torath 308 - june-2025

إضاءة

الباب رماز وأسطورة وحقيقة وخيالاًً، وسيظل سيظل ًًا تراثا تتشك ّّل منه قيم الناس وعاداتهم أيضاًً، وسنجده موجود ًًا في المخيال الشعبي وفي الذاكرة الجمعية ليس بوصفه جماد من أخشاب وحديد أو كشكل مصمت يحيل إلى مهامه وطباع عمله وطبيعة دوره في الحياة.. لكن الباب تعدى ذلك ليصبح في الذاكرة الشعبية سؤالا للأمان وعبرة للآتي ورماز لقيم وعادات وسلوك، ولقد تنوعت تلك النظرة له من خلال تلك الذاكرة. ففي الأمثال الشعبية التي هي أهم مخزون للموروث الجمعي والشعبي، ورد الباب في صورعدة معنوية كاشفة عن قيم الناس كافة في مجتمعنا المحافظ والودود، الباحث دوما عن الأمان والسلام والرضا والقبول. ومن أهم هذه الأمثال والمثل يكشف عن الباب اللي ييك منه ريح سد ّّه واستريح». « النظرة المجتمعية المسالمة والباحثة عن الأمان والطمأنينة النفسية من دون اللجوء إلى القوة والنزوع نحو العدوانية وشراسة الفعل، فالباب أحيانا يشكل مصدار لدخول الريح في حال اشتداده وهيجانه، والخطر في هذا الموقف لحظة أن يشتد ويطغى على المحيط والإنسان، الباب هنا اتخذ مصدار محتملا لدخول الخطر، ولاحِِظ أن الباب في الأصل للإغلاق والحماية، ولكن في المثل سنلاحظ أنه في حالة فتح، وهذا عكس رسالة الباب في أن يكون مغلقاًً، بمعنى آخر إذا تريثنا وأمعنا بعمق، سنجد أن الفتح الدائم هنا للباب وفق المثل، يعني خصيصة إنسانية وقيمة مجتمعية لدى المجتمع الإماراتي، لأن الباب المفتوح يشير إلى الكرم والعز، وأن أهل المكان في ترحيب دائم للداخل والضيف والقادم، وأن الباب مفتوح للجميع لا راد لمن يأتي طالبا الحاجة أو الأمن والسلام واللجوء، وكان العرب قديما يعلنون عن ذلك بطرق مختلفة، حتى إنهم كانوا يشعلون النارليهتدي التائهون إليهم، وليقدموا لهم يد العون والضيافة، والباب المفتوح في المثل يعني ذلك، وبالتالي فإنه يحيل إلى عنوان مهم في أخلاق الناس وفي قيم الجماعة السائدة، وأن الكرم والترحيب بالأغراب أو الضيوف والجيران أساس ًا في المعاملة المجتمعية والدليل هو الباب الباب سيرة للقيم الإنسانية

المتواصلة مع حركة الإنسان في الدخول والخروج، ولكنها وظيفة تتصل بالوعي الجمعي وبالموروث وبقيم الجماعة الثقافية والدينية والاجتماعية أيضاًً، ومن الأمثال المتداولة ، والمثل «رابع العجار لحد باب بيته» في الإمارات كذلك يعني أن تصادق الكذاب إلى آخر المشوار حتى يتكشف كذبه ونفاقه، وينفضح أمره، والحكمة هنا تعني الصبر وطول البال فالتحلي بالصبر في المواقف أقوم من العجلة على اتخاذ القرار، فالصبر شيمة من الشيم المجتمعية والإيمانية أيضا ًً، والمثل يحض على الصبر وعدم التعجل حتى مع الكذاب من أجل أن يتم الكشف عن كذبه في نهاية المطاف أمام الناس «اتبع والمجتمع، والمثل يتقاطع مع المعنى نفسه في مثل آخر ، الكذاب لباب بيته» وكأن الباب هنا أصبح وسيلة متخيلة لنهاية رحلة افتراضية تؤدي في النهاية إلى التحلي بالصبروالتمسك بعدم العجلة في أبسط الأمور، وهي قيمة مجتمعية تحرص عليها الجماعة في مجتمعاتنا العربية. ومن الأمثلة التي يسهم بها الباب في الكشف عن بعض القيم «الباب يُُوسع الإنسانية التي يتحلى بها الإنسان في مجتمعنا والمعنى أنه يضرب لصرف إنسان أو شخص غير جمل».. مرغوب فيه وإن كان كبير الحجم والرأس وعريض المنكبين كالجمل، ولكن بساسلة أي إن الحكمة ليست متعلقة بالباب بقدرما هي متعلقة بعدم الرغبة في وجود شخص غيرمرغوب بوجوده في المكان. هذه القيم التي تكشفها الأمثال الشعبية المتداولة منذ الأزل البعيد، ترتكن على الباب كونه أحد مفردات المكان المحيط، ويشكل معلما باراز ويمثل قيمة مهمة، حيث إنه الوجاء الأول والفاصل بين عالم الداخل والخارج، ويمثل معب ار مهما بين العالمين. ًًا الباب رمز مهم لحياة الإنسان، بل من أهميته أصبح معبر عن ثقافة الإنسان وقيمه وهويته، وتتعدى رمزيته في الحماية والخصوصية إلى كونه هوية وتراث وسيرة وقيم. الباب حين يفتح يعني في الوعي الثقافي للناس الحرية والكرم والعزة والشموخ والانفتاح على الحياة وعلى الخارج وعلى الآخر، والباب المغلق يعني الأمان في اليقين الشعبي ويعني الطمأنينة والعزلة والابتعاد

