التقرير الاستراتيجي 2025

يبحث الكتاب معضلة الفراغ الاستراتيجي والتجزئة (1971- 2018)) فيما يقوم بين دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية من علاقات قبل إنشاء المجلس وبعد تأسيسه. كما يتناول مسارات التعاون والصراع في تلك العلاقات، وتطورها خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين، ومطلع الألفية الثالثة، وكذلك العوامل المحلية والإقليمية والدولية التي أثَّرت وتؤثر فيها سلبيًّا أو إيجابيًّا. ويسعى الكتاب لمؤلفه، الدكتور محمد صالح المسفر، بصفة عامة إلى محاولة فهم العلاقات الخليجية-الخليجية وتقييمها في إطار التداخل بينها وبين السياسات الإقليمية والدولية ودراسة اتجاهاتها والبحث في مصير الدول الخليجية.

مركز الجزيرة للدّّراسات

مراجعة الاستراتيجيات المتصارعة في ضوء الحرب على غزة والتغيير في سوريا

التقرير الإستراتيجي 2025-2024

٢٠٢5 فبراير/شباط

7 .......................................................................................................................................... مقدمة 13 ................................................... المقاومة الفلسطينية: العودة إلى استراتيجية الصمود شفيق شقير 21 ........... إستراتيجية إسرائيل: القضاء على المقاومة وإعادة تشكيل النظام الإقليمي شفيق شقير 29 ................................ : إعادة ترتيب الصفوف والأولويات " محور المقاومة " إيران و فاطمة الصمادي حــزب اللــه: الخروج من تداعيــات الحــرب والتكيف مع التحــولات الداخلية 39 ............................................................................................................................... والخارجية شفيق شقير 47 .......................................... أنصار الله وحرب غزة: دعم مؤثر وانخراط غير مسبوق محمد عبد العاطي 53 ...................... العراق: مواجهة تداعيات الحرب على غزة وتغيير النظام في سوريا لقاء مكي 61 .......................... سوريا الجديدة: تغيير النظام وإعادة رسم خريطة القوى الإقليمية الحواس تقية 71 ............... الولايات المتحدة في الشرق الأوسط: تفريق الحلفاء وتقريب الخصوم الحواس تقية

5

مقدمة ، التي نفذتها كتائب القسام التابعة لحركة " طوفان الأقصى " لا تزال تداعيات عملية ، تتفاعل 2023 حماس، في السابع من أكتوبر/تشرين الأول – المقاومة الإسلامية وتلقي بظلالها على مواقف الأطراف المعنية، على اختلاف مواقعها، وتؤثر في سياساتها وفي استراتيجياتها. فهذه الحرب، في سياقها التاريخي والجيوسياسي، ليست مجرد صراع عسكري بأهداف محدودة، بل هي ساحة مفتوحة لصراعات استراتيجية بين قوى دولية وإقليمية ومحلية. ولا يمكن فهم الكثير من التطورات الجارية في المنطقة بمعزل عن تلك الاستراتيجيات وأهدافها القريبة والبعيدة. استراتيجيات حركات المقاومة الفلسطينية " طوفان الأقصى " لقد طالت تأثيرات في غزة والضفة الغربية وغيرها من الســاحات. وطالت اســتراتيجية الاحتلال الإســرائيلي في صراعه مع الفلســطينيين، وعلى جبهته الداخلية، وعلى الصعيد ، الذي تقوده إيران، والذي تحوّّل " محور المقاومة " الإقليمي. وطالت استراتيجية مــع بداية الحرب على غزة إلى جبهات إســناد متعــددة ومتفاوتة القوة والتأثير في كل من لبنان والعراق واليمن، ولكنه تحرّّك وكأنه ينازل إســرائيل في ساحة واحدة. وليست الاستراتيجية الدفاعية الإيرانية ونفوذ طهران الممتد في المنطقة بمنأًًى عن هذه التأثيرات، فقد كانت إيران لاعبا رئيسيا في هذه الحرب، مباشرة وبأشكال غير مباشرة. في ذات السياق، ينبغي فهم التغيير الذي جرى في سوريا. فهو، إلى جانب كونه استكمالا لمسار ثورات الربيع العربي، لم يكن بعيدا عن تداعيات طوفان الأقصى، ولا عن التنافس بين عدة اســتراتيجيات متشــابكة في الإقليم، أبرزها الاســتراتيجيات التركية والروســية والإيرانية والأميركية. ومثلما تصارعت تلك الاســتراتيجيات في الســاحة السورية على مدى أربعة عشر عاما من عمر الثورة، اســتمر صراعها بعد ســقوط نظام الأسد، وإن اختلفت مواقعها ومواقفها وأدوارها وعلاقاتها بالداخلي السوري. أمــا الدول العربية، فتبــدو في عمومها خارج معادلة الصــراع الراهنة. وأغلب مواقفها إما تابعة أو منسجمة مع هذه الاستراتيجية الإقليمية أو تلك، ولا تتحرك من منظور عربي استراتيجي واحد. وفي ذلك دلالة على أن تغييرا عميقا حصل

7

في علاقة الموقف العربي الرسمي بالقضية الفلسطينية، وفي قدرته على تحديد مســتقبل الصراع العربي الإســرائيلي. ما ظل ثابتا منذ معاهدة كامب ديفيد، في نهاية سبعينات القرن الماضي، هو الانقسام حول العلاقة مع إسرائيل بين خياري التطبيع من جهة، والمقاطعة أو المقاومة من جهة أخرى. وقد تحوّّل هذا الانقسام إلى عامل توهين داخلي يشق وحدة الصف الفلسطيني ذاته. على المســتوى الدولي، رغم الدعم الذي قدمته الولايات المتحدة لإســرائيل خلال الحرب، ورغم استمرار اعتماد الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط على فكرة التفوق المطلق لإســرائيل والهيمنة الإقليمية على دول المنطقة، فقد بدأت هذه الاستراتيجية تخضع للمراجعة والتساؤل عن جدوى الدعم اللامحدود لكيان عاجز عن الدفاع عن نفسه فضلا عن تأمين حلفائه. فرغم ما قدمه الغرب الأميركي والأوروبي من سلاح وذخيرة ومعلومات ومواقف سياسية، لم تتمكن إسرائيل من حسم معركة واحدة، لا في غزة ولا في الضفة، ولا على حدودها الشــمالية مع حزب الله، ولا هي أخضعت جماعة أنصار الله في اليمن. ومع اســتبعاد حدوث تغيير جوهري في هذا الدعم في المدى المنظور، خاصة مع صعــود اليمين واليمين العنصري المتطرف على الجانبين، لا ينبغي الاســتهانة بقيمــة الحركة الاحتجاجية التي اخترقت، لأول مرة، مؤسســات صناعة الفكر والرأي والذوق في الغرب، وتحديدا في الولايات المتحدة الأميركية. ، قراءة 2025 - 2024 يقدم التقرير الاســتراتيجي لمركز الجزيرة للدراسات للعام فــي اســتراتيجيات القوى التي انخرطت في الحــرب على غزة وفي التغيير في ســوريا، دولا وجماعات ومحاور إقليمية. في هذا الســياق، يســتعرض التقرير أبرز مرتكزات تلك الاســتراتيجيات وأولوياتها وأهدافها الرئيسية، ويراجعها في ضوء التطورات التي شــهدتها المنطقة، ليقف على مدى تماســكها وتقدمها في تحقيــق أهدافهــا، أو تعثرها وإعادة صياغتها من جديد. وتخلص الأوراق، التي تشكل مادة هذا التقرير، إلى أن جميع الاستراتيجيات، رغم اختلافها، لم تصمد في وجه الأحداث العاصفة، ســواء في غزة أو في ســوريا، وأنها كلها شــهدت تعديلات وحاولت أن تتكيف مع مقتضيات التطورات الجارية. ولا يمكن الجزم بــأن قــوة واحدة من القوى المتصارعة قد حققت أهدافها كاملة، فالجميع تقدم

