torath 308 - june-2025

سرد الذاكرة

الاقتصاد الحر في أبوظبي السبعينيات: تجارب استثمارية فردية

صحيح أن بعض المشكلات كانت تظهر بسبب سوء التفاهم ِيت لاحقا مع إنشاء �ِّ بين المستثمرين والمواطنين، لكنها سُُو لجنة خليفة، التي موّّلت مشاريع بناء منظمة ورفعت مستوى التخطيط العمراني، وبها نهضت أبوظبي الحديثة، وجعل المواطن يحصل في النهاية على بنايات ضخمة تدرعليه دخلا وفي ارًً. الاستثمار أم الاستقرار؟ أما أنا، فلم أخض تلك المغامرات. تجربتي الصغيرة والفاشلة في البداية، عندما استثمرت مع صديقي علي الصفي في شاحنة نقل الرمل، كانت كافية لتجعلني أحجم عن أي تجربة أخرى. بقيت موظفا راضيا براتبي الشهري، أولا في وزارة ، ثم في وزارة البترول والثروة المعدنية 1975 الإعلام حتى عام ، ثم كمدير لمكتب معالي الدكتور مانع سعيد 1991 حتى عام العتيبة، المستشار الخاص لصاحب السمو رئيس الدولة. ورغم نجاحات أصدقائي، لا أذكر أنني ندمت يوما على عدم دخولي عالم الاستثمار في ذلك الزمن الجميل؛ فقد كنت أنام مطمئنا كل ليلة، لا يقلقني تقلب أسعار النفط ولا يخيفني شبح الركود، واثقا أن راتبي الشهري سيصلني في موعده، مستمتعا بطمأنينة لم يكن المال وحده قاد ار على شرائها إعلامي وشاعر

صغي ارًً، أن يبدأ مشروعه الخاص من دون أن يعترضه عائق ضريبي أو قيود بيروقراطية. الأرباح كلها معفاة من الضرائب، والجمارك تكاد تكون معدومة، مما جعل السوق الإماراتية واحدة من أكثرالأسواق تنافسية في العالم، وجعلها في صدارة وجهات سياحة التسوق؛ فقد كان الناس يأتون من مختلف البلدان لشراء السلع بأسعار لا تقارن، حتى وإن خضعت جمركيا عند عودتهم إلى أوطانهم، كانت تظل أرخص مما لو اشتروها محلياًً. وما يلفت الانتباه أيضا أن الإمارات فتحت أبوابها للأموال بكل حرية؛ يمكنك الدخول والخروج ومعك ما شئت من الدراهم أو الدولارات أو غيرها من العملات، من دون أن يسألك أحد أو يطلب منك تصريحاًً، في وقت كانت فيه مطارات عربية أخرى تشتهربتشديد الرقابة وإثارة الأخبارحول المسافرين الذين يحملون مبالغ كبيرة. الإمارات منذ البداية اختارت أن تكون سوقا حرّّة على مستوى العالم، وقد تجلّّت هذه الرؤية بأبهى صورها في دبي، التي رغم محدودية إنتاجها النفطي، استطاعت بفضل قيادتها أن تتحول إلى مركز عالمي للشركات والمصانع والمؤسسات الكبرى. أما في أبوظبي، فقد اكتشف كثير من الوافدين العاملين في الدوائر الحكومية والشركات الخاصة روعة الفرص الاستثمارية المتاحة. أذكر من بينهم صديقا كان موظفا في دائرة البترول براتب ممتاز، لكنه مع ذلك استثمرفي بناء عدد من الفلل على أراض يملكها مواطنون، يؤجرها لخمس أو سبع سنوات ثم يسلمها لأصحاب الأرض. كانت قيمة الإيجار تغطي تكاليف البناء بل وتحقق له أرباحا إضافية، وهو استثمار أفاد الطرفين: الوافد والمواطن، وأسهم في توسعة رقعة المباني وحل أزمة السكن.

