جلساء التراث
الصليبية»، كما جاءت على لسان الرئيس الأمريكي الأسبق «جورج بوش الابن»، الأمر الذي أعاد العلاقة بين الغرب الصليبي والعالم الإسلامي إلى حملات وحروب تعود إلى ما يزيد على تسعة قرون، وما حملته من اضطراب في العلاقة، احتفظت بها الذاكرة الجماعية من الطرفين لقرون. هكذا إذن عادت من جديد ذكريات الحروب المقدسة القروسطيََّة التي شنها الغرب على العالم الإسلامي، وأنعشتها الاضطرابات التي بدأت من خمسينيات القرن الماضي، كما ترى الكاتبة، وهي التي نعيشها اليوم أيضاًً، وآخذة في التمدد لدرجة أنها قد تخرج عن النطاق المحلي لتغدو ذات بُُعد عالمي. تتعمق الكاتبة في طرحها لمسألة مهمة تتعلق بوجود أصحاب الأديان الثلاثة - الإسلام، والمسيحية، واليهودية - في فضاء واحد، بلغ الصراع فيه حده الأقصى، نتيجة الاختلاف حول الأحقية في الأرض، دون النظر إلى الجامع بينهما، حتى إن اللََّذين عملا من أجل تعايش بعد جنوحهما للسلام قُُتلا من طرف عناصرمتطرفة من شعبيهما، والمقصود هنا الرئيس المصري الأسبق محمد أنورالسادات، ورئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين. وعلى خلفيََّة الصراع من أجل الأماكن المقدسة، وقبله وبعده الأرض، تشتعل الحرب، الأمر الذي يظهر عدم نسيان ميراث الحروب الصليبية، على النحو الذي جاء في قول كارين «كثي ار ما يخيل إلينا أننا قد هجرنا وإلى الأبد، آرمسترونغ: في عالمنا العلمي والعلماني السّّائد، حملات وعصبيات دينية غابرة، من قبيل التعلق بالفضاء المقدس، لكن يبدو ما زال بوسعه أن يحمل الناس على )3( أن الواقع الملتهب ممارسة العدوان والعنف، تماما مثلما كان يفعل فيهم . حديث الكاتبة هنا يعيد تذكيرنا ) 4( زمن الحملات الصليبية» بتبعات الميراث المشترك بما يحمله من صراع وعنف، يتجدد اليوم، باعتباره حربا مقدسة، وهو ما ترفضه بجدية وموضوعية، ومشاركة إنسانية، تسعى فيها إلى تحقيق فهم متبادل بين الأديان، وهو ما سمته بـ«الرؤية الثلاثية»، التي كانت قضيتها الكبرى على طول صفحات الكتاب. نهاية عصر «السراسنة» لم تكتف كارين آرمسترونغ بالدراسة النظرية للحرب المقدسة، كما روتْْها كتب التاريخ سواء عند الغرب أو لدى المسلمين، إنما دعتها بمتابعة ميدانية، وذلك حين أمضت
م لإجراء أبحاث، 1983 بعضا من الوقت في فلسطين عام وإعداد سلسلة تلفزيونية على المسيحية المبكرة للقناة البريطانية الرّّابعة، وأثناء وجودها هناك، اكتشفت أنها المرة تلو المر ّّة وجها لوجه مع الحملة الصليبية، وذلك حين طالعتها كنائس وقلاع ومدن بأكملها بناها الصليبيون، وتعترف الكاتبة «لأول مرّّة أصبحت الروح الصليبية حقيقة تاريخية قائلة: . ) 5( ملموسة بالنسبة لي» ولأن تلك الشواهد لا تزال قائمة، فإن الحملات الصليبية من ناحية الحضور والتأثير لم تكن خافية في أدق تفاصيلها على الإسرائيليين والفلسطينيين، وعلى أساسها يتم الصراع بينهما على الأرض اليوم، مع أن المسألة رغم طابعها الديني، لم يعد ينظر إليها كما في الحملات الصليبية من زاوية القضاء على ًًا اِز كبير �ِّ »، أولئك الذين شغلوا حي Sarrasins» (6 ( السراسنة من فكر الكاتبة بناء على نطاق مفاهيمها الغامضة حولهم.. تلك المفاهيم المستمد ّّة من دروس تاريخ العصور الوسطى الأولى، كما ذكرت الكاتبة. وفي محاولتها فهم ما يحدث على الأرض الفلسطينية من وجود لأهل الديانات الثلاث، وخلفية الصراع سعت الكاتبة إلى التأسيس لأطر معرفي ََّة جديدة، لا تلغي الخلفية التاريخية للحروب المقدسة من حيث الاعتراف
