سوق الكتب
الطعام التراثي وتوقف كذلك عند الطعام المرهوب مع البخلاء الذين حاولوا على غرار الطفيليات، هدم مفهوم الكرم الهش، وبناء مفهوم مغالطي يدعو إلى الاقتصاد والإصلاح. وحاول تجميع عناصر متفرقة لتشكيل صورة طعام البخيل وما يُُسيّّجه من حيل متنوعة لصيانته عن الأكلة المتلص ّّصين. وهكذا ظل كتاب «الطعام والكلام: حفريات بلاغية ثقافية في التراث العربي» معنيا بإبراز العلاقة بين الطعام والكلام وفقا لمنظورثقافي منفتح على مقاربات نسقية وسياقية، دون أن يبتعد قيد أنملة عن أثر الطعام في الكلام، بما يمده من تعبيرات مجازية ورمزية تبني جسوار من التفاعل مع محيطنا الواسع، وعن أثر الكلام في الطعام حين يصبح حاملا له ومُُعب اّّر عنه كما في حالة الطعام التراثي الذي أوصلته لنا موائد اللغة. وعب ّّر المؤلف عن أمله في أن يفتح كتابه شهي ّّة الباحثين للتعاون سويا في هذا الطريق، من أجل الكشف عن تشك ّّلات الطعام في خطابات أدبية قديمة وواضحة مثل: خطاب الرحلة، وخطاب التصوف، وخطاب الرواية، من أجل العودة إلى بلاغة أكثر رحابة وأغنى فائدة، هي بلاغة الحياة. قضايا الهوية ويدلنا الكتاب على أن الحديث عن الطعام ليس محصوار في نطاق الثقافة البطنية المبتذلة، بل يحمل في ثنايا مكوناته تاريخ إنساني كامل، تتقاطع فيه قضايا الهوية والغيرية ورؤية العالم وأنماط التواصل الرمزي.
الكلام العربي البليغ تدلنا على عمق الصلة وشدة القرابة بين الطعام والكلام، وأن كتب التراث سجلت لأجدادنا عبارات من قبيل: فلان حلو الحديث، وفلانة لها ذوق راق ٍٍ،... إلخ. كما أشار الكتاب إلى وجود نقص في الدراسات الأنثروبولوجية والسوسيولوجية والنفسية في العالم العربي التي اهتمت بدراسة قضايا المعيش العربي اليومي، وأكد على الحاجة الماسة إلى كتب حديثة تقلب أرض التراث العربي، والكشف عن عيونه المتخفية من خلال بحوث ودراسات تعتمد على رؤى فكرية عصرية. هذا، وقد استعان الكتاب فيما قدمه من مقاربات لموضوع الطعام والكلام، بما حققه البلاغيان الرائدان: الجاحظ، وعبد القاهر الجرجاني، وعلى رؤى البلاغيين المعاصرين، ومعارف أخرى سيكولوجية وأنثروبولوجية وسوسيولوجية ولسانية ودراسات ثقافية، ونجح في مقاربة موضوع الطعام والكلام والإحاطة بجوانبه المختلفة. وبحث في الخطاب الذي يتشابك فيه الطعام بالكلام في تراثنا العربي، علما أن هذا الخطاب كثي ار ما يندس داخل خطابات أخرى، فيذوب فيها، كما يذوب الملح في المرق. سياقات اجتماعية وثقافية ونختتم بما قاله الأكاديمي والكاتب والناقد الدكتور محمد زهير، في تقديمه للكتاب، حيث قال إن كتاب «الطعام والكلام: حفريات بلاغية ثقافية في التراث العربي» للدكتور سعيد العوادي، هو كتاب جامع ومأدبة تجمع بين نطاق الفائدة وروقان المتعة، باستقصائه المستفيض من وفير الكلام عن الطعام مأكوله ومشروبه في التراث العربي، سواء من جهة إضفاءات اللغة على الطعام أسماء ووسوما وصفات وتكنيات، أو من جهة ما قيل أو دوّّن عن الطعام مختصا به أو مُُستعاار منه، أو من جهة ما روي أو كتب من سلوكات وأقوال م ََن كانت علاقتهم بالطعام في حالات البذل أو التقتير أو الشره متخذة نمط حياة خارج المعتاد لدى العموم، ولا تخلو أحيانا من طرافة أو عجب أو استغراب. وأرجع «زهير» كل ذلك الاهتمام الواسع بالطعام في مجال البلاغة ورحاب الثقافة، إلى كون الطعام هو الدم الساري في شرايين الحياة والأساس المادي لشرط قيامها. وأن الكلام في مقام البلاغة يدل على أن الإنسان لا يحيا بالطعام وحده،
