صورة الدولة الحديثة في مخيال الحركات الإسلامية المغرب وتونس…

فضل راشد الغنوشي، مؤسس«حركة النهضة»، في نشر الفكر الإسلامي بكتاباته الغزيرة التي تعدت حدود المغرب العربي ليصل أثرها إلى تركيا التي نهلت من نبع أفكاره وكتاباته، كما أن لا أحد ينكر دور أحمد الريسوني، مؤسس «حركة التوحيد والإصلاح»، في إنعاش الفكر المقاصدي بكتاباته المتعددة. وقد تشبعت كلتا الحركتين بفكر الإخوان المسلمين في بداية نشأتهما، لكن فكر الحركتين تغير بعد عدة مراجعات نأت بهما عن الفكر السابق، واتجهت بهما نحو التأثر بتجربة الإسلاميين في تركيا، وما حققته من مكاسب اجتماعية واقتصادية. ومن أهم نقط التشابه بين حركة «النهضة» وحركة «التوحيد والإصلاح» سعيهما لتجديد ذاتهما باستمرار، من خلال إنشاء عدة مراجعات طورت مفاهيمهما عن الدولة والمجتمع وعلاقة الدين بالسياسة، والديمقراطية والحريات... مواقف تميزت بجرأة كبيرة، وقد اتجهت في مجملها نحو التوافق والاندماج وكذا الانفتاح على الآخر، ونبذ العنف والصراع، والتفاعل مع قيم الحداثة. ويظهر ذلك جليّا في الجهد الكبير الذي بذلته كل من حركة «النهضة» وحركة «التوحيد والإصلاح» للتفاعل مع خصائص ومميزات الدولة الحديثة، حيث شكّلت مراجعاتهما ثورة فكرية، عصفت بمسلّماتهما السابقة، الداعية لإقامة الدولة الإسلامية على نهج الشريعة، ونبذ قيم الحداثة، واستبدال تطبيق الشريعة بها، بل حرصت كلتا الحركتين على التوافق والتكيفمع مكتسبات الحداثة، وقبلتا بالدولة الحديثة ومؤسساتها، ككيان واقعي، لا مناص من التأقلم مع طبيعته، والسير وفق متطلباته ومستلزماته، ويظهر ذلك جليّا في فصل الحركتين بين الدعوي والسياسي، كاستجابة لأحد دعائم الدولة الحديثة المرتكزة على علمانية متشددة أو علمانية مرنة، حيث بدا من خطاب منظّري الحركتين توافق مع النوع الثاني من العلمانية، مع تأكيد على التمييز بين الدعوي والسياسي. كما بدا هذا التصالحمع الدولة الحديثة جليّا في التراجع عن نقد الدولة الحديثة واستهجانها، والتحول نحو مدحها والإشادة بمزاياها، وأفضال مبادئها السياسية على أمن واستقرار الإنسانية. وبعد أن كان الهدف استبدال الدولة الإسلامية بها، أضحى الهدف التوافق مع طبيعتها ومبادئها والاندماج في مؤسساتها، للنهوض بها اقتصاديّا واجتماعيّا وسياسيّا، من خلال رفع شعار «الوطن أو ً» بدل شعار «الشريعة أو ً». ولدعم هذا التصالح مع كيان الدولة الحديثة، أعادت هاتان الحركتان مراجعة قراءتهما للنصوصالدينية وتجربة العصرالإسلامي الأول لإضفاء المشروعية الدينية على الدولة الحديثة ومبادئها،وذلكلتحقيقالانسجاموالتوافقبينالدولة التييحلمونبتحقيقها وبينطبيعة الدولة التييعيشونفيها، رغمصعوبةذلكنظرًالخصوصيةكلواحدة منها،وقد أحدثهذا الخلطبين الدولة الإسلامية المنشودة وبين الدولة الحديثة بعض التناقضفي خطاب الحركتين، كما جاءت محاولاتالتوفيق بينهماخالية من النهج الإبداعي المؤسّسعلى اجتهاداتعميقة وأصيلة.

87

Made with FlippingBook Online newsletter