صدى المسرح
: » أغنية الوداع « و » الملاذ « صدىالتشظيالإنسانيفيعروض مهرجانأيامالشارقةالمسرحي
ملقن المسرح في المشهد ذاته. يظهر فجأة، من نفس القبو، وكأنه شاهد صامت على كل شيء. وجوده لا يأتي كحدث درامي فقط، بل كرمز آخر لطبقات الظل التي تختبئ خلف وهج الخشبة. تبدأ بينهما حوارات تعكس فلسفة الانتماء، الخيبة، الندم، واستحالة العودة إلى الوراء. عبرهذا الحوارات، يواجه «فاسيلي» قسوته الذاتية، يستدعي صوره القديمة، حبيبته الأولى التي هجرته، أدواره المسرحية التي ظلت محفورة في صوته وجسده. ويتحول الحديث بينه وبين الملقن إلى رحلة بحث عن المعنى، عن جدوى التمثيل، عن جدوى أن يعطي الإنسان حياته لفن قد لا يرده له شيئا في النهاية. ما قد ّّمه العرض كان أشبه بـ «مونولوج داخلي متشعب»، ينهل من طبقات التشظي الإنساني، ويعيد أسئلة المسرح الأولى إلى الواجهة: ماذا يعني أن تكون ممثلاًً؟ أن تعيش حيوات غيرك ثم تنتهي إلى عزلة قبو وصوت بلا جمهور؟. المسرحية باختصار كانت أغنية وداع حقيقية، ليس لحياة فاسيلي فقط، بل لأحلام كثيرة تتكسر على جدران الواقع. وقد استطاع المخرج أن يخلق هذه المساحة التأملية دون أن يسقط في الميلودراما، بل بتكثيف بصري وشعوري رصين. مما يجعل «أغنية الوداع» عملا مؤث ار ينتمي إلى دراما الإنسان الداخلية، ويضيء، ولو للحظة، وجع الممثل في الهامش
إن هذا العرض، بما حمله من دلالات فنية ونفسية، هو شهادة على قدرة المسرح الإماراتي على تقديم نصوص عالمية ًًا بروح محلية وإنسانية خالصة، تؤكد أن المسرح لا يزال ملاذ للقضايا الكبرى، ومرآة صادقة للنفس البشرية في أقصى حالاتها هشاشة وصموداًً. «أغنية الوداع» لتشيخوف ضمن فعاليات أيام الشارقة المسرحية لهذا العام، جاء العرض الثاني في إطارمهرجان المسرحيات القصيرة بمسرحية «أغنية الوداع» للكاتب الروسي أنطون تشيخوف، وهي إحدى القطع الدرامية التي طالما شغلت الخشبات العربية والعالمية، إلى جانب أعماله الشهيرة الأخرى مثل «الخال فانيا» و«بستان الكرز» و«الدب»، نظار لما تحمله من حساسية اجتماعية، وعمق نفسي، وفلسفة إنسانية تستند إلى الواقع وطبقاته. تدور أحداث المسرحية حول شخصية فاسيلي، الممثل المسرحي العتيق الذي أفنى حياته في خدمة الخشبة، ليجد نفسه مع تقدم العمروقد أصبح منسيا ًً، متروكا ًً، ومجرد ظلال باهتة من ماض كان حافلاًً. وفي غمرة هذا السقوط الحر، يصبح الخمر ملاذه، والقبو الخاص بملابس الممثلين مأواه، بعد أن أزاحته عجلة الزمن عن الأضواء ومنحتها لوجوه أكثر شبابا ًً. في هذا القبو، الذي يتحول إلى فضاء رمزي كبير، يسترجع «فاسيلي» ماضيه، يروي لنا فصولا من رحلته الطويلة، يقف أمام ذاته بمرارة ليعلن انكساراته في الحب، في الفن، وفي الحياة. يروي كيف مثل يوما دور «الملك لير» و«عطيل»، ويجسد ذلك أمام الجمهور، وكأن الذاكرة وحدها هي الخشبة الأخيرة المتاحة له. المخرج طلال قبر قدّّم هذا النص بتوظيف بصري دقيق، حيث منح الإضاءة بعدا نفسيا يتناغم مع تدرجات الحوار والتحولات الشعورية لشخصية فاسيلي. الإضاءة كانت شحيحة كما الحياة، موزعة بشكل يوحي بالعزلة والانكفاء، أما الأداء التمثيلي فقد كان عميقاًً، مشبعا بالتفاصيل، ونجح الممثل في جعل شخصية فاسيلي تلامس شغاف القلب، إذ بدا وكأنه يحرث الخشبة بحركاته وتنهيداته، وانكساراته الصغيرة المتراكمة. ومن المفارقات الدرامية الجميلة، ظهور
