torath 308 - june-2025

النخلة في اللسان الإماراتي: مفردات ومعان

لمدينة العين، وألهمته أغصانها المتشابكة المتضامنة التي توفر الظل والهواء الرطب في كيف يوحد الإمارات السبع، وألهمه تمرها ورطبها وعريشها خدمة العائلة وتأمين رزقها، وألهمته في الصباحات الباكرة وهو يصلي تحتها متنعما بهوائها الرطب كيف يظلل فيها هذا التصحر الممتد إلى ما لا نهاية، وألهمته عندما كان يجلس مع أصحابه ومواطنيه كيف يؤسس للشورى وسياسة الأبواب المفتوحة، وألهمته حين كان يلتقي بالصحفيين بالتحدي الكبير الذي يواجهه في بناء الدولة ومؤسساتها، وعلمته عندما يلتقي برؤساء الدول تحت ظلها وقت الغروب في التحدي الأكبر وموازاة تلك الدول في جعلها على رأس الدول المتحضرة، وألهمه جذعها الطويل أن المعاصرة يجب أن تتحقق في التطاول والتمدد في البنيان والخدمات العامة والتشبث بالجذور، وألهمه ظلها التسامح في أن يمتد لحافها من الظل ليعم الإمارات وكل من يأتيها سائحا أو زائ ار أو مقيماًً، ومنحته جذورها الثبات والتجذر في الأرض ليحافظ على الأصالة وليصمد البناء أمام الريح، ومنحته تربتها العناية بها في أن يقلبها ويعيد لها الماء لتنتج الخضرة والغذاء، ومنحه جمالها حب الخيرفي أن تمتد وتتسع في البيوت والإمارات كلها وتغطي هذا التصحر لتكون الإمارات الدولة الأولى في عدد أشجار النخيل، ومنحه جمالها الفني المزيد من الحب والعطف لتكون نموذجا لبيت العائلة الإماراتي تتزين بها الساحات والطرق وتتطاول العمارات في البنيان تمثيلا لقامتها المنتصبة وتشكّّلت زخارف البيوت من ورقها، ونختصر القول في فكر المغفور له أن النخلة عاشت في وجدانه وفي حياته العائلية والاجتماعية والسياسية وبناء الوحدة والمجتمع، عايشها عن قرب وكانت شريكا له استلهم منها الكثير من العبر والدروس، بل إنها الحياة التي لا نعرف عنها إلا القليل، إنما هي الاكتشافات التي تعيننا يوميا في مكاشفة الجديد عنها. النخلة والشورى أصيلا للتلاقي ا � تجسد النخلة في الثقافة الإماراتية رمز والتشاور، وقد اتخذها المغفور له - بإذن الله تعالى - الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان - طيّّـب الله ثراه - فضاء طبيعيا مفتوحا يلتقي فيه بأبناء شعبه، حيث كانت مجالسه تنعقد تحت ظلالها، بعيدا عن الأبهة الرسمية، في مشهد يعكس

نهجا في الحكم يقوم على القرب من الناس والإصغاء لهم. ٍ، كانت مجالس زايد مشرعة �ٍّ فكما كانت النخلة تعطي بلا من كأغصانها، تستقبل كل من يقصدها بكلمة «يا مرحبا الساع»، تعبيار عن الترحاب والكرم. ويصف الرحالة ويلفريد ثيسجر زايدا في أول لقاء له به جالسا على الرمل تحت نخلة أمام حصنه، يستقبل الوفود من البدو والمناطق المجاورة، يشاركهم الحديث والتمر والقهوة، ويستمع إلى شؤونهم بعين الحاكم وأذن الإنسان. وهكذا تحوّّلت النخلة إلى رمز للمجلس ٍ لفكرة الشورى التي شكّّلت جوهر �ٍّ المفتوح، ومجسّّد حي العلاقة بين القيادة والشعب. حوارات النخلة المفتوحة مع رؤساء الدول والصحفيين وسواهم. كانت النخلة هي المجلس الذي يحب المغفور له الشيخ زايد - رحمه الله - أن يذهب إليه ويستقبل ضيوفه وزائريه والصحفيين والمسؤولين والقبائل، وربما كانت النخلة من بين أكثر الكائنات الشجرية، ولعلها أولها، فرادة فيما يُُنسب إليها من صفات، تميّّزت به في عهد المغفور له الشيخ زايد من حضور متعدد الأشكال، وأصبحت تمثّّل تاريخا دخل في

