طبع مفهوم الدولة الحديثة الغربية بالتناقض والغموض -حسب راشد الغنوشي- لأن أساسها الفلسفي مادي وقومي، قائم على الصراع، وهو ما جعل تاريخها البشري يُعرف بالإبادات الجماعية، والمجازر البشرية، فلا «حديث عن الاستبداد المتوحش والتدمير البشع والاستغلال الرهيب الذي قامت به الشعوب الأوروبية ضد بقية أمم الأرض منذ عصر نهضتها، حتى لكأن ناطحات سحابها قد شُيّدت بجماجم ودماء وثروات بقية الشعوب المستضعفة، وليس ذلك بغريب عن مفهوم الدولة الإله في التصور الغربي، الدولة السيد الذي لا تعلوه قيمة من القيم ولا يعترف بقانون غير قانونه، فِعلُه الحق وقوله الصدق والمشروعية ما تصدره برلماناته وتنفذه أساطيله ومخابراته وتبثه وسائل إعلامه. إن القهر . ((( طبيعتها التي لا تفارقها ولا سلطان يعلوها» وسلطة الدولة الحديثة واستبدادها، حسب الغنوشي، ليست شيئًا جديدًا، بل مستمدّا من سلطة الكنيسة، لهذا وصفها الغنوشي«بكائن مطلقحلولي، وأنها تطور لسلطان البابوية والإله الذي حل محل الله والمقدس الأعظم الذي يعلو سلطانه كل سلطان. وما فعل الفكر السياسي سوىعقلنة للآلهة القديمة، عقلنة العنفوالنهبوتنظيم الصراع على الغنائم المنهوبة، وتنظيم توزيعها بين النخب بتفويضشكلي محتال عليه من قبل الجماهير التي أتاح لها النهب الرأسمالي لثروات الشعوب المغلوبة أن تُلقي لتلك الجماهير بفتات من الغنائم امتص شحنات غضبها . ((( وثبطها عن الثورة» فتأليه الدولة القومية الحديثة -حسب الغنوشي- واستبدادها، هو الذي أتاح لها القيام بحروب للانفراد بالمجد والثروة، ولو كان ذلك على حساب قيم العدل والحرية، لأن الدولة الحديثة تتضمن في ذاتها مصدر شرعيتها، وهي مصدر لكل شرعية، وليست مسؤولة أمام أحد، ومصدر هذه السيادة المطلقة، غير الخاضعة لأي منطق -حسب الغنوشي- هو «الكبرياء . ((( القومي والرغبة الجامحة في التحرر منسلطان الكنيسة وأمراء الإقطاع والملوك الإطلاقيين» فتم بذلك استبدال سلطة الكنيسة المستبدة، بسلطة الدولة ذات السيادة المطلقة. تغوّل الدولة واستبدادها دفع ثمنه الإسلاميون أنفسهم عندما لفظتهم هذه الدولة، ورفضت القبول بوجودهم زمنًا طوي ً، وهو ما يؤكده الغنوشي صراحة عندما اعتبر أن «المشكل لا يتمثل في رفض الحركة الإسلامية الاعتراف والتعايش مع الدولة أو القبول بالمشاركة ولو جزئيّا فيها، وإنما المشكل، من يقنع هذا الغول المدعوم بأحدث تقنيات القمع . 307 الغنوشي، الحريات العامة في الدولة الإسلامية، مرجع سابق،ص ((( الغنوشي، مبادئ الحكم والسلطة في الإسلام، مجموعة من الباحثين، مأزق الدولة بين الإسلاميين ((( . 98 والعلمانيين،ص . 81 الغنوشي، الحريات العامة في الدولة الإسلامية، مرجع سابق، (((
75
Made with FlippingBook Online newsletter