إضاءة
الباب تاريخ وجيز للإنسان
التي لا تعد ولا تحصى وتختلف من حي شعبي إلى آخر أو من بلد إلى بلد. والباب كان كاشفا عن قيم الإنسان ونظرته الموقرة للمرأة وحمايتها أيضاًً، كان على بعض الأبواب في المدن العربية القديمة مدقان للنقر إيذانا بوجود ضيف أو غريب على الباب وكان المدق الصغيريدق بصوت مغايرللمدق الكبيرمعلنا عن وجود امرأة ضيفة على الباب، مما يعني أن من يفتح الباب لها لا بد أن تكون امرأة حفاظا على حشمتها وعلى وجلها كونها امرأة ويجب ألا يفتح لها رجل غريب تنكشف عليه. وفي أبواب الشقق القديمة في العمارات والبنايات الكبيرة في المدن العربية المختلفة كان للباب جزء متحرك في منتصف الباب يسمى «شراعة»، وهومغلف بالحديد المتشابك والزجاج الذي لا يكشف عن هوية الطارق، فكانت المرأة تفتح أولا للتعرف والتيقن مََن هذا الضيف قبل فتح الباب، والمعنى هنا من هذه التقنية أنها كاشفة عن سلوك الإنسان الحذر، الذي يجب أن يتيقن من الضيف قبل الفتح والإذن بالدخول إمعانا في التيقين، وهذا سلوك بشري ارتبط بالباب أيضا عبرتاريخه الإنساني. إذا الباب لم يكتف بأن يكون شكلا من أشكال الكشف عن قيم الناس الجمعية ومعتقداتهم، بل ينم على قدرة الفنان الصانع ليعبر عن روح العصر من خلال الأشكال الجمالية والزخرفية التي تضفي الرونق والجمال على الباب من جهة، وتعبرعن روح العصرمن جهة أخرى أيضا ًً. فالباب على مر التاريخ وقبل الوصول إلى العصر الحالي الذي جرد الباب من جمالياته، وجعله عنص ار للحماية والأمن فقط من غيرجمالياته، وهذا تعبيرعن روح العصرأيضا التي تتسم بالسرعة والتجديد وعدم الاهتمام بهذه الجماليات الكلاسيكية التي كانت عبارة عن مجسمات وحفريات وإضافات تتخذ الباب لوحة تتشكل فيها قيم الفن السائد في العصرالذي صنع فيه الباب أو الدار.. ولذلك حينما نطوف في الريف القديم سنجد أشكالا متعددة للباب المزخرف كتحفة فنية أبدعها فنان ربما نّّجار عادي، ولكن يمتلك من الحس الجمالي ما يجعل للباب رونقه المتسق مع فن العصروروحه وقيمه الإنسانية
واللافت للانتباه أن هذه الكتابة تأتي عبر فنان يسجلها بقيم الفن ليضفي نوعا من الجمال والأناقة على الباب المفضي إلى عمق الدار، وليس مجرد كتابة بخط اليد ممكن أن تزول بعوامل الطبيعة، ولكنها ملصوقة من مواد خشبية وربما معدنية، لتبقى مدى حياة الباب تعلوه ببهاء وجمال فني وإبداعي وقيمي. الباب الذي أصبح عبرالتاريخ كاشفا عن قيم الناس في المكان لم يكتف بإبرازذلك بالكتابة عليه، ولكن بوضع بعض الطلاسم والأشكال الكاشفة أيضا عن بعض قيم وعادات وسلوكيات الناس تجاه الحياة وتجاه بعضهم وتجاه متطلباتهم الخاصة. فالباب الذي ارتبط بتاريخ الإنسان المعماري والقيمي أيضاًً، كان أداة للكشف عن تراث الإنسان والبشرية من خلال بعض المعلقات التي يقوم بها صاحب الدار لتكشف عن سلوكه من جهة، ومعتقداته التي يتوخى بها درء المخاطر والحسد والعين وغيرها كما يريد طابعه البشري والجمعي، فمثلا يعلق بعضهم على الباب ما يسمى «خمسة وخميسة»، وهي عبارة عن كف مصنوع من الخشب أو الخزف أو المعدن ليتقي به كما يعتقد عين الحسود أو النظرة الحقودة كما يرى، وبعضهم الآخريعلق «طائر الهدهد» المذبوح والذي يصره في قطعة قماش لأنه في المعتقد الشعبي يطرد الحسد والعين.. إلى آخر هذه الأشياء