8

في مواضع وتراجع في مواضع أخرى. ويتوقف نجاح استراتيجيات تلك القوى في المستقبل على قدرتها على الاستفادة من الفرص المتاحة وتفادي المخاطر المحدقة أو التقليل من آثارها السلبية. يبدأ التقرير باستعراض استراتيجية المقاومة الفلسطينية، التي أقدمت على تفجير ، بكل ما حملــه من تداعيات على الوضع الفلســطيني من " طوفــان الأقصــى " ناحية، وعلى المشروع الصهيوني في ظل التوزانات الإقليمية من ناحية أخرى. فيراجع أهداف عملية الطوفان ويرصد وما حققته من نتائج على المدى القريب، ويستشرف ما يمكن أن يتحقق لاحقا على المديين المتوسط والبعيد. فقد كانت غزة، على مدى عام وأربعة أشهر، ساحة الحرب الرئيسية، ومحكا داميا لمنازلة استراتيجية غير مسبوقة بين المقاومة وحاضتها الشعبية الصامدة، وبين الاحتلال الساعي لاقتلاعها وابتلاع القطاع وتهجير سكانه وتصفية القضية الفلسطينية. في إطار هذه المنازلة، وفي ضوء بنود اتفاق إطلاق النار بين الجانبين، يمكن القول إن المقاومة حققت من أهدافها بقدر ما فشل الاحتلال في تحقيقه من أهداف. علــى الجانب الإســرائيلي، لا ينبغــي النظر فقط إلى الأهداف المباشــرة التي ، " طوفان الأقصى " أعلنتهــا حكومــة نتنياهو في حربها الانتقامية ردّّا على عملية والتي فشــلت في تحقيقهما فشلا ظاهرا، وهما القضاء على المقاومة عســكريا وسياسيا واســتعادة الأسرى بالقوة. فخلف هذين الهدفين تكمن أهداف أخرى تعديلات 2004 ترتكز إليها الاســتراتيجية الإســرائيلية التي شهدت خلال العام متتالية، مع طول أمد الحرب وامتدادها إلى ساحات أخرى. فقد سعت إسرائيل من خلال هذه الحرب إلى تأكيد تفوقها المطلق على الصعيد الإقليمي، وتعزيز قوتها الردعية على مختلف المستويات، وضمان أمنها في الداخل والخارج، مع القدرة على القتال المتزامن على عدة جبهات، ومنع تكرار ســيناريو السابع من أكتوبر سواء من الداخل الفلسطيني أو من عدو خارجي مثل إيران. على كل هذه المستويات، لا يبدو أن الاستراتيجية الإسرائيلية قد حققت أهدافها، أو حسمت معركة لصالحها بشكل نهائي. سواء في الحرب على غزة أو في الساحة السورية، كانت إيران لاعبا أساسيا. ففي الحرب على غزة، حاولت إســناد المقاومة بتنفيذ استراتيجية متعددة الجبهات،

9

. وقد لعب هذا المحور دورا ملحوظا " محور المقاومة " عبــر ما أصبح يُُعرف بـ في إرباك اســتراتيجية إســرائيل ودفعها لتوزيع قواتها وتقسيم مجهودها الحربي بين غزة وجنوب لبنان واســتهداف بعض المواقع في اليمن. لقد تكبدت إيران خســائر، خاصة في صفوف حليفها الأساســي حزب الله اللبناني، ولكنها في المقابل نجحت في تفادي توسع الحرب إلى نزاع إقليمي كان يمكن أن يحولها هي ذاتها إلى ســاحة حرب لا يمكن تقدير نتائجها. أما في ســوريا، فإن خسارة إيران كانت أكبر، فقد تلقت بسقوط نظام الأسد، ضربة موجعة لمصالحها هناك ولنفوذها الإقليمي واستراتيجيتها الدفاعية. ، وبعد مراجعة اســتراتيجية إيران باعتبارها القائدة " محور المقاومة " على صعيد والراعيــة، ينظر التقرير في الأدوار التــي لعبتها مكونات المحور الأخرى، بدءًًا بحــزب الله في لبنان، مرورا بجماعة أنصار الله في اليمن، وانتهاء بالجماعات المســلحة فــي العراق. فقد اختلفــت تلك الأدوار وتفاوتت قــوة وتأثيرا، كما اختلفت النتائج على كل جبهة. فلم يكن انخراط حزب الله على الجبهة الشمالية لإسرائل بحجم انخراط الحوثيين أو الجماعات العراقية. في المقابل لم يكن ما أصاب الحزب من أضرار بشــرية وعســكرية بالغة أثرت في استراتيجيته ودفعته لتعديل أهدافه، يوازي ما أصاب بقية مكونات المحور. فــي تعامله مع الحرب الإســرائيلية، اعتمــد حزب الله اســتراتيجية من ثلاثة لإسناد غزة " محور المقاومة " مستويات: الأول، ضمن استراتيجية أكبر انتهجها من خلال تعدد الجبهات. والثاني، في ســياق المواجهة المباشــرة مع إسرائيل، دفاعا عن مواقعه وحاضنته عندما اختارت إسرائيل توسيع نطاق عملياتها باتجاه الجبهة الشــمالية. أما المستوى الثالث، فيتعلق بكيفية الخروج من الحرب على جبهتي الإسناد والمواجهة المباشرة. لاشك أن الحزب قد حقق بعضا من أهدافه باســتنزاف إســرائيل لأشهر، ودفعِِها لتحريك جزء من قواتها إلى جبهة الشمال، وتكبيدها خسائر مهمة في العديد والعتاد، ما اضطرها، في نهاية المطاف، لعقد اتفاق لوقف إطلاق النار، دون أن تتمكن من القضاء على ما تعدّّه تهديدا أمنيا اســتراتيجيا على جبهة الشــمال. ورغم ما حققه الحزب من ردع متبادل، إلا أن خسائره كانت باهضة، ليس فقط في هذه الحرب، بل أيضا في سوريا، التي فقد فيها حليفا استراتيجيا وجسرا أساسيا للإمداد يصعب تعويضه.

10

على الجبهة الجنوبية، انخرطت جماعة أنصار الله مبكرا في حرب إسناد غزة، دفعة من الصواريخ الباليستية 2023 فأطلقت في نهاية شهر أكتوبر/تشرين الأول والمجنحة، وأرسلت سربا من الطائرات المسيّّرة، استهدفت مواقع مختلفة داخل إسرائيل. لاحقا، بدأت باستهداف السفن الإسرائيلية، ثم كل السفن المتجهة إلى موانئ إسرائيل، قبل أن توسّّع عملياتها خارج البحر الأحمر، لتشمل أهدافا في بحر العرب والمحيط الهندي والبحر المتوســط. نفذت الجماعة اســتراتيجيتها في إســناد غزة عبر خمس مراحل تصعيدية، كانت أولاها في ذات الشهر الذي . ورغم أن انخراط الحوثيين 2024 انطلقت فيه الحرب، وآخرها في يوليو/تموز في الحرب لم يغير من مســارها، إلا أن عملياتهم كان لها أثر بالغ على حركة الملاحة والتجارة الدولية، ما جعل منهم فاعلا أساســيا ولاعبا مؤثرا في معادلة الأمن الإقليمي. على الجبهة العراقية، انخرطت في حرب الإسناد جماعات مسلحة تحت مظلة . ورغم تعدد " محــور المقاومة " ، جزءًًا من " المقاومــة الإسلامية في العــراق " الجماعات المنضوية تحت هذه المظلة، لم يكن لعملياتها المتقطعة تأثير ملموس على مسار الحرب. ويبدو أن انخراط تلك الجماعات في الحرب كان أثرها على الداخل العراقي أكبر. فقد أثار جدلا واسعا وتسبب في انقسامات حادة بين دعاة المشاركة العسكرية دعما للمقاومة الفلسطينية، ودعاة الاكتفاء بدعم الفلسطينيين سياسيا وإعلاميا، وتجنب الدخول في صراعات المنطقة. ونظرا لهشاشة الساحة السياسية العراقية، فقد عمّّق ذلك الجدل المشكلات المزمنة ووس ّّع هوة الخلاف بين القوى السياسية والاجتماعية. ويُُتوقع أن تشكل التطورات الجارية في سوريا تحديا إضافيا للنظام السياسي في العراق، وخاصة للكيانات المدعومة من إيران، . " محور المقاومة " والتي تشكل جزءًًا من ، بسقوط 2004 في سوريا، كان تغيير النظام في الثامن من ديسمبر/كانون الأول الأســد وانتصار قوى الثورة، تحولا مفصليا على الصعيد الإقليمي. فلم تقتصر تداعيات هذا التغيير على الساحة السورية، من حيث شكل النظام الجديد، وطبيعة العلاقت التي ستنشأ بين مكونات المجتمع السوري ومناطقه، التي مزقها النظام السابق، بل ستطال المنطقة بكاملها. من أبرز تلك التداعيات انتزاع دولة محورية،

