| 102
فــي البلــدان المتخلفة له جذور أكثر هيكلية من نظيره في البلدان المتقدمة، بل هي هيكلية باألساس، وما العوامل النقدية في أغلبها سوى مجرد مظاهر وامتدادات لتلك الجذور الهيكلية نفسها، ما يقودنا إلى الفرضية الفرعية، الثانية ترتيبًا، وهى أن ثنائية التبعية والريعية المهيمنة على أغلب تلك االقتصادات المتخلفة هي الجذر التاريخي واإلطار الهيكلي لحالة التضخم المزمنة التي تعانيها، وما العوامل المؤسســية ذاتها سوى نتاج فرعي باألساس لهذه الثنائية. وتتخــذ الورقة من إيران عبر نصف القــرن الماضي نموذجًا تطبيقيًّا للفرضيتين، فما تعانيه من تضخم مزمن، ومفرط أحيانًا، طوال فترة بهذا الطول، هو شــيء ال يمكن اختزاله، وفقًا للفرضية األولى، في مجرد عدم كفاءة السياسات النقدية؛ فال يمكن أن تستمر بالمستوى نفسه من ضعف الكفاءة خمسة عقود إال بوجود أسباب أعمق من أخرى هيكلية ومؤسســية، خصوصًا أنها على كل أهميتها تظل مجرد سياســة نوعية واحدة ضمن سياسات كلية أخرى؛ فال تمثل وحدها وبحد ذاتها متغيرًا مستق ّل تمامًا يكفي لتفسير قائم بذاته لظاهرة مزمنة وبهذا الحجم، بل إنه لَيستلزم هو نفسه تفسيرًا أســبق وأعمق؛ األمر الذي ال يمكن فهمه ســوى في إطار الطابع النوعي والتطور التاريخي لالقتصاد اإليراني بمجمله؛ ما يقودنا للفرضية الثانية المتعلقة بطباع التبعية والريعية وانعكاساتها المؤسسية. استوجب هذا مراجعة بنيوتاريخية لالقتصاد اإليراني، الستكشاف الديناميات الهيكلية والمؤسســية الدافعة لحالة التضخم على المســتويين المناظرين، أي مستوى التنظيم االجتماعــي لإلنتاج بطريقة تكونه التاريخيــة ضمن موقع طرفي تابع لم ينجز مهمة التصنيع المســتقل المتالك ناصية تجديده االجتماعي الذاتي، ثم تعمق تشــوه ذلك التنظيــم اإلنتاجــي بما أصابه من انحراف ريعي نتاج المرض الهولندي الذي أصاب االقتصاد نتاجًا للطفرة النفطية أواسط السبعينات، والتي تحولت لمسار لعنة الموارد على المســتوى اآلخر، مستوى اإلطار المؤسســي، بتعزيزها االنحرافات المؤسسية لدولــة الريع (محدودة التمويل الضريبي) والتخصيصات (التي توزع العوائد لشــراء الوالء وتعزيز المشروعية)؛ بما رتبه من آثار سلبية على السياسات من تفكك لترابطها الدينامي الضروي، فضًل عن انحرافها عن أكفأ االختيارات االقتصادية واالجتماعية من منظور المصلحة العامة طويلة األجل.
Made with FlippingBook Online newsletter