الذي صممه الإنسان في إطار احتياجه المعماري الباب والهندسي لبناء شكله منذ فجرالتاريخ ليحتمي فيه، أي المنزل، الذي أخذ مراحل من التطور بما يتناسب وطبيعة الحياة وتطورها أيضاًً، فالإنسان الذي بدأ يسكن الكهوف والمغارات ثم استغل المواد الطبيعية ليبني كوخا يلبي احتياجات الحماية من تقلبات الطبيعة وهجوم الضواري، ورويدا ومع تطورالمباني تطورت صناعة المنازل والدور لتصير وتكون مظه ار من مظاهر تطور الحياة نفسها أيضاًً، حتى وصلنا الآن إلى هذه المنازل الرأسية والأفقية، التي تشكّّل المدن والقرى والكتل السكنية متخذا من تطور الآلة والتقنية واستحداث الأدوات والمواد ليكون البيت على أعلى مستوى من القيمة المادية والمعنوية، ومن ثم ملاءمته للتطور من جهة، وليلبي احتياجات الإنسان المرتبطة بهذا التطورمن جهة أخرى. وكان الباب الذي شك ّّل عنص ار مهما في هذا التكوين المعماري بوصفه مدخلا له، فإنه اكتسب من تطورالعمارة والحياة أيضا مدعاة لتطوره عبر مراحل التاريخ وعبر مراحل تطور العمارة.. حتى أصبح يشكّّل تاريخ الإنسان ويفصح عن سلوكه وقيمه وعاداته من خلال مراحل تطور البشرية وتطور عمارة المدن وحتى عمارة الريف.. وأصبح الباب عنوانا دالا على هوية المكان وعلى قيم من يسكنون المكان الذي يحرسه. الباب الذي يغلق يعني الأمان، ويعني حاجة الإنسان لهذا الأمان، وكاشفا عن سلوك الإنسان، عن الخوف.. الخوف من المجهول والخوف من أضرارالطبيعة، هذه الخصيصة في سلوك الإنسان يكشف عنها الباب لأنه يلبي حاجة بشرية ارتبطت بالإنسان منذ فجر التاريخ، بل إنه أي الباب أصبح مخزنا لفكر الإنسان ورؤاه، وشكل وعيه الجمعي حين لوّّنه الإنسان وأعمل فيه فنه وإبداعه، ليصبح أداة عرض لتراث فني وإبداعي للشعوب. فالباب في الريف القديم أو في الأحياء الشعبية في المدن العربية عبرحضارتها المختلفة في الشام ومصروالمغرب العربي والخليج العربي، سجل حضوره التاريخي كمقياس لمعرفة وقراءة
عبد الفتاح صبري روائي وناقد مصري
عادات السكان وقيمهم الدينية والجمعية وسلوكهم الإنساني، حيث سجلت عليه آيات قرآنية وأمثال وأدعية تفتح المجال للوقوف على تفكيرالسكان، وعلى قيمهم تجاه قضايا محددة.. مثالا تأمل أن يكتب بالتشكيل البارزواستخدام الفن التشكيلي في إبرازآية {بسم الله الرحمن الرحيم}، ظاهرة مرسومة بقطع خشبية صغيرة مدفونة ومصنوعة في قيم جمالية متنوعة من باب لآخر، وربما تدهن بلون مخالف للون الباب إمعانا في إبرازها، فهي أولا تعني هوية الساكن، وثانيا تعني نوعا من الإيمان أيضا بأن كل شيء لا بد وأن يبدأ باسم الله، وأن الداخل لا بد وأن يقرأ وسيردد {بسم الله الرحمن الرحيم} كاستهلال إيماني حميد للداخل، ويحفظ للمكان بركته، وهذا في حد ذاته كاشف على قيمة لدى الساكن تنم عن أن البركة دوما مرتبطة بـاسم الله الرحمن الرحيم، وفي بعض الأبواب كتب عليها «ما شاء الله»، أو«بسم الله ما شاء الله»، وهذا كاشف عن قيمة إيمان الساكن أوأهل الداربأن ما شاء الله رادة للحسد والعين أيضا ًً، لأن ترديدها عند الدخول يكسر عين الحسود، أو يبعد شرور الحاسدين الداخلين، وأحيانا يكتب على باب الدار «يا داخل هذا المكان صلي على النبي العدنان» لدرء الحسد وجلب البركة أيضا ًً، وأن يكون النزول سهلا على أهل المكان من شرالقادمين إليهم.. إلى آخر هذه الآيات أو المقولات أو الأمثال الكاشفة عن قيم أهل الداروعاداتهم وقناعاتهم الدينية أوالثقافية تجاه الغير أو الآخر.
59 2025 مايو 307 / العدد
58 الباب تاريخ وجيز للإنسان
Made with FlippingBook Digital Publishing Software