إضاءة
يمكنك تذكرعشرة أرقام هواتف لأصدقائك وأقربائك؟ هل ( حاول، ستجد صعوبة كبيرة في تذكر تلك الأرقام). في العصرالحديث مع التسارع في أنماط العيش وزخم الحياة في جوانبها كافة، أصبحت عقولنا محاطة بزخم من تدفق المعلومات المتغيرة دائماًً، ما يجعل الذاكرة أحيانا في حالة ارتباك معرفي. وهنا يبرز تساؤل مهم وجوهري حول طبيعة الهوية والذاكرة وعن ماهيتنا وسط هذا التدفق، وهو كيف يمكن أن نحافظ على هويتنا وذاكرتنا الفردية والجماعية في عالم متسارع بلا هوادة ومتغيربلا توقف؟ نحن أمام واحدة من أعقد الإشكاليات التي أفرزتها الحداثة. تكوين هوية الإنسان تتكئ بصورة رئيسية على الذاكرة فهي التي تحتفظ بالتجارب الإنسانية الحياتية التي يعيشها الإنسان وتبني فيه الشعوربالانتماءات المختلفة، وتمنحه المعرفة التي بناء عليها يبدأ في التعرف على ذاته وإدراك مفرداتها. الهوية ليست ثابتا مطلقاًً، بل متغيرة؛ لأنها تتطور وتتغير مع تزايد التجارب الحياتية والمعرفية، سواء كانت هوية فردية أو هوية جمعية. الإنسان يعيش داخل شبكة زمنية مثلثة الأضلاع ما بين اللحظات الماضية واللحظة الحاضرة واللحظات المستقبلية. والذاكرة تشكّّلها لحظات الماضي، لكن مع كل هذا التطور والتكنولوجيا يزداد بقاء الإنسان داخل لحظته الحاضرة، وتتشوش في خلفيته صور لحظات الماضي مع السرعة وزخم الأحداث والتدفق المعرفي من الصور والمنشورات والمقاطع السريعة التي ينتجها الآخرون عبر التطبيقات المختلفة وشبكات التواصل الاجتماعي، ويستهلكها الفرد دون عمق أو تركيزكاف ٍٍ، ونظ ار لهذا الشغف اللحظي والسطحية تتأثرهوية الفرد، وتتسطح مفرداتها ولا تتماسك بما فيه الكفاية لتكوين هوية واضحة المعالم، وقد يتحو ّّل الإنسان عبرتلك المنصات والتطبيقات إلى نسخ متعددة من الذات قد تتنافر أحيانا ًً، ولا يمكن ألا نلتفت إلى أن الفرد في فترة ما من حياته قد صنع تشوش الذاكرة وذوبان الهوية
التكنولوجيا نفسها أيضا في الحفاظ على ذاكرة المجتمع وثقافته من خلال التوثيق والحفاظ على التراث الشعبي رقميا عبر أدوات التوثيق الرقمي، ومن الأمثلة الواضحة في هذا الاستغلال الإيجابي حفاظ "هيئة أبوظبي للتراث" على هدفها الرئيسي وهو "الحفاظ على التراث والتقاليد الإماراتية وترسيخ الهوية الرقمية" وما يقدمه الأرشيف الوطني في دولة الإمارات العربية المتحدة من عمل لتوثيق الهوية الإماراتية أيضاًً. نحن نعيش حاض ار يسير بسرعة الضوء، وتبهت الصور قبل أن نفهم تفاصيلها، ويُُستهلك الإنسان كما تُُستهلك الأخبار المتسارعة لذا نحن في حاجة ملح ّّة لاستعادة الذاكرة الواعية والهوية الراسخة التي تبني حجار على حجر فهي لا تولد من العدم، بل تأتي نتاج تراكم سنوات عميقة في التاريخ. ويقف الفرد أمام تحديه الأكبر في العصر الحديث وهو كيف نرسخ شخصيتنا وذواتنا في عصر كل شيء فيه قابلا للتغير المتسارع، ونترك خلفنا أث ار راسخا لا تمحوه السرعة، وتبقى ملامحه الهوياتية واضحة المعالم والخطوط
الواصل إلى العقول، وفي ظل هذه العولمة الرقمية تتعرض الثقافة المجتمعية إلى الطمس والتراجع أمام نمط ثقافي عالمي استهلاكي؛ مما يعرض الثقافات المختلفة إلى حالة من الإبادة الثقافية ومحو الذاكرة المجتمعية. نحن أمام إشكالية تاريخية عميقة، وكلما التفتنا بعيدا عنها زاد تأثيرها السلبي على الهوية والذاكرة التاريخية للمجتمع، وازدادتا في الذوبان. وهنا يبرز دور الوعي وتنمية إدراك الفرد لطبيعة تلك التحديات فالفرد هنا هوالعنصرالفاعل في مقاومة تلك التحديات. وتبدأ الخطوة الأولى في تنمية العقل النقدي عند الأجيال الناشئة وترسيخ مبدأ ألا نكون مجرد مستخدمين للتكنولوجيا وشبكات التواصل الاجتماعي، بل لا بد للأفراد من أن يدركوا بوعيهم النقدي آثارها الجانبية السلبية وتفادي السقوط في فخ تشوش الهوية وازدحام الذاكرة السطحي، وأن يكونوا قادرين على التمييز ما بين الحقيقة ووجهة النظر وتنمية شغف البحث العميق عن المعرفة، وهذا دور رئيسي للأسرة أولا ثم للمؤسسة التعليمية ثانياًً. ويمكن استخدام
شريف مصطفى محمد كاتب مصري
شخصيتين أو أكثر عبر صفحات التواصل الاجتماعي، وأدخل نفسه في دوامة صراع داخلي بين ما هو عليه فعليا وبين الصورة التي صد ّّرها للآخرين عبرتلك الذوات الهشة من خلال شبكات التواصل الاجتماعي، وتتداخل التجارب التي يعايشها بتلك الشخصيات في الذاكرة، وتربكها وتصبح الذاكرة الرقمية هي دليلنا في السير عبر تلك الدروب المشوشة. ذاكرة المجتمع قديما كانت تنتقل من جيل إلى جيل عبرالسرد الشفاهي والعادات الموروثة والمفاهيم المجتمعية المسيطرة على ثقافة المجتمع. ومع التطوروالتسارع التكنولوجي أصبحت الذاكرة رهينة المنصات والتطبيقات والهواتف المحمولة قبل أن تكون راسخة في عقل الفرد وبالتبعية في العقل الجمعي للمجتمع. هنا تأتي خطورة التشوش الذي يمكن أن تعيشه الذاكرة والهوية في التوقيت نفسه؛ مما ينعكس على قوة الهوية الثقافية للمجتمع ورسوخها. كما أن السرد التاريخي لذاكرة المجتمع كان يصاغ عبر مؤسسات موثوق بها كمؤسسات الدولة والمدارس والجامعات والمؤسسات البحثية الرصينة، لكن اليوم مع جولة صغيرة عبر شبكات التواصل الاجتماعي سنجد أنفسنا أمام سرديات متعددة ومتباينة تختلط فيها الحقائق مع الآراء ووجهات النظر والتزييف، وقد نصل إلى مرحلة إعادة كتابة التاريخ، وقد تُُمحى أحداث تاريخية، ويُُش ََك ََّك في كل سردية تاريخية، وتتحكم خوارزميات تلك المنصات في التدفق المعرفي
93 2025 مايو 307 / العدد
92 تشوش الذاكرة وذوبان الهوية
Made with FlippingBook Digital Publishing Software