محمد محمد عيسى كشف ديوان الشعر العربي القديم عن اهتمام العرب العميق بنياقهم، بوصفها أكثر من مجرد وسيلة للتنقل بين لقد الصحاري والمرابع. فقد كانت الناقة تمثّّل لدى العربي القديم كائنا مركزيا في تجربته الحياتية والوجدانية؛ فهي الأنيسة في الوحدة، والرفيقة في الترحال، والصابرة في مشاق السفر، حتى غدت حاملة همومه وصدى أشجانه. ولم يكن الشاعر العربي ليبدأ مشهد الرحلة من دون أن تستوي ناقته على السطر الأول، إذ غدت - بحضورها الجسدي والرمزي - شرطا جماليا وواقعيا لانطلاق النص. وقد بلغ هذا التعل ّّق حد ّّا جعل الشاعر يخاطب ناقته كما يخاطب إنسانا ًً، فيصفها، ويُُسميها بأسماء تدل على المحبة والأنس، ويشاركها تفاصيل الطريق والمآل. وعلى مستوى الرمز، فقد مث ّّلت الناقة في كثير من القصائد معادلا موضوعيا للمرأة، إذ اتخذها الشعراء مرآة للحنين، والتوق، والعاطفة، فكانت محم ّّلة بدلالات الخصوبة والوفاء والج ََمال. ومن هنا، يمكن القول: إن الناقة في الشعر العربي ليست مجرد حيوان صحراوي، بل هي كيان شعري وثقافي يجس ّّد العلاقة العميقة بين الإنسان العربي وبيئته، وي ُُعب ّّر عن ملامح رؤيته الوجودية. ٍٍّالنََّاقََة مِِن حيََوََان ص ََحْْرََاوِِي إِِلىكِِيََان ش ِِعْْرِِي وََثََقََافِِي أدب الناقة
أََدََاة لِِبُُلُُوغ الحََاجََات لقد جاءت الناقة في شعر سائر شعراء الجاهلية بوصفها الوسيلة الأهم لتحقيق مطلب العاشق، وبلوغ الديار، وتقص ّّي آثار الحبيبة، فكأنها أداة عشق لا سفر فقط. فكانت «عليها، ٍٍوعلى مثلها» تُُكتب الرحلة ويُُستأنف الأمل، هكذا قال امرؤ القيس في وصف ناقته، وقد اتخذ منها وسيلة لحاجة عاشق ِِــــــــــــــــــــق ِوإنََّـــــــــــــــــــــــــــــــــــك لََـــــــم تََقطــــــــــــــع لُُبانََـــــــــــــــــــــــــــــــــــة ع ََاش ُُــــــــــــــــــــــــــــدُُو أو رََوََاح مُُـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــؤ َََّوِّب بمِِثْْــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــل غ ُُـــــــــــــــــــــوج كـــــــــــــــــــــــــــــــــــأن قُُتُُودََهََـــــــــــــــــــــــــــــــــــا بأدمـــــــــــــــــــــاء حُُرْْج )1 (ِِ على أ ََب ْْلـــــــــــــــــــــــق الك ََش ْْح ََي ْْـــــــــــــــــــــن ليــــــــــــــس ب ِِم ُُغ ْْر ِِب وهذا طرفة بن العبد، يمضي همََّه بناقة نشيطةٍٍ، (عوجاء) لا تستقيم في سيرها لنشاطها الزائد، وهي كذلك (مرقال) مسرعة، (تباري) الإبل الكرام المسرعات، يلحق وظيف رجلها ِِوظيف يدها، فوق طريق مذلل: ََـــــــار ِِه ِِـــــــــــــــــــــي الهََـــــــــــــــــــــم ََّ، ع ِِنْْـــــــد اح ْْتِِض ِـــــــــــــــــــــي لأمْْض �ِّ وإ ِِن ََــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاء مِِرْْقََـــــــــــــــــــــال تََلُُـــــــــــــــــــــوح وتََغْْتََــــــــــــــــــــــدِِي ب ِِع ََو ْْج ِِأََمُُـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــوْْن كََأََلْْـــــــــــــــــــــوََاح الإِِرََان نََصََأْْتُُهََــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا ُُـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــد ِِــــــــــــــــــــــــــــب كََأََنََّــــــــــــــــــــــــــــه ظََهْْـــــــــــــــــــــر بُُرْْج ع ََلََى لاح ِِجـمََالِِيََّــــــــــــــــــــــــــــة وََج ْْنََـــــــــــــــــــــاء تََــــــــــــــــــــــــــــرْْدََي كََأََنََّهََــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا ََــــــــــــــــــــــــــــر أرْْبََـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــد ََـــــــــــــــــــــــــــــــــــة تََبْْــــــــــــــــــــــرِِي لأزْْع ْْس ََف ََن ََّج تُُبََــــــــــــــــــــــــــــارِِي ع ِِتََاقــــــــــــــــــــــــــــا نََاج ِِيََـــــــــــــــــــــات ٍٍ، وأََتْْبََعََــــــــــــــــــــــت )2 (ِِ وظ ِِيْْفـا وظ ِِيْْفـــــــــــــــــــــا فََـــــــــــــــــــــوْْق مََــــــــــــــوْْر مُُعْْبََّــــــــــــــــــــــــــــــــــد ْْوي ُُشير إلى قدرته عليها، وتحكمه فيها، وانصياعها له، بقوله: ِِوََإِِن شِِئْْــــــــــــــت لََـــــــم تُُرْْقِِـــــــل وََإِِن شِِئْْـــــــت أََرْْقََـــــــــــــلََت ََـــــــــــــــد ِ م ُُح ْْص �ِّ ٍ مِِـــــــــــــــــــــن القََــــــــــــــد �ٍّ ََـافََـــــــــــــــــــــة مََلْْــــــــــــــــــــــوِِي م ََخ ِِو ََإ ِِن ش ِِئ ْْــــــــــــــت س ََام ََــــــــــــــى و ََاس ِِط الك ْوْر ر ََأ ْْس ُُه ََـــــــــــــــــــــا ََـــــــــــــــــــــاء الخََفََيْْــــــــــــــــــــــدََد و ََع ََام ََـــــــــــــــــــــــــــــت ب ِِض ََب ْْع ََي ْْه ََــــــــــــــا ن ََج
ِِــــــــــــــــي إِِذََا قََــــــــــــــــال ص ََاح ِِبِِـــــــــــــي: ع ََلََى مِِثْْلِِهََــــــــــــــــا أََمْْض
)3 ( ألا لََيْْتََنِِــــــــــــــــــــــي أََفْْـد ِِيْْـــــــــــــــــــــك مِِنْْهََــــــــــــــــــــــــــــا وأََفْْتََـــــــــــــــد ِِي ويستخدمها لبيد وسيلة انتقال خفيفة، تُُشبه في خفتها خفة السحابة، أو الأتان التي حملت تولبا ًً، قد جاء لفحل يغارعليها من الفحول، وهو يََس ُُوقها بشدة؛ كي يخفيها عن العيون، كما في قوله: بِِطليــــــــــــــــــــــــح أََس ْْفََــــــــــــــــــــــــار تََرََكْْــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــن بََقِِيََّــــــــــــــــــــــــــــــــة ْْمِِنْْهََــــــــــــــــــــــــــــــــا فََأََح ْْنََــــــــــــــــــــــــق ص ُُلْْبُُهََــــــــــــــــــــــــــــــــا وََس ََنامُُهََـــــــــــــــــــــا ََّــــــــــــــــــــــــــــــــــــرت وإِِذََا تََغََالََــــــــــــــــــــــــــــــــى لََح ْْمُُهََــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا وََتََحس ََــــــــــــــــــــــــلال خِِدََامُُهََـــــــــــــــــــــــــــــــــا وتََقََطََّعََــــــــــــــــت بََعْْــــــــــــــــــــــــد الك ِمََــــــــــــــــــــــــــــــــام كََأََنََّهََــــــــــــــــــــــــــــــــا �ِّ فََلََهََـــــــــــــــــــــــــــــا هبََــــــــــــــــــــــــاب فِِي الز ََــــــــــــــــف مع ال ْْج ََن ُُــــــــــــــــوب ج ََه ََام ُُه ََــــــــــــــــــــــــا صََهْْبََــــــــــــــــــــــــاء خ ََــــــــــــــــــــــــه أو م ُُل ْْم ِِــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــع و ََس ََق ََــــــــــــــــــــــــت لأََح ْْق ََــــــــــــــــــــــــب لاح )4 ( ُُــــــــــــــــــــــــول وض ََرْْبُُهــــــــــــــــا وََكِِد ََامُُهََــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا ٌٌّطََرْْد الْْفُُح رََمز ومُُعََادِِل موضوعي لقد سعى كثير من الشعراء إلى اتخاذ الناقة رم از أو معادلا للمرأة؛ هذا إذا أراد الشاعر أن يََتََقََنََّع في حديثة إلى امرأة بعينها، مخافة فضح أمرها، ومع ذلك ترى بعض الشعراء يذهب إلى حيلة أقوى، فيبدأ بذكر المرأة، ثم ينتقل إلى الحديث عن ناقته؛ فيقول عن الناقة مالم يقدر أن يبوح به عن المرأة، يقول معاوية بن مالك في قصيدته الشهيرة التي مطلعها: أج ََد القلــــــــــــــــــــــــب مــــــــــــــــــــــــــــــــن س ََل ْْم ََــــــــــــــــــــــــى اج ْْت ِِن ََاب ََــــــــــــــــا ) 5( ََــــــــــــــــــــــــر بعد مــــــــــــــــا ش ََابََــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــت وش ََابََــــــــــــــــا ٍٍّوأ ََق ْْص
105 2025 يونيو 308 / العدد
104ٍٍّ النََّاقََة مِِن حيََوََان ص ََح ْْرََاوِِي إِِلىكِِيََان ش ِِعْْرِِي وََثََقََافِِي
Made with FlippingBook. PDF to flipbook with ease