وأن مفردتي الطعام والكلام قد تبدو العلاقة بينهما لا تعدو أن تكون علاقة صوتية بديعية، وذلك على غير الواقع الذي ي ُُبي ّّن لنا أن العلاقة بين المفردتين بينهما من الصلات المتوثقة ما يتجاوز الصوت إلى المعنى اللغوي والدلالة الحضارية، وأنه عندما يلتقي الطعام بالكلام يتحقق الدفء الإنساني بمعانيه المختلفة في الحضارات البشرية المتعددة؛ وذلك لأن الطعام ليس مادة تهضم، ولكنها مادة تسعى إلى أن تتكلم، كما لا ينحصر دورها في بناء الذات، وإنما يمتد إلى بناء الحياة. حضارة طعام وكلام ونتعرف من الكتاب على أن الحضارة العربية حضارة طعام وكلام، أي حضارة لسان بمعنييه التذوقي واللغوي، وأن اللسان آلة التذوق الكبرى من جهة، وهو مرادف للغة في مشمولها من جهة أخرى. وأن الطعام والكلام تماهى في الحضارة العربية، وغزته استعارات تصورية طعامية من قبيل الكلام مأدبة، والقارئ إنسان نهم. وأصبح الكرم لا يتحقق بما يقدم للضيف من صنوف المأكولات والمشروبات فحسب، ولكن بما يضاف إلى كل ذلك من كلام طيب يتضمن الترحيب ومستملح الأحاديث. شواهد مطبخية ونوّّه الكتاب إلى ما خلفه تراثنا العربي من كتب بليغة تتناول الطعام، وأوضح أن كثي ار من موائد تراثنا عرفناها عن طريق هذه الكتب. وأن بقايا الطعام التي ظلت مبثوثة في حنايا
وأن مجرى الحياة ومعناها مستدعيان لشبكة تقاطعات مادية ورمزية بها يتحرك المجرى وينبني المعنى، وفي استقطاب تلك الشبكة، ما اصطلح عليه آداب الطعام، ترتيبات وسلوكيات وأقوال تنتظم في مستنقعها حالات تؤشر عليها توصيفات الكريم والبخيل والمتطفل وما بينهما، ونبّّه إلى أن مؤلف الكتاب وقف على أمثلة دالة من تلك الحالات، وما صدر عنها أوارتبط بها من أقوال ومواقف في سياقات اجتماعية وثقافية مختلفة، كان الكلام الدليل البليغ عليها. ي ُُذكرأن الدكتور«سعيد العوادي»، هو أكاديمي مغربي وأستاذ البلاغة وتحليل الخطاب بكلية اللغة العربية في جامعة القاضي عياض في مراكش، يشغل منصب نائب العميد للبحث العلمي والتعاون الدولي، ويدير مختبر تكامل المناهج في تحليل الخطاب. إلى جانب عمله الأكاديمي، ويشرف على برنامج «قطوف أكاديمية»، الذي يستضيف نخبة من الباحثين العرب في مجالي الدراسات النقدية واللغوية. وهو عضوفي لجان تحكيم لجوائزأدبية مغربية وعربية، كما يسهم في تحريرمجلات جامعية متخصصة ويعمل خبي ار ومحكما في عدد من الدوريات العلمية. في مجال البحث، تناولت أعماله العلاقة بين البلاغة والثقافة، حيث أصدر كتبا منها «مطبخ ، 2024 الرواية: الطعام الروائي من المشهدية إلى التضفير» و«الطعام والكلام: حفريات بلاغية ثقافية في التراث العربي» ، إلى جانب دراساته حول بلاغة النص الأدبي، والصورة، 2023 والبديع في الخطاب الشعري كاتب مصري
113
112
2025 يونيو 308 / العدد
) 2025 قراءة في كتاب «الطعام والكلام» الفائز بجائزة الشيخ زايد للكتاب (
Made with FlippingBook. PDF to flipbook with ease