11

في حجم ســوريا وموقعها الاســتراتيجي، من المحور الإيراني الروسي وضمها إلى محور تركي خليجي في طور التشــكل. ومن شــأن هذا التغيير، إذا تمكنت القيــادة الجديــدة من تجاوز التحديات الأمنية والسياســية والاقتصادية الراهنة، أن يُُخرج ســوريا من كونها ســاحة تابعة تنعكس عليها الاستراتيجيات الإيرانية والروسية والإسرائيلية والأميركية والتركية، إلى دولة مستقرة وفاعل إقليمي يبني علاقاته على أساس مصالحه، ويحدد دوره بما يتناسب مع موقعه الجيوسياسي. إلى جانب استراتيجيات القوى الإقليمية، تُُعد الاستراتيجية الأميركية إحدى أبرز الاســتراتيجيات المتصارعة في منطقة الشــرق الأوسط. فقبل السابع من أكتوبر ، كانت الولايات المتحدة منخرطة بقوة في دعم أوكرانيا وحشــد حلفائها 2023 الأوروبييــن للانخراط في المجهود الحربي، بهدف إلحاق هزيمة اســتراتيجية بروســيا. وكانت قواتها وأســاطيلها تنشــط بكثافة في بحر الصين الجنوبي، في والحرب " طوفــان الأقصى " محاولــة لاحتواء الصعــود الصيني. ولكن عملية الإسرائيلية على غزة، أحدثتا ما يشبه الانعطافة في السياسة الخارجية الأميركية، في قضايا الشرق " الغرق " جعلت واشطن تعيد ترتيب أولوياتها باتجاه المزيد من الأوسط. صحيح أن الدعم الأميركي غير المحدود كان حاسما في إسناد إسرائيل ومنع انهيارها واتســاع الحرب إلى باقي الإقليم. ولكن " الوجودية " فــي حربها الولايات المتحدة، تكبدت في المقابل خسائر على أكثر من صعيد، ليس أقلها فشــل إسرائيل في تحقيق أهدافها، ما يعد أيضا فشلا لحليفتها أميركا. وإذا كان ثمة عنوان يكثف نتائج هذه الانعطافة الاســتراتيجية في السياسة الأميركية، فهو نجاح واشــنطن في التفريق بين حلفائها والتقريب بين خصومها. ويبدو أن هذا الاتجاه، سيتعمق خلال عهدة الرئيس دونالد ترامب الثانية.

12

المقاومة الفلسطينية: العودة إلى إستراتيجية الصمود شفيق شقير شك ََّلت غزة، سلطة سياسية ونموذج ًًا مقاومًًا، استثناء في التاريخ الفلسطيني؛ ذلك أنها كانت متحررة من حكم الاحتلال الإســرائيلي المباشر، وإن كانت خاضعة لحصار مطبق، برًًّا وبحرًًا وجو ًًّا، على مدى الســنوات الســبع عشرة التي سبقت عملية طوفان الأقصى. وكانت، إلى جانب ذلك، مستقلة عن السلطة الفلسطينية . ضمن هذا 2007 وعن سياســاتها في التنســيق الأمني مع الاحتلال منذ عــام ا عميقًًا في مفهوم المقاومة وكيفية ممارســتها، سواء الإطار، أحدثت غزة تحولًا على مستوى السلطة وإدارة الحكم، أو على مستوى الفصائل المسلحة وعملياتها ، في " طوفان الأقصى " العســكرية. وقد بلغ هذا النمــوذج ذروة قوته في عملية . فقد كانت تلك العملية خلاصة مركََّزة 2023 الســابع من أكتوبر/تشرين الأول لظروف القطاع وتطلعاته لتجاوز الحصار، وبوصلة للنضال الوطني الفلســطيني بعد فشــل مساراته السابقة على اختلاف وسائلها وحواملها التنظيمية، وعكست قدرات المقاومة في مواجهة الاحتلال عسكريًًّا واستخباراتيًًّا وإعلاميًًّا وأخلاقيّّا. بهذا المعنى، كانت غزة على امتداد أشهر الحرب، محك ًًّا داميًًا لمنازلة إستراتيجية غير مســبوقة بين المقاومة وحاضتها الشــعبية الصامدة، وبين الاحتلال الساعي لاقتلاعها واحتلال القطاع وتهجير سكانه وتصفية القضية الفلسطينية. سياق عملية "طوفان الأقصى" ، مستصحبة السياق والظرف الصعب " طوفان الأقصى " بادرت حماس إلى عملية الذي بات يحيط بغزة ومقاومتها ويهدد القضية الفلسطينية ومستقبلها. فقد تراجع الاهتمــام العربي والعالمي بالقضية الفلســطينية بعد أحداث الربيع العربي التي ودفعت عددًًا من الدول العربية للانشغال بأوضاعها 2010 انطلقت أواخر العام لتعطي دفعة جديدة لمســار 2020 الداخلية، وجاءت اتفاقات أبراهام في العام التطبيــع بين إســرائيل ومحيطها العربي، فانضمت إلــى مصر والأردن كل من الإمارات والبحرين والمغرب.

13

في المقابل، لم يحدث أي تقدم في عملية السلام، التي انطلقت مع اتفاق أوسلو منذ ثلاثين عامًًا، بل توسع الاستيطان وتسارعت عمليات تهويد القدس، وقررت الولايات المتحدة نقل سفارتها من تل أبيب إلى القدس، وأوقفت تمويلها لمنظمة غوث اللاجئين (الأونروا). حدث كل ذلك بالتوازي مع صعود اليمين المتطرف إلى الحكم في إسرائيل، في تحالف سياسي بقيادة بنيامين نتنياهو تشك ََّلت على . " الأكثر تطرفًًا في تاريخ إسرائيل " قاعدته ما أصبحت تُُعرف بالحكومة مع هذه التطورات، اســتمرت إســرائيل في شــن حملات عسكرية متوالية ضد . وقد دأب الاحتلال على 2022 عام " الفجر الصادق " غــزة، كان آخرهــا عملية ، " جز العشب " تنفيذ هذه العمليات في إطار إستراتيجية أكبر تُُعرف بإستراتيجية تســتهدف المقاومة وتسعى لاستنزافها عسكريًًّا وعزل القطاع عن بقية الأراضي الفلســطينية. أما الضفة، فكانت أراضيها تتعرض لقضم مســتمر، وكان سكانها يعيشــون تحت ضغط أمني متزايد في ظل حصار اقتصادي تعيشــه السلطة في رام الله. وفي القدس الشــرقية، تعزز الاســتيطان وتسارعت سياسة التهويد، مع تقسيم باحات المسجد الأقصى زمانيًًّا ومكانيًًّا. كما كثََّف الاحتلال حملاته لطرد . 2021 عشرات العائلات من حي الشيخ جراح، وبلغت الأزمة ذروتها عام في هذا السياق، تعززت القناعة لدى الفلسطينيين بنهاية حل الدولتين وفق قرارات الأمم المتحدة، ووصلت عملية السلام إلى مأزق غاب معه أي أفق لحل سياسي. وأدرك الفلســطينيون، على اختلاف توجهاتهم، أن أقصى ما يمكن أن يحصلوا عليــه هو ســلطة بلدية خاضعة للاحــتلال، خاصة بعد أن أعلــن نتنياهو قبيل العمل " ، رفضه حل الدولتين وضرورة 2023 عمليــة الطوفان، في يوليو/تمــوز على اجتثاث فكرة إقامة دولة فلسطينية، وقطع الطريق أمام تطلعات الفلسطينيين . " لإقامة دولة مستقلة ، " طوفان الأقصى " كان هذا السياق العام حاضرًًا بشدة لدى من خط ََّط ونفذ عملية وكانت غزة الساحة الوحيدة التي بإمكانها أن تنازل إستراتيجية الاحتلال الرامية لتصفية القضية الفلسطينية. فكان انخراط فصائل المقاومة في معركة الأقصى عام . ثم جاءت عملية الطوفان لتضع في مقدمة " هبََّة القــدس " تحــت عنوان 2021 أهدافها تحرير الأسرى، ولتستبق عدوانًًا إسرائيليًًّا على غزة، حسب ما ورد على لسان الناطق باسم كتائب القسام، أبو عبيدة.

14

أهداف الطوفان القريبة والبعيدة في الجيش " فرقة غزة " كان هدف عملية الطوفان المباشر والمعلن الهجوم على الإسرائيلي وأسر عدد من العسكريين لمبادلتهم وتبييض السجون الإسرائيلية من الأســرى الفلسطينيين. أما على الصعيد الإســتراتيجي، فيمكن أن نرسم صورة أكثر وضوح ًًا من خلال اســتقراء تصريحات قادة حماس وفهم الســياق الأوسع الــذي حدثــت فيه العملية. بنــاء على ذلك، يمكن القــول: إن العملية جاءت على أيدي فصائل فلســطينية، بعد أن " المقاوم المنظ ََّم " لتعيد الحياة إلى العمل تراجعت المقاومة إثر الانقســام بين الضفة الغربية وغزة، وفشــلت المبادرات المتكررة لتوحيد الصف الفلسطيني. قبل الطوفان، جرت محاولات سابقة لدعم مجموعات المقاومة الشــعبية الناشــئة خارج غزة، لاسيما في الضفة، سواء من قبل حماس أو حركة الجهاد الإسلامي أو غيرهما من الفصائل الفلسطينية. وكان من ثمرة تلك الجهود نشأة خلايا وكتائب مسلحة في مخيمي جنين وبلاطة في شمال الضفة الغربية. على صعيد حماس بالذات، كان من شأن الطوفان أن يكرس معادلة جديدة تقوم على قيادة غزة لعمل مقاوم مســتمر تشــترك فيه أغلب الفصائل، يُُخرج غزة من دوامة الجولات العســكرية في مواجهة الاحتلال ويكسر الحصار الخانق الذي يعاني منه ســكان القطاع على مدى ســنين. وكان الخروج من هذه الدوامة أن يُُفس ََح المجال لمرحلة جديدة من المقاومة بقيادة حماس، على أسس تسمح لها بالبقاء والاســتمرار والتوسع بطرق ووسائل متعددة، لتشمل، مع الوقت، الضفة الغربية وربما عموم فلسطين التاريخية. منظمة " حرب تحرير " بهــذا المعنــى، يمكن أن نفهم الطوفان على أنه جزء من ا عن ساحات مركزها غزة، تعيد ربط الساحات الفلسطينية بعضها ببعض، فضلًا المقاومة الأخرى، خاصة مع لبنان، وليس مجرد عملية محدودة لاحتجاز أسرى بغرض المبادلة. يتأكد هذا المعنى إذا أخذنا بعين الاعتبار خطط إسرائيل الرامية لعزل غزة عن بقية فلسطين واستمرار حصارها، مقدمة لعزل فلسطين عن محيطها العربي وتصفية قضيتها بالتوازي مع توسيع نطاق التطبيع على قاعدة صفقة القرن واتفاقات أبراهام.