شريعة للاحتكام إلى العقل وحسن التدبر، وكيفية مواجهة الأمور وموازنتها، وعوامل التقابل والصد والرفض، الباب رمز للطمأنينة وللسلام، ووسيلة لكيفية تفكير الناس الجمعي، وهو الكاشف عن الموروث الثقافي والفكري للجماعة وأهل «باب المكان، والمثل نفسه تقريبا يتلون في صياغات أخرى «الباب المقفول يرد القضاء ، مثله مثل مردود.. شرمطرود» ، وغيرها من الأمثال التي تؤكد على أهمية الغلق المستعجل» لدرء الشرور والابتعاد عن مواجهتها، والشرور أشكال وألوان مرتبطة بالحيوانات والضواري واللصوص وشياطين الإنس، وحتى تقلبات الطبيعة والجن والشياطين، فالذاكرة الجمعية تهتدي إلى حسن الإغلاق للحماية والحفاظ على المكان من أي احتمالات سلبية أيضاًً. واللافت للانتباه في السياق هو أن القيم المجتمعية للناس تهتدي بالدين وبالحديث الشريف لإعمار وإثراء قيمهم ووجدانهم، فنراهم يراعون قيم الدين والحديث في التعامل مع الأشياء والحوادث كذلك، فلقد ثبت أن هناك أحاديث نبوية شريفة تحث على غلق الباب ساعات محددة اتقاء لأخطارمحددة ذكرتها الأحاديث، تتلخص في دخول الشياطين والجن، فقد أوصى الرسول صلى الله عليه وسلم وحث على غلق الأبواب وقت المغرب وفي الليل خاصة عند النوم، ففي «ضفروا الأبنية وأدكنوا الأسقية وأجيفوا الباب مسند أحمد ،.. والحديث وأطفئوا المصابيح عند الرقاد.. إلخ الحديث» معناه تغطية الأواني وإغلاق الأبواب وإطفاء المصابيح خوفا من خطر اشتعالها. أما التغطية للأواني والإغلاق للأبواب فهي درء وحماية من الشياطين والجن الذين ينتشرون في بداية الليل، ومنعهم من الدخول للأماكن وحماية الطعام والشراب منهم، وفي اليقين الشعبي، فإننا نحمل قيم الدين الماضية على الخير للإنسان وبني البشر، وأن الدين أحد أهم القيم وأساسها لإنماء وإعمار وإثراء القيم الشعبية في المجتمعات العربية والإ لاسمية ومنها الإمارات، فالباب هنا يمثل مدخلا للوعي وفهما لسلوك الناس القيمي وعاداتهم الإنسانية والدينية المرتكنة على الباب ووظائفه التي تتخطى موضوع الحماية المعتادة والوظيفة المتصلة بأحكام الغلق والفتح كغاية للوظيفة الديناميكية

عبد الفتاح صبري روائي وناقد مصري

المفتوح غير المغلق أو الموارب في وجه القادم الطالب يد المعونة والمساعدة. ثم إن هذا الباب المفتوح قد يلزم إغلاقه أحيانا وذلك لخطر أعظم وداهم ومؤقت، فعلينا اتقاء هذا الشر بإغلاق الباب مؤقتا حتى ينزاح الشر وينتهي زمن البلية ووطئها، ففي إغلاق الباب اتقاء للشرورالقادمة المستهد ِِفة أهل السكن أو المكان أوالسكان، والريح هنا لا تعني ريح في مظهرها المادي وحسب، ٍٍر ولكنها تعكس صورة أو دلالة على أي شرور محتملة من ضوا حيوانية أوبشرأيضا ًً، وعلينا اتقاء هجوم هذه الكائنات بإغلاق الباب فقط، نعم إغلاق الباب في وجه هذا الخطر الداهم أو القادم حتى ينجلي ويبتعد. وحكمة المثل ليس الاتقاء فحسب، ولكنها الكشف عن طبيعة الإنسان وسيرته ومجمل قيمه وعاداته أيضا ًً، فإنه في أثناء الخطر إذا تمك ّّنا من تجنبه بلا عدوان أو قتال فلنفعل ذلك، أي إن العدوانية والشراسة ليست صفة أساسية هنا، بل الحكمة واللين ودفع البلاء بأقل الأضرار، مما يعني شريعة الناس التي تتمثل في الاتقاء بأقل الخسائروبحكمة بالغة، والتي تعني الابتعاد عن مكامن الخطر والشرور وإغلاق مواردها ومنابعها أيضا ًً، وإن في إغلاق الباب منعا للبلاء قبل وقوعه أونزوله على أصحاب المكان وهوأساس وحكم في ع ُُرف الجماعة، وليس منتهى الإنسان هو العدوانية والبحث عن الدمار والاقتتال، بل تجنب ذلك ما أمكن. الباب هنا رمز يحيل إلى السلام والطمأنينة المادية والمعنوية، وهو

61 2025 يونيو 308 / العدد

60 الباب سيرة للقيم الإنسانية

Made with FlippingBook. PDF to flipbook with ease