خارج أسوار المجلس وجلسوا جميعا على الرمال تحت شجرة نخيل باسقة، وحين بادر الضابط بسؤال إلى المغفور له عن توقعاته لمستقبل هذا البلد، مد المغفورله الشيخ زايد عصاه التي يحملها، وحمل العصا تقليد تراثي إماراتي قديم فهي ترمز للإباء والحزم والهيبة والعراقة، وبدأ يخط على الرمال ليجيبه يقول المغفور له الشيخ زايد وهو يرسم بالعصا على الرمال: «أخذت أشير وكأنني في حلم روحي عذب، هنا سيقوم مركز زراعي ضخم، وهنا منطقة صناعية، وهنا محطة كبيرة لتوليد الكهرباء، وهناك في أبوظبي سننشئ ميناء في هذه المنطقة بالتحديد. أما المطارفسيكون في تلك المنطقة، وهنا جامعة، وهنا مستشفى، وهنا قوة الدفاع وهكذا وهكذا..». ومرت الأيام ونسيت الحديث كله حتى جاءني يوما الصديق نفسه بعد أكثر من عشرين سنة ليزورني في أبوظبي، وكان مندهشا مما شاهده وقال لي: «هل تذكر ذلك الحديث الغريب؟ إن كل شيء عينته بني في المكان ذاته الذي حددته، المصانع والكهرباء والمستشفيات والطرقات والمباني الشاهقة والخدمات كلها كل هذا تحقق ولم تكن أحلام يقظة». لم تكن ديمقراطية زايد مجرد نصوص ٍٍمكتوبة في الدستور، بل كانت حقيقة عملية، سواء على

عهدتها قيمياًً. وأكسبها هذا البعد السيري العائد إليها. إنها السيرة الثقافية، حيث تشكلت الحكايات، وكانت المشاهد الحية المؤرشفة في متن التاريخ، وفي الذاكرة الجمعية للذين حضروا مجلسها المفتوح على الصحراء، وما دار فيه من مناقشات تخص بناء الوطن وتلبية احتياجات المواطنين مما يبقيها حاضرة في نفوس أبناء الإمارات. يقول الدكتور كاتسوهيكو تاكاهاشي في مقابلة معه عام وكان يتكئ على ركبتيه بجانب الشيخ زايد الذي يمسك 2008 بخيزرانه ويرسم بحماسة بعض الخطوط على الرمل تحت شجرة نخيل، وهما يخططان معا لبناء «مدينة جديدة تماماًً». ًًا قال لي الشيخ زايد: «أريد شََجار وخََضاارًً» فأعطيته شجر وخ ََضا ار وأكد الدكتور تاكاهاشي أن السنة التي قضاها مع الشيخ زايد مؤسس الدولة الراحل، حول خطط أبوظبي كانت «الأهم، والأكثر شخصية، والأكثر إفادة ومكافأة في حياتي». وخلال العام التالي كان لي لقاء يومي مع الشيخ زايد، وأغلبها وقت المغيب تحت شجر النخيل. ويروي «كرانجينا» الصحفي الهندي - الأمريكي هذه القصة عن المغفور له الشيخ زايد عندما كان حاكما للعين. فقد اصطحب المغفور له - بإذن ًًا الله تعالى - الشيخ زايد الصحفي كرانجيا وضابطا إنكليزيا كبير

31

30

2025 يونيو 308 / العدد

تجليـات النخلـة في فكر الشيخ زايد باعتبارها سيرة حياة ثقافية

Made with FlippingBook. PDF to flipbook with ease