15

ما لم يكن متوقعًًا أثناء تنفيذ العملية هو انهيار المعسكرات الإسرائيلية وانكشاف مســتعمرات غلاف غزة بالكامل أمام عناصر المقاومة؛ ما أدى إلى اتساع نطاق الهجوم وارتفاع عدد الأســرى من العســكريين والمدنييــن. وردًًّا على العملية التي بدت مفاجئة وحققت اختراقًًا اســتخباريًًّا غير مســبوق، جاء قرار إسرائيلي بشن حرب واسعة ومدمرة ضد غزة، حظيت بدعم غربي استثنائي. ولم يقتصر الدعم الغربي للحرب الإسرائيلية على غزة على الجوانب العسكرية واللوجستية والاستخبارية، بل وفرت المنظومة الغربية لإسرائيل غطاء سياسيًًّا وقانونيًًّا شجعها على انتهاك كل القواعد الإنســانية والأخلاقية للحرب، ولم يمنعها من ارتكاب حرب إبادة جماعية قتلت فيها عشــرات الآلاف من النســاء والأطفال، ودمرت شروط الحياة الأساسية في أغلب مناطق القطاع. ربما لم تتمكن المقاومة من تحقيق كل أهدافها من عملية الطوفان، فالحرب لم تنته بعد، وســتظل تداعياتها على الجانبين تتفاعل على مدى الســنوات القادمة. ولكن، ثمة زاوية أخرى يمكن أن ننظر من خلالها إلى ما تحقق وما لم يتحقق، وهو ما أعلنته إســرائيل من أهداف لحربها على غزة. فقد أعلن رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، أن هدف الحرب هو القضاء على حماس عسكريًًّا وإداريًًّا حتى لا يتكرر السابع من أكتوبر، واسترجاع الأسرى بقوة السلاح. على هذا الصعيد، وإذا أخذنا بعين الاعتبار عدم تناسب القوة بين الجانبين، يصبح مجرد الصمود وإفشال الأهداف التي سعى الاحتلال لتحقيقها من خلال الحرب نصرًًا يُُحسب للمقاومة. وإذا أضفنا إلى ذلك فشل إسرائيل في تحقيق أهداف أخرى لم تعلنها في البداية، مثل تهجير ســكان غزة واحتلال أجزاء من القطاع واســتقرار قواتها العســكرية في بعض محاوره، يمكن القول بأن المقاومة فرضت شــروطها في نهاية المطاف. " طوفان الأقصى " هنــاك مجــالات أخرى يمكن أن نقرأ فيها النتائــج المؤقتة لـ وللحــرب التي أعقبته، تتجاوز النتائج الميدانية للأهداف المباشــرة. فقد حقق الطوفان نتائج على غاية من الأهمية، ربما لم تكن منظورة عند التخطيط للعملية نفســها. من أهمها ضرب أسس الســردية الإسرائيلية حول الصراع في فلسطين وفسح المجال للسردية الفلسطينية لتبدأ في تشكيل العقول، خاصة في الغرب.

16

فقد بدأت قطاعات مهمة، خاصة من الأجيال الصاعدة، بما في ذلك من اليهود، تتقبل الســردية الفلســطينية وتتعاطف معها وتُُجري مراجعات عميقة للســردية الصهيونية. وحدثت انكســارات في صورة إســرائيل، التي ظلت تسو ِِّقها للعالم على مدى عقود، أساســها الهولوكوســت والمظلومية التاريخية والعداء للسامية ووحشية الفلسطينيين والعرب الذين يحيطون بها من كل جانب. لقد ذك ََّرت هذه الحرب العالم بحقيقة الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، وقدمــت إســرائيل في صــورة المعتدي الــذي يمارس الإبــادة الجماعية ضد الفلسطينيين، ولا يتورع عن انتهاك قواعد القانون الدولي وارتكاب جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية بكل أشكالها. وقد بدأ اهتزاز تلك السردية وانكسار تلك الصــورة في خلق مد عالمي معارض لإســرائيل، تجلى في مظاهرات شــعبية وحركة احتجاجية واسعة في عموم البلدان الغربية، على رأسها تلك التي دعمت الحرب الإسرائيلية على غزة، مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا. وكان لافتًًا في تلك الاحتجاجات، الحراك الطلابي النوعي، الذي شمل عددًًا من جامعات النخبة الأميركية وبعض الجامعات الغربية، وطالب بقطع العلاقات مع إسرائيل وإيقاف التعاون الأكاديمي معها. كما أن وقوف الحكومات الغربية إلى جانب إســرائيل دون مساءلتها عن جرائمها وانتهاكاتها المتكررة لقواعد القانون الدولي أصبح محط مساءلة شعبية وبرلمانية وإعلامية بطريقة غير معهودة. وإذا استطاع الفلســطينيون، خاصة في بلدان المهجر، مراكمة هذه المكاسب والبناء عليها، سيكون لهم دور فاعل في عزل الاحتلال على الصعيد العالمي، وإحداث تغييرات مهمة في مسار الصراع معه في المرحلة القادمة. ما بعد وقف إطلاق النار قبــل التوصل لاتفاق وقف إطلاق النار، وضعت حماس وبقية فصائل المقاومة خطوطًًا حمراء ربطت فيها بين مراحل تنفيذ الاتفاق الثلاث، بما في ذلك إعادة الإعمار. ولم يشمل تصورات محددة لما بعد الحرب، لا من الجانب الفلسطيني ولا من الجانب الإســرائيلي. واكتفت المقاومة بالتأكيد، أثناء المفاوضات وفي تصريحاتهــا الإعلاميــة المتتالية، على أن حكم غزة شــأن فلســطيني. فأولوية

17

التفاوض كانت إنهاء الحرب بدءًًا بوقف إطلاق للنار، وإخراج أكبر عدد ممكن من الأسرى الفلسطينيين، وإعادة الحياة في غزة إلى وضعها الطبيعي. أما إدارة القطاع، فتُُرك التفاوض بشأنها لوقت لاحق، على أن تكون تحت سلطة فلسطينية متفاهمة مع المقاومة، لاسيما مع حماس الفصيل الأكبر بينها جميعًًا. وبالتالي، كان هدف المقاومة بدرجة أولى، الخروج من الحرب بأقل الخسائر والمحافظة على أهم المكاسب، وفي مقدمتها بقاء المقاومة وتحرير الأسرى وخروج قوات الاحتلال من قطاع غزة. مــن المســتبعد أن تعود حماس لحكم غزة منفردة كمــا كانت عليه الحال في الســابق، وربمــا تكتفي بدور محــدود على ألا تكــون الإدارة الجديدة معادية للمقاومة. وبالتأكيد، ستختلف أساليبها في استمرار المقاومة، وستكون محكومة إلــى حــد كبير بتداعيات الحرب وتفاهمات ما بعد وقف إطلاق النار. فمعالجة الدمار الهائل الذي تعرض له القطاع على جميع المســتويات، وترميم الخراب الكبيــر التــي أصاب البنيــة التحتية وأتى على أغلب المرافــق الحيوية، وتوفير حاجيات الســكان من أمن ومأكل ومأوى، ســتكون أبرز التحديات في الفترة القادمــة. وما ســيضاعف من صعوبة هذه التحديــات أن إعادة الإعمار وتعافي القطاع لا يتطلب عدم ممانعة إســرائيل وأميركا وفتح المعابر فقط، بل يتطلب مشاركة عربية وإسلامية ودولية واسعة. وقد كشــف تقرير مشــترك للأمم المتحــدة والبنك الدولي أن قيمة الخســائر الاقتصادية التي شــهدها قطــاع غزة، منذ بدأت إســرائيل اجتياحها البري، في مليار دولار، وقدرت الأمم 18 . 5 ، بلغت نحو 2023 أكتوبر/تشــرين الأول 27 مليار دولار. وإذا أخذنا تصريحات 40 المتحدة كلفة إعادة إعمار القطاع بنحو الرئيــس ترامب، التي دعا فيها لتهجير ســكان غــزة، بالجدية اللازمة، نفهم أن الإدارة الأميركية التي حرصت على التوصل لاتفاق وقف إطلاق النار، لن تكون مستعدة لتسهيل إعمار غزة دون شروط وأثمان سياسية تجنيها حليفتها إسرائيل. وقــد تكون تلك الأثمان دفع دول عربية أخرى للتطبيع، أو إبعاد حماس مطلقًًا عن حكم غزة ومنعها من إعادة بناء قوتها، أو قبول بعض الدول العربية المشاركة في عمليات تهجير سكان غزة تحت أي ذريعة.