بالمعاناة التي تراكمت عبر قرون، ولا تزال مؤثرة وحاضرة إلى الآن، إنما تولي الاهتمام للدرس منها ليس بعدم تكرارها فقط، لكن، وبوجه خاص، العمل على التعايش. على خلفية ذلك بي ََّنت الكاتبة - في اختصار لا يخل بالشرح والتفسير برؤيتها «سأحاول أن أقيم عرفاًً، أطلق التفصيلية في كتابها - الآتي: عليه اسم (الرؤية الثلاثية)، فعندما نسعى إلى أن نكون موضوعيين، عادة ما نقول: إننا نريد أن نرى وجهََي المسألة كليهما، لكن في الصراع الطويل هنا بين الديانات الثلاث، هناك ثلاثة وجوه وليس وجهين فقط، وعند كل نقطة سأحاول أن أتناول موقف ووجهة نظر اليهود والمسيحيين ، وهكذا فعلت حقاًً، فجالست التراث ) 7( والمسلمين..» الإنساني في بعده الديني عبر الحملات الصليبية، وقدمت قراءة معاصرة في وجهات أصحاب الأديان الثلاث، وخلفيات الصراع بينهم، وأخرجتهم من دائرة الثنائية إلى عالم الثلاثية، وهي نظرة جديدة لطبيعة الصراع في منطقتنا كاتب وصحفي - الجزائر الهوامش والمصادر: م).. 1944 نوفمبر 14 » (من مواليد Karen Armstrong - «كارين آرمسترونغ 1 مؤلفة وباحثة تاريخ وأديان بريطانية.. كانت راهبة كاثوليكية لمدة سبع سنين،
لكنها تركت هذا المذهب، وفضلت التصوف المسيحي، بدأت الكتابة وإعداد م شاركت في فيلم وثائقي من 1983 م، وفي عام 1982 برامج تلفزيونية منذ عام م في سلسلة 1996 ست حلقات عن حياة القديس بولس، كما شاركت في عام ».. لها كتب عدة في مقارنة الأديان، وأخرى Genesis تلفزيونية عنوانها «التكوين عن الإسلام، ومن مؤلفاتها المترجمة إلى العربية: حقول الدم.. الدين وتاريخ العنف، والنزعات الأصولية في اليهودية والمسيحية والإسلام، وتاريخ الأسطورة، ومعارك في سبيل الإله، ومحمد نبي لزماننا، ومسعى البشرية الأزلي - الله لماذا؟، والله والإنسان، وتاريخ الكتاب المقدس، والقدس - مدينة واحدة عقائد ثلاث، وسيرة النبي محمد. م 2005 - صدرالكتاب في ترجمته العربية عن دارالكتاب العربي، بيروت، لبنان، 2 - حديث الكاتبة هنا كان في زمن الانتفاضة الفلسطينية نهاية القرن الماضي، 3 وقد اعتبرته واقعا ملتهباًً، لكن لا ندري وصفها للواقع الراهن في فلسطين، بعد طوفان الأقصى وما بعده. - كارين آرمسترونغ، الحرب المقدسة.. الحملات الصليبية وأثرها على العالم 4 . 11 م، ص 2005 اليوم، ترجمة سامي الكعكي، دارالكتاب العربي، بيروت، لبنان، . 14 - المرجع السابق نفسه، ص 5 ».. كلمة لاتينية، أطلقها «الإفرنجة» على العرب والمسلمين Sarrasins - «سراسنة 6 باعتبارهم كفا ار (خارجين عن العقيدة المسيحية)، هذا على المستوى الاصطلاحي، أما لغويا ًً، فإن بعضهم يعتبرأصلها مشتق ّّا من اسم «سارة» زوج النبي إبراهيم عليه السلام، على الرغم من أن العرب من ذرية «هاجر». . 17 - كارين آرمسترونغ، الحرب المقدسة، مرجع سابق، ص 7
97
96
2025 مايو 307 / العدد
قراءة في كتاب «كارين آرمسترونغ» «الحرب الم ُُقد ّّسة».. دراسة جادّّة لتحقيق «الرؤية الثلاثية»
Made with FlippingBook Digital Publishing Software