صالح كرامة العامري هامش فعاليات «أيام الشارقة المسرحية» لهذا على العام، التي زخرت بالعروض الراقية والمبهرة للمسرح الإماراتي، وفي حضورنخبة من النقاد القادمين من مختلف أرجاء الوطن العربي، توقفت عند عرضين مسرحيين مترجمين قُُدّّما ضمن مهرجان المسرحيات القصيرة، وقد حملا بين طياتهما عمقا إنسانيا وفنيا جدي ار بالتأمل والنقاش. ومن بينهما، لفت نظري عرض بعنوان «الملاذ»، المقتبس عن مسرحية «الأول والأخير» للكاتب جون غلزورثي، من إخراج جاسم غريب، حيث شك ّّل تجربة درامية ذات بناء نفسي معق ّّد ومشحون بمشاعر الحب والتضحية والصراع الأخلاقي. تدور أحداث المسرحية حول شقيقين: لاري، الشاب العاشق الذي يرتبط بعلاقة حب قوية مع الفتاة الجميلة واندا، وكث، الأخ الأكبر والمحامي الحازم. تبدأ القصة حين يقتحم لاري مكتب أخيه ليلاًً، حاملا معه اعترافا مدوّّياًً: لقد قتل زوج حبيبته. هذا الاعتراف يصيب كث بالذهول، إذ يجد نفسه فجأة أمام معضلة قانونية وأخلاقية، بين أن يكون ممثلا للعدالة أو نصي ار لأخيه. يُُبنى العرض منذ هذه اللحظة على صراع داخلي متصاعد بين العقل والعاطفة، بين صوت القانون ومشاعر الأخوّّة، حيث يتمسك لاري بقناعته أن ما فعله كان بدافع الحب والإنقاذ، رافضا أي تلميح من أخيه بأن واندا قد تكون استغلته. في المقابل، يحاول كث، بدافع الحب لأخيه، أن يحميه حتى لو
اضطر إلى تزييف الحقيقة. يتصاعد التوتر عندما يقرر كث زيارة واندا، في محاولة منه لكشف ملابسات الجريمة. يجدها تعيش في منزل بسيط، وتفوح من حديثها مشاعر صادقة تجاه لاري، مؤكدة أن ما فعله كان بدافع الحب لا الجريمة. يعيد هذا اللقاء تشكيل قناعات كث، ويدفعه نحو تنفيذ خطة قانونية ملتوية، يقوم من خلالها بلصق التهمة بأحد المشردين لتبرئة أخيه. غير أن الخطة تنقلب على صاحبها، حين يرفض لاري هذا الحل جملة وتفصيلاًً، ويعتبره اعتداء صارخا على العدالة والكرامة الإنسانية. يدخل الأخوان في مشادة قوية، تنتهي بانهيار لاري ورفضه التواطؤ في ظلم شخص بريء. يغادرمنزل أخيه ويهرع إلى واندا، محطم النفس، ليطرح عليها سؤالا يجلجل في أرجاء المسرح: «أين العدالة؟». ينتهي العرض نهاية مأساوية، حين يقرّّر لاري وواندا الانتحار معاًً، هربا من عالم لا يرحم، وواقع لا يمنح فرصة لحب نقي ولا عدالة حقيقية. يضع لاري السم في كأس الشراب، ويقدمه لحبيبته، في مشهد ختامي يحمل وجع الحب وغصة الهروب من الحياة إلى الموت. ما قدمه المخرج جاسم غريب على الخشبة لم يكن مجرد ترجمة لنص عالمي، بل كان إعادة بناء درامي صادم وحيوي، استطاع من خلاله أن يبعث الحياة في النص، ويجعل منه كائنا مسرحيا نابضا بالحس الإنساني والقلق الوجودي. الإضاءة الشحيحة، والحوار العميق، وتعبيرات الوجوه المتوترة، كلها شك ّّلت توليفة مسرحية نادرة، جعلت الجمهور يعيش حالة من التوترالنفسي والانجذاب العاطفي، نحو مصيرشخصيات مسكونة بالحب والمأساة معاًً.
روائي ومخرج سينمائي ومسرحي إماراتي
111
110
2025 مايو 307 / العدد
«الملاذ» و«أغنية الوداع»: صدى التشظي الإنساني في عروض مهرجان أيام الشارقة المسرحي
Made with FlippingBook Digital Publishing Software