18

خلاصة رغــم محدوديتها في الزمان والمكان، كانت عملية الطوفان خطوة إســتراتيجية مهمة. فقد نقلت غزة ومعها القضية الفلسطينية التي كادت تختفي من أجندات العالم، إلى مستوى المبادرة والفعل المقاوم على أرض العدو. ولكن إسرائيل، التي زلزلتها عملية الطوفان بصورة غير متوقعة، لا في حجمها ولا في نوعيتها، ردََّت بحــرب مفتوحــة حاولت فيها رفع الكلفة الإنســانية إلى مســتويات غير مسبوقة؛ فارتكبت المجازر ونك ََّلت بالسكان ودمرت ما استطاعت آلتها الحربية تدميره خارج كل القواعد والمواثيق الدولية وبدعم كامل من القوى الغربية. ورغــم الاخــتلال الهائل في موازين القوى، اســتطاعت المقاومة أن تصمد في شــهرًًا، كبََّدت خلالها قوات الاحتلال خســائر كبيرة في 14 الميدان لأكثر من الجنود والعتاد والاقتصاد والصورة والسردية. وكانت حرب الإسناد التي أحاطت بدولــة الاحتلال على أكثر من جبهــة، في لبنان واليمن والعراق وإيران، متغيرًًا أساســيًًّا أثََّر في مســار الحرب ورفع كلفتها على إسرائيل دون أن يُُحدث تغييرًًا جوهريًًّا في معادلة الصراع. ورغم الأثمان الباهضة التي دفعتها المقاومة، خاصة على الصعيد الإنساني، يعد صمودها وبقاؤها واحتفاظها بأرضها وسلاحها نصرًًا ستبني عليه إستراتيجيتها المستقبلية. وكانت المقاومة، حتى قبل إعلان وقف إطلاق النار في غزة، قد امتدت شرارتها إلى مدن الضفة الغربية ومخيماتها بعدما كانت إســرائيل تعتقد أنها قادرة على اجتثاثها وخلق واقع جديد عبر التنسيق الأمني مع السلطة الفلسطينية. ولا شك أن مشــاهد تبادل الأســرى وتحرير أعداد كبيرة من أســرى الضفة، ستصب في حســاب المقاومة وفي خيارها الإســتراتيجي، وســتزيد من حجم التعاطف مع الفصائل المســلحة في غزة. من ناحية أخرى، ستســهم سياسات الاحتلال في توســيع الاســتيطان وتســريع وتيرته على وقع عمليات عسكرية في الضفة أمام عجز السلطة الفلسطينية عن الاعتراض أو رد الفعل، في تهيئة الظروف لتصاعد المقاومة ودفع المزيد من الشــباب الفلســطيني للانخراط فيها حسب ما تتيحه الظروف والإمكانات.

19

ا جديدًًا ، فتحت فصلًا " طوفان الأقصــى " بشــكل عام، يمكــن القول: إن عملية في النضال الوطني الفلسطيني، وجعلت من المقاومة، في غزة والضفة الغربية، الخيار الأول لمواجهة الاحتلال وإفشــال سياســاته الاستيطانية والإحلالية. كما عززت من حركة التضامن مع الشــعب الفلســطيني وزودت الأجيال الجديدة، خاصة في الغرب، برواية مختلفة عن هذا الصراع، ودفعت بالكثير منهم للانخراط في المقاومة بأشكال غير معهودة.

20

إستراتيجية إسرائيل: القضاء على المقاومة وإعادة تشكيل النظام الإقليمي

شفيق شقير ، ســعت إســرائيل إلى " طوفان الأقصى " فــي حربها الانتقامية ردًًّا على عملية تحقيق هدفين معلنين، هما: القضاء على المقاومة واســتعادة الأســرى. وخلف هذين الهدفين تكمن أهداف أخرى ترتكز إليها الإســتراتيجية الإســرائيلية التي تعديلات متتالية مع طول أمد الحرب وامتدادها إلى 2004 شهدت خلال العام ساحات أخرى. تتمثل هذه الإستراتيجية في ضمان تفوق إسرائيل وتعزيز قدراتها الردعية على مختلف المســتويات، بما يحقق أمنها في الداخل والخارج ويمنع تكرار سيناريو السابع من أكتوبر/تشرين الأول أو نشأة مخاطر مماثلة. وتحتاج هذه الإستراتيجية لتنفيذها إلى الهيمنة على المنطقة وتغيير البيئة المحيطة بتوسيع دائرة المتعاونين وإخضاع الأعداء أو تدميرهم. ضمن هذا الإطار الإســتراتيجي يمكن أن نفهم الســلوك الإســرائيلي خلال الحرب على غزة ولبنان وما رافقه النصر " و " التأســيس الجديد " من خطاب رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، بشــأن . فهل حققت إسرائيل أهدافها " إعادة تشكيل خارطة الشرق الأوسط " و " المطلق من هذه الحرب؟ وأين تقدمت الإستراتيجية الإسرائيلية وأين تراجعت؟ هل حققت إسرائيل أهدافها من الحرب؟ يناير/كانون الثاني 15 جاء اتفاق وقف إطلاق النار بين إســرائيل وحماس، في ، ليؤكــد أن هدفــي الحرب المعلنين لم يتحققــا. فالاتفاق فاوضت عليه 2015 ووقََّعته من الجانب الفلسطيني حركة حماس، التي يُُفترض أن الحرب قد شُُنََّت للقضاء عليها، والأســرى لم ينجح جيش الاحتلال في اســتردادهم بالقوة ولم تتحقق عودتهم إلا عبر الاتفاق مع المقاومة. من ناحية أخرى، فشلت إسرائيل في عزل المقاومة عن حاضنتها الشــعبية، رغم الإبادة الجماعية والدمار الشامل الذي ألحقته بالبنية التحتية والمرافق الحيوية. وفشلت خطتها لتهجير سكان غزة

21

وإعادة احتلال القطاع أو الاســتقرار في بعض محاوره. وكانت مشــاهد تسليم الأســرى وعودة الســكان إلى شمال القطاع وانســحاب القوات الإسرائيلية من ا على ذلك الفشل. مواقعها في محور نتساريم دليلًا على صعيد الأهداف الإســتراتيجية، لا يزال الجدل قائمًًا بشــأن ما تحقق منها ومــا لــم يتحقق. فلا يمكن الجزم بأن الحرب قــد ضمنت أمن دولة الاحتلال في الداخل، مع بقاء المقاومة في غزة وقدرتها على تجديد قدراتها العســكرية والتعبوية والإدارية، وتنامي المقاومة في الضفة الغربية مع اتســاع نطاقها وتنوع أشــكالها. ولا يمكن الجزم كذلك بأنها قد أنجزت أهدافها على مســتوى تغيير ، رغم ما تعرض له " العدو الإيراني " البيئة الإســتراتيجية المحيطة لصالحهــا؛ فـ من خســائر في لبنان وتراجع نفوذه في ســوريا، لا يزال يتمتع بقوته الأساسية، خاصــة على صعيد البرنامجين، النووي والصاروخي، وبرنامج تصنيع الطائرات ، رغم ما أصابه من ضربات في مختلف ساحاته، " محور المقاومة " المســيرة. و لم يخرج من معادلة الصراع، ولعله يتمكن من إعادة بناء قوته في ظل اتفاقات التهدئة القائمة. بالنتيجة، قد تكون إسرائيل حققت أهدافًًا تكتيكية في مواجهتها لإيران ومحورها الإقليمي، ولكنها بالتأكيد لم تتمكن من تحييد ما تعتبره تهديدًًا ا عن القضاء عليه نهائيًًّا. فلا شيء بعد هذه الحرب خارجيًًّا لأمنها القومي، فضلًا يضمن أمن إســرائيل الكامل في المســتقبل، لا في غلاف غزة، ولا في بلدات جنوبي لبنان، ولا حتى في قلب عاصمتها ومدنها الرئيسية. ، وبدأ بالتقدم " طوفان الأقصــى " أما مســار التطبيع، الذي تحــرك قُُبََيْْل عملية تـ ًا وتراكم أمامــه المزيد من � ا أخــرى، فقــد توقف مؤق والتوســع ليضــم دولًا العقبات، ســواء بســبب الحرب وما ألحقته بصورة الاحتلال وقادته باعتبارهم مجرمي حرب تلاحقهم العدالة الدولية بتهمة الإبادة الجماعية، أو لعدم استعداد الجانب الإسرائيلي لتقديم أي تنازلات تخص حل الدولتين وقيام دولة فلسطينية ، 2024 يوليو/تموز 17 مقابــل تطبيع العلاقات معه. وكان قرار الكنيســت، في برفض قيام دولة فلسطينية مؤشرًًا قويًًّا في هذا الاتجاه. ومن المرج ََّح أن تمضي سياســة توسيع الاســتيطان قُُدمًًا بضم المزيد من أراضي الضفة الغربية، خاصة بعــد عــودة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، إلى البيت الأبيض ودعمه المعلن

