحد حراس الإمبراطور
الواقع التاريخي على عكس صنّّاع الأفلام الأخرى التي تناولت قصة سبارتاكوس ممن دأبوا على تقديم عروض خيالية، حيث تعمّّدوا تجاوز الحقيقة وأصّّروا على ضربها عرض الحائط بكل ما هو متاح من بيانات تاريخية. إن سعي صناع الأفلام إلى تجاوز المعطيات التاريخية قد حرمهم من شرف تقديم عروض المصارعة بشكل حقيقي وفي سياق تاريخي مناسب خاصة أنهم يمتلكون كل التقنيات والوسائل الفنية الحديثة التي تمكّّنهم من ذلك أكاديمي وناقد - خبير الترجمة في الأرشيف والمكتبة الوطنية
103
102
2025 يونيو 308 / العدد
حكاية سبارتاكوس بين الواقع التاريخي والخيال السينمائي
Made with FlippingBook. PDF to flipbook with ease