خليل عيلبوني أبوظبي في سبعينيات القرن الماضي تحوّّلا شهدت اقتصاديا لافتا للنظر والانتباه، إذ لم تُُعََد مجرّّد مركز للوظائف واستقطاب القوى العاملة الشابة، بل أصبحت مساحة خصبة للاستثمار الخاص والمشاريع الفردية، بفضل سياسة الاقتصاد الحر التي انتهجتها الدولة. فقد أتاحت القيادة للمواطنين دوار محوريا في دعم السوق عبر نظام الكفالات، الذي مثّّل آلية حيوية لتنشيط الدورة الاقتصادية، إذ وفر للمواطنين موردا ماليا متناميا ًً، مرتبطا بزيادة عدد المشاريع وحجم أرباحها. هذا الانفتاح الاقتصادي لم يقتصر أثره على المواطنين وحدهم؛ بل جذب الموظفين الوافدين أيضاًً، الذين رأوا في بيئة الأعمال المفتوحة فرصة واعدة للمشاركة في مشروعات استثمارية صغيرة ومتوسطة، مما أسهم في خلق ديناميكية اقتصادية متسارعة عزّّزت من تنوّّع الأنشطة التجارية والمالية في الإمارة. يوما خاصا عرض فيه علي 1972 أستعيد من ذاكرة عام ، أن أشاركه في مغامرة صغيرة: علي الصفي صديقي، الأخ شراء شاحنة قديمة وتشغيلها في نقل الرمل والحصى لحساب أحد المواطنين. كان امتلاك الشاحنة رسميا حقا حك ار على المواطنين، لذا لم تكن الصفقة أكثر من استثمار مبلغ من المال لفترة زمنية محددة تعود بعدها ملكية الشاحنة لصاحبها الأصلي. كنت قد جمعت من راتبي مبلغ خمسة وعشرين ألف درهم، وهو بالنسبة لي، آنذاك، «تحويشة العمر»، ثروة

المبلغ علي الصفي صغيرة لكنها ثمينة في نظري. أضاف نفسه، وبدأ بالفعل الإشراف على تشغيل الشاحنة، وراودتني أحلام اليقظة: ها أنا أخي ار من أصحاب المشاريع. لكن تلك الأحلام لم تدم طويلاًً. سريعا ما اكتشفنا أن الشاحنة تحتاج إلى عجلات جديدة، ثم جاء خبرأسوأ: المحرك بحاجة إلى إصلاح كامل. بدأ رأس المال يُُستنزف شيئا فشيئا حتى صعبا لكنه ضروري: إيقاف الخسائر وإعادة ا � اتخذنا قرار الشاحنة إلى المواطن الذي باعها، والذي سارع بدوره إلى بيعها لمواطن آخر. وهكذا انتهت مغامرتنا القصيرة، ومعها تبخرت أحلامنا الصغيرة و«تحويشة العمر»، وترسخ لدي قرار الابتعاد عن المشاريع والاكتفاء بوظيفتي وراتبها، الذي بدا معقولا ومريحا في تلك الأيام. أوفر حظا ًً؛ فقد مفيد مرعي على الجانب الآخر، كان صديقي افتتح مطعما للبيتزا، وإن اضطرلاحقا لإغلاقه بسبب انشغاله بمجاله الإعلامي، إلا أنه حقق نجاحا حقيقيا حين أسس شركة إنتاج تلفزيوني أتاحت له الاستقلال المالي والمهني. أستذكر ، الذي غامر بإنشاء زهير شاهين زميلا آخر من الإذاعة أيضا ًً، شركة لبيع المكيفات وإصلاحها بفضل كفالة أحد المواطنين، الشهيرة، وينتقل من العمل في O General ليحصل على وكالة إعداد نشرات الأخبار إلى ريادة الأعمال، مشرفا على أكثر من ًًا مئة موظف، ومحققا نجاحا لافتا للنظر ما زال اسمه محفور في ذاكرتي بعد كل تلك السنوات. الاقتصاد الحر في ذلك الزمن، كانت الإمارات تجس ّّد معنى الاقتصاد الحر بكل تفاصيله. كان بإمكان أي شخص، مهما كان رأس ماله

89

88

2025 يونيو 308 / العدد

الاقتصاد الحر في أبوظبي السبعينيات: تجارب استثمارية فردية

Made with FlippingBook. PDF to flipbook with ease