22

لتوسيع الجغرافيا الإسرائيلية على حساب الفلسطينيين. فهل سيبقى لدى إسرائيل بعــد ذلــك ما تقدمه لجيرانها العرب مقابل توســيع دائرة التطبيع وخلق المزيد مــن الأصدقاء في بيئتها المحيطة؟ وهــل يمكن لحلفائها الاتفاق على ترتيبات تساعدها على تعويض ما خسرته في هذه الحرب؟ اختبار قوة الردع أمام تعدد الجبهات الخارج، مثََّلت الحرب على غزة، التي توســعت لاحقًًا " أعــداء " فــي مواجهة وتعددت جبهاتها، ســاحة اختبار لإســتراتيجية إســرائيل في إخضاع أعدائها أو تدميــر قدراتهم. فمع دخول حزب اللــه والحوثيين وبعض الجماعات العراقية ، وجدت إسرائيل نفسها تخوض حربًًا مع محور " حرب إســناد " المســلحة في تقوده إيران ضمن إستراتيجية دفاعية مقابلة. كانت حرب إسرائيل على الجبهة الشمالية مع حزب الله على امتداد عام كامل حرب اســتزاف أنهكتها وأدت إلى خســائر في الجانبيــن قبل أن يتوصلا، في ، إلى اتفاق لوقف إطلاق النار. ولهذه الجبهة 2024 نوفمبر/تشــرين الثاني 27 أهمية خاصة في الإســتراتيجية الإســرائيلية لعدة أســباب، منها ما يخص لبنان . فلبنان، الذي يقع على " محــور المقاومة " ومنهــا مــا يتعلق بموقعه ودوره في الحدود الشمالية لدولة إسرائيل، ويضم حزبًًا عقائديًًّا يحمل أيديولوجية المقاومة وسلاحًًا نوعيًًّا خارج سيطرة الدولة، ترى فيه إسرائيل خطرًًا مباشرًًا على أمنها. س ـ َمة ظلت لعقود سببًًا في توترات � ولبنان، الذي تربطه بإســرائيل حدود غير مر متعاقبة وحروب لم تتوقف، يشــكل مصدر قلق دائمًًا وتهديدًًا لا يمكن توقعه. الأهم من ذلك، أن لبنان يعد الذراع المتقدمة للمحور الذي تقوده إيران. فحزب الله، لاسيما تحت قيادة أمينه العام، الراحل حسن نصر الله، الذي كان يحظى بعلاقــات خاصــة مع القيادة الإيرانية، كان يضطلع بدور أساســي في التخطيط والتنسيق بين مكونات المحور. إلى جانب لبنان، مثََّل اليمن ساحة أخرى من ساحات المواجهة مع إسرائيل في ســياق حرب الإســناد لغزة. وقد كان لهذا العامل الجديد في الصراع تأثير بالغ على حركة الملاحة في البحر الأحمر بعد اســتهداف الحوثيين لبواخر إسرائيل

23

وتلك التي تقصد موانئها. كما تضررت حركة السفن عبر قناة السويس وفقدت % من وارداتها. ورغم تشــك ُُّل تحالف عســكري داعم لإسرائيل، بقيادة 40 نحو الولايات المتحدة وبريطانيا، اســتمرت حرب الإســناد الحوثية إلى حين إعلان وقــف إطلاق النــار في غزة. أما الجماعات العراقية المســلحة، التي انخرطت في هذا المحور بشكل محدود فقد تراوح نشاطها المتقطع بين مهاجمة أهداف إســرائيلية وأخرى أميركية ولم يكن لدورها تأثير كبير على مســار الحرب. ولم تكن إيران مجرد محرك للخيوط وضابط لإيقاع حركة المحور، بل انخرطت هي أيض ًًا في الحرب وتبادلت الهجوم والضربات الصاروخية مع إسرائيل. إذا أضفنــا إلى كل ذلك حالــة المقاومة المتنامية في الضفة الغربية التي تجلََّت فــي عمليــات فرديــة وجماعيــة ومواجهات مع قــوات الاحتلال فــي المدن والمخيمات، فإن إســرائيل تكون قد خاضت حربها ضد ســت جبهات. فكيف أدارت إستراتيجيتها على هذا الصعيد؟ إزاء تعدد هذه الجبهات وما أصبح يُُعرف بوحدة الســاحات، طبقت إســرائيل إستراتيجية متعددة المستويات والأهداف، يمكن رصدها في النقاط التالية: - توزيع قواتها العســكرية على أكثر من جبهة لإظهار قدرتها الردعية الشــاملة، فحركت بعض ألويتها باتجاه الشمال وبعضها الآخر داخل الضفة، دون أن تفقد جبهة غزة مركزيتها وثقلها باعتبارها الساحة الرئيسية للحرب. - التنســيق مع القوى الغربية لنيل الدعم اللازم للتعامل مع هذه الجبهات وفق خصوصياتها، فما يحتاجه تدمير غزة من سلاح وذخيرة ليس هو ما يحتاجه ردع بقية الجبهات في العراق واليمن من استهداف غربي مباشر وعمليات خاصة. - استخدام القوة المفرطة لسحق المقاومة وسلخها عن حاضتها الشعبية، حتى لو أدى ذلك إلى ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية. وقد استخدمت إسرائيل في ، التي كانت " عقيدة الضاحية " ذلك، خاصة على جبهتي غزة ولبنان، ما يُُعرف بـ . 2006 قد اعتمدتها في حربها ضد حزب الله، عام - الحــرب الاســتباقية وتوظيف تقنيــات المعلومات لتصفية قيادات عســكرية وسياسية بارزة في المقاومة الفلسطينية واللبنانية. في ذات السياق، شنََّت إسرائيل

24

مئات الغارات الجوية على ســوريا، التي تُُعد خط إمداد رئيســيًًّا لسلاح حزب الله، دمرت فيها مخازن أسلحة وطرقًًا للإمداد واستهدفت قيادات عليا في فيلق القدس والحرس الثوري الإيراني. - الفصل بين الجبهات وتفكيك وحدة الســاحات لعزل غزة، ســاحة الحرب الرئيســية. لذلك، عقدت إسرائيل اتفاقًًا مع حزب الله، أوقفت بمقتضاه إطلاق النار وحققت نوعًًا من التهدئة، وشدََّدت ضرباتها المنسقة مع القوات الأميركية والبريطانية لمواقــع الحوثيين في اليمن، لإنهاك الجماعة وقدراتها الصاروخية. وتحــت ضغوط ميدانية وسياســية داخلية وخارجية، توصلــت في يناير/كانون الثاني، إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في غزة وصفقة لتبادل الأسرى بين الجانبين. . فبالإضافة " محور المقاومة " - تأكيــد القوة الردعية تجاه إيران باعتبارها قائدة إلى تفكيك وحدة ساحات المحور، وتوجيه ضربات قاسية لحزب الله، هاجمت إســرائيل العمق الإيراني، وتمكنت من اغتيال رئيس المكتب السياســي لحركة حماس في طهران، قبل أن يســقط النظام الســوري، الذي احتفت به إســرائيل ورأت فيــه تقليص ًًــا لنفوذ إيران فــي المنطقة، دون إفقادهــا القدرة على الردع المتبادل. إعادة تشكيل النظام الإقليمي: الإمكانات والحدود ، حاول رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، " طوفان الأقصى " بعد عملية وأحداث الحادي 2003 المطابقة بين أحداث الســابع من أكتوبر/تشرين الأول ، لتتساوى بذلك إسرائيل مع الولايات المتحدة فيما 2001 عشر من سبتمبر/أيلول يحق لها اتخاذه من إجراءات ردًًّا على تلك الهجمات. فبعد أحداث ســبتمبر/ أيلول، ســعت واشــنطن إلى تغيير النظام الدولي، ويحق لإسرائيل بالمقابل أن تعمل على تغيير النظام الإقليمي وإعادة تشــكيله بما يحقق أمنها المطلق. وبما أن تــل أبيــب تعجز عن القيام بذلك لوحدها، فقد لقيت دعمًًا أميركيًًّا وأوروبيًًّا غير محدود، لم يتوقف حتى مع المجازر اليومية التي ارتكبتها في حق المدنيين، وخرقهــا مختلف قوانين الحرب ومبادئهــا، وملاحقتها من قبل محكمة العدل الدولية بتهمة ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية في حق ســكان غزة. فما ملامح

25

النظام الإقليمي الذي تسعى إسرائيل لتشكيله؟ وإلى أي حد تقدمت في تحقيق هذا الهدف؟ وما الدور الذي يمكن أن تلعبه الدول الداعمة لها في هذا السياق، سواء من داخل المنطقة أو من خارجها؟ لا تزال إســرائيل منذ تأسيســها تحظى بدعم غربي كامل يتجاوز تحقيق أمنها إلى ضمان تفوقها الإستراتيجي على ما سواها من دول الشرق الأوسط. ورغم التحــولات التي شــهدتها المنطقة على مدى العقــود الماضية، لم يتزعزع هذا الدعم ولم يتراجع، وليس ثمة في الأفق ما يدعو للتفكير في أنه سيتوقف قريبًًا أو يتخذ اتجاهًًا عكســيًًّا. فبعد عودة ترامــب للحكم ودفعه نحو إنهاء الحرب، يُُتوقع أن تعمل واشنطن وحلفاؤها من الدول الغربية والعربية على وضع بعض الترتيبات لمساعدة إسرائيل على ترميم صورتها واستعادة قدرتها الردعية وتعزيز مكانتها المحورية على الصعيد الإقليمي لتمكينها من لعب دور قيادي مهيمن في منطقة الشرق الأوسط. وهذا الدور يتطلب تفعيل جملة من السياسات، أهمها: ليشمل " اتفاقات أبراهام " بتوســيع نطاق - تطبيع وضع إســرائيل في المنطقة: المزيد من الدول العربية، خاصة ذات التأثير السياســي والاقتصادي الكبير مثل المملكة العربية الســعودية. فإذا أصبح هذا الاتجاه غالبًًا، وتمكنت إسرائيل من زيادة عدد أصدقائها وحلفائها في ســياق هذه الاتفاقات، سيســهل اندماجها في النسيج الأمني والاقتصادي والثقافي للمنطقة. وسواء استُُخدم التطبيع مع المحيط العربي لمواجهة إيران أو لتحقيق مصالح الدول المطبعة، فإن الرابح الأكبر هو إســرائيل والخاســر الأكبر هو القضية الفلسطينية. فالثمن الذي ستقدمه إسرائيل مقابــل أمنها واندماجها، لن يكــون عودة الأرض كما كانت مطالب العرب في الســابق، أو قيام دولة فلســطينية بعد تقلص شروط قيامها. في أحسن الأحوال، سيكون الثمن إعمار غزة والإبقاء على سلطة فلسطينية وظيفية في رام الله دون صلاحيات فعلية. ، أي التحالف مع دول محيطة " شد الأطراف " : ليست سياسة - تحالف الأطراف بالعالم العربي لتطويقه وإشــغاله بإثارة الخصومات معها، جديدة على إسرائيل. لكن إدارة إســرائيل لهذه السياســة وأهدافها منها أصبحتا اليوم مختلفتين عنهما في السابق. فهي من ناحية، ستستفيد من تطبيع علاقاتها مع بعض الدول العربية

26

لتكوين شبكة أمان إقليمية. ومن ناحية ثانية، ستسعى لتوظيف تلك العلاقات في توثيق تحالفاتها مع دول الأطراف، ســواء في المحيط الإفريقي أو في المحيط الآســيوي. وفي مســتوى ثالث، ستستثمر سياسة التطبيع وشد الأطراف معًًا في مواجهــة دول عربية وإسلامية مناهضة للاحتلال ومعارضة للهيمنة الإســرائيلية علــى المنطقــة. وستســتخدم تلك التحالفــات أيض ًًا لمواجهة قــوى المقاومة لإضعافهــا وعزلهــا عن بعضها البعض، وعزل القضية الفلســطينية عن محيطها العربي والإسلامي وعن بعدها العالمي المتنامي. وهذه سياســة إســرائيلية قديمة، أطلق عليها رئيس الوزراء - تحالف الأقليات: ، في إشارة إلى " الطوق الثالث " الإســرائيلي الأسبق، ديفيد بن غوريون، اســم التحالف مع الأقليات في المنطقة العربية. وإذا كانت تلك السياسة في عهد بن غوريون تستهدف بشكل خاص التحالف بين اليهود والأكراد، فقد أصبحت، مع التطورات الجارية في المنطقة، خاصة بعد الحرب في لبنان والتغيير في سوريا، تتخذ بعدًًا أكثر خطورة. وقد دعا وزير الخارجية الإســرائيلي، جدعون ســاعر، ، إلى تعزيز العلاقات 2024 بعد توليه وزارة الخارجية، في نوفمبر/تشرين الثاني في الشرق الأوسط، في إشارة إلى أن تلك " المجتمعات الكردية والدرزية " مع السياسة لا تزال معتمدة، وأن إسرائيل تسعى لتوسيعها واستخدامها لضرب وحدة دول المنطقة وإضعاف أي نظام إقليمي لا تهيمن عليه أو لا يخدم مصالحها. لتحقيق شــروط الهيمنة في ســياق تنافس محتدم بين عدد - التفوق المطلق: من القوى الإقليمية تحتاج إســرائيل إلى تحقيق التفوق المطلق على منافســيها في عدة مجالات، خاصة على الصعيد الإســتراتيجي. قد تكون حكومة نتنياهو محور " في حربها على غزة وفي مواجهتها لـ " النصر المطلق " فشلت في تحقيق الذي تقوده إيران، ولكن الطموح الإسرائيلي بالتحول إلى قوة إقليمية " المقاومة تنفــذ خططها دون عراقيل، وتفرض شــروطها على الجميــع يظل هدفًًا مركزيًًّا لسياســاتها. وفي غيــاب القدرة الذاتية على تحقيق هــذا الهدف، بما في ذلك قدرتهــا علــى ضمان أمنها الخاص، يبقى الدعم الخارجي والتحالف مع القوى الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأميركية هو الرافعة الأساســية لتحقيق التفوق عملية طوفان " المطلق. ولكن ذلك الدعم، رغم ســخائه، تبينت محدوديته منذ وما أعقبها من تطورات. " الأقصى

27

لا يبدو أن إســرائيل تملك القــدرة على تنفيذ إســتراتيجيتها فــي الخلاصــة، الكبرى في الهيمنة المطلقة على المنطقة وتشــكيل نظام إقليمي بقيادتها، مهما كان مســتوى الدعــم الغربي الذي تقدمه لها الولايــات المتحدة وبعض الدول الأوروبية. فالداخل الإسرائيلي يحتاج إلى ترميم ومعالجة لردم الهوة المتسعة بين مكونات المجتمع الإسرائيلي، واستعادة ثقة السكان في القيادة السياسة والأمنية وفي مستقبل المشروع الصهيوني ذاته. والمقاومة، رغم محدودية إمكاناتها وما تعيشــه من حصار لا يمكن القضاء عليها، وقد أثبتت أنها بعد كل حرب تعود أقوى مما كانت. والمنطقة في عمومها، لاســيما على المستوى الشعبي، ستظل ترفض الاحتلال وتناصر القضية الفلسطينية حتى لو اختارت بعض دولها التطبيع أو التحالف مع إسرائيل. والقوى الإقليمية المنافسة، وعلى رأسها تركيا وإيران، أصبح لها من أدوات القوة العســكرية والأمنية والاقتصادية ما لا يســمح لأي قوة أخرى بالهيمنة المطلقة أو تشــكيل النظام الإقليمي على حســاب مصالحها أو نفوذها. كما أن الدعم الغربي ليس ثابتًًا، وقد بدأ يشــهد بعض المراجعات على ضوء الســلوك الإســرائيلي الذي لا يأبه لقواعد الحرب، ولا يقيم للقانون الدولي وزنًًا، ولا يستنكف عن ارتكاب كل أنواع الجرائم، بما في ذلك جريمة الإبادة الجماعية.

28

إيران و"محور المقاومة": إعادة ترتيب الصفوف والأولويات فاطمة الصمادي عباس " لقــد أصبح محور المقاومــة أمرًًا واقعًًا في المنطقة ولا يمكن تجاهله " عراقجي، وزير الخارجية الإيراني بعد انتصار الثورة وتأســيس الجمهورية الإسلاميــة في إيران على يد مجموعة كانت لها علاقات متشــعبة ومعقدة مع مجموعات ثورية في أنحاء مختلفة من العالم، بََنََت الجمهورية الوليدة، في وقت مبكر، نموذج ًًا في التحالف يتكون من شبكة منظمات مسلحة غير حكومية، وأنشأت لذلك الغرض وحدة خاصة داخل . وتزامن تأسيس " وحدة المستضعفين وحركات التحرر " الحرس الثوري، سم ََّتها تلك الوحدة مع تأسيس الحرس الثوري في مطلع ثمانينات القرن العشرين. بعد تشــكيلها، أُُسندت رئاســة وحدة حركات التحرر لمحمد منتظري، صاحب العلاقات الواســعة مع التشــكيلات الفلســطينية المقاومة. وعمل مع منتظري شــخصيات كان لها دور كبير في مســيرة الحرس الثوري. وقد مثََّلت الوحدة في أيامها الأولى الأداة الأساســية للجمهوريــة الإسلامية لتصدير الثورة، وكان لصفات محمد منتظري الشــخصية، ومعه مهدي هاشــمي، دور كبير في تشكيل هوية الوحدة وتحديد طبيعة عملها. فقد كان الرجلان يؤمنان بقيم ثورية مشتركة ا عن ولعهما بالأساليب غير التقليدية في من بينها أن الثورة عابرة للحدود، فضلًا المواجهة والمقاومة. وهكذا دخلت الحرب غير المتناظرة إلى خطط الحرس من خلال وحدة حركات التحرر. لم يمض سوى وقت يسير على تشكيل الوحدة حتى اغتيل محمد منتظري في ، وخلفه في إدارة 1981 تفجير استهدف مبنى حزب الجمهورية الإسلامية في العام الوحدة مهدي هاشــمي. وكان لوحدة حركات التحرر علاقات خارجية متشعبة " منظمة العمل الإسلامي " مــع المنظمات المعارضــة في الخليج والعراق، مثل حركة الجهاد " ، و " منظمة الثورة الإسلامية فــي الجزيرة العربية " فــي العراق، و

29

في مصر. كما بنى هاشمي علاقات " حركة الجهاد " في فلســطين، و " الإسلامي بمنظمات في شمال إفريقيا والقرن الإفريقي وأميركا الجنوبية، إلى جانب الحزب الشيوعي في إسبانيا. ارتبط اسم مهدي هاشمي بوحدة حركات التحرر إلى أن عُُزل من منصبه وأُُعدم في عهد الرئيس الراحل، هاشمي رفسنجاني، الذي كان على خلاف صريح معه. وبعد عزله، حوكم هاشمي بتهم كثيرة من أبرزها محاولة اغتيال أحد رجال الدين زمن الشــاه (آية الله شــمس آبادي) وعدد من الاغتيالات الأخرى إضافة إلى الذي أصدره المســؤولية عن عدد من عمليات التفجير. وجاء في نص الحكم القاضي، علي رازيني، إعدام هاشــمي بتهمة مناهضة النظام والفساد والتحريض على الفتنة وترويع المواطنين. تربط الأدبيات الإيرانية بين تشــكيل فيلق القدس والوجود العســكري الأميركي في المنطقة. وبعد حرب الخليج الثانية، أعادت إيران صياغة الفكرة الأولى التي تجســدت في وحدة حركات التحرر بصورة مؤسسية أكثر. فجرى تشكيل فيلق القــدس، ليضطلع بمهمات خارجية وينظم العلاقة مع شــبكة الحلفاء. ويعرََّف جبهة مقاومــة قوية في مواجهة الصهيونية وأميركا في المنطقة من " الفيلــق بأنه . ويرتبط هذا التعريف بالسياسة الخارجية " البحر المتوســط إلى شــرقي آســيا الإيرانية، وهو ما فرضته " وقف العدو خارج الحدود " الإيرانية التي تعتمد مبدأ تجربة الحرب مع العراق خلال ثماني سنوات. لذلك يمكن القول: إن تأسيس فيلق القدس جاء بناء على اقتناع مفاده أن ممارسة الدبلوماسية في المنطقة دون حضور ميداني عملياتي غير ممكنة. تاريخيًًّا، تأسس فيلق القدس عقب انتهاء الحرب مع العراق، عندما قرر الحرس الثوري الإيراني تعزيز أنشطته الخارجية وتنظيمها، فأصدر آية الله علي خامنئي، ، بعد فترة وجيزة من توليه منصب القائد الأعلى، مرســومًًا يقضي 1990 ســنة . " فيلق القدس " أو " قوة القدس " بتشكيل قوة جديدة في الحرس الثوري باسم ومنذ تأسيســه، أصبح الفيلق القوة الخامســة في الحرس الثوري الإيراني، بعد القوات البرية والجوية والبحرية والبسيج (قوات التعبئة والاستخبارات). يعد فيلق القدس جزءًًا من العقيدة العسكرية الإيرانية المرتكزة على مفهوم الدفاع

30

الفسيفســائي؛ أي الحرب الشبكية لوحدات صغيرة ورشيقة، مستقل بعضها عن بعــض. ولكــن هذا الحضور العملياتي في الخارج خلق لإيران مشــكلات في علاقاتها الخارجية، وتســبب في إثارة خلافات داخلية كشــفت عنها تسجيلات مســربة لوزير الخارجية الإيراني السابق، جواد ظريف، يشتكي فيها من الأثمان الباهظة التي تحملتها الدبلوماسية الإيرانية بسبب الميدان الذي كانت له الأولوية لدى النظام، ويرى أن الدبلوماسية قد جرى التضحية بها من أجل الميدان. وكان عنصرًًا أساسيًًّا في إستراتيجية إيران الدفاعية. وكان " تصدير الثورة " ظل مفهوم مــن بيــن أولوياتها الأمنية بعد نهاية حربها مع العراق بناء تحالف إقليمي يكون بمنزلة قوة ردع تواجه أعداءها في الخارج وتُُبعد الخطر عن حدودها. في هذا الســياق، تشكلت خطوط الدفاع الإســتراتيجي الإيراني، في المقام الأول، في لبنان وســوريا والعراق واليمن وفلســطين. فلو وقع هجوم أميركي أو إسرائيلي ســتتحول إلى منطقة حرب فسيفســائية، بحيث " على إيران فإن المنطقة بأكملها 32 لا يبقى للعدو أي نقطة آمنة.. ولن تكون القواعد الأميركية والإســرائيلية الـ في المنطقة، في مأمن من الصواريخ الإيرانية.. وســتكون مصالحهم مهددة في ، جاء ذلك في مقابلة أجرتها الباحثة مع مجتبى " عشرات الدول في الوقت نفسه . ولتنفيذ هذه الإستراتيجية 2010 ذو النوري، القيادي في الحرس الثوري، ســنة الدفاعية تعتمد إيران جملة من السياسات، أبرزها: سـ ًا، من شــبكات ترتبــط بإيران عقائديًًّا � - أن يتكــون التحالف الإقليمي، أسا ، وهم مقاتلون " مدافعو الحرم " واقتصاديًًّا وإستراتيجيًًّا. ومن أمثلة ذلك ما يسمى لواء " مــن بلاد شــتى يدافعون عن مصالح إيران خارج حدودهــا، بعضهم في ، ولأســرهم منزلة خاصة عند قائد الثــورة، علي خامنئي. وعن هذه " فاطميــون هذه العائلات لها دََيْْن في عنق الإيرانيين جميعًًا، فقد " الشــبكة يقول خامنئي: قاتل أبناؤها دفاعًًا عن حريم آل البيت في سوريا والعراق، وواجهوا أعداء إيران في الخارج، وبدون هذه المواجهة كان يمكن لهؤلاء الأعداء أن يدخلوا إيران. . " فيلق القدس " ظريف يقصد بالميدان نشاط شبكة الحلفاء والفسيفساء الدفاعية الإيرانية

31

ولــو لم يقفوا في وجههم فإن إيران كانت مجبرة على محاربتهم في كرمنشــاه . " وهمدان وبقية المدن الإيرانية - جعل المســاعدات الأمنية للحركات الإسلاميــة المرتبطة بإيران محورًًا في إستراتيجية الأمن القومي الإيراني، وليس مجرد مساعدات جانبية أو مؤقتة يمكن لأي جهــة فــي النظام أن تتحكم فيها أو توقفها حســب مصالحها أو توجهاتها الأيديولوجية. - المرونــة في التعاطي مــع الجماعات المؤيدة لإيران، فتترك لها حرية اتخاذ القرار وفقًًا للمعطيات الميدانية التي تراها مناســبة، وتتغاضى، في المقابل، عن الخصوصيــات المذهبيــة والفكرية والميدانية لبعض تلك الجماعات. فلا تنتظر ا أكثر من قتال إســرائيل. في هذا الإطار، يقول القيادة الإيرانية من حماس مثلًا قرارنا هو الدفاع عن حماس، وإذا " القائد في الحرس الثوري، مجتبى أبطحي: ما حدثت المعركة مع إيران فمن المؤكد أن حزب الله سيشارك والحشد الشعبي سيشارك وكذلك أنصار الله وزينبيون، وهي إستراتيجية دفاعية بنيناها. أما حماس فيكفي أن تقاتل إسرائيل، وليس مطلوبًًا منها أن تقاتل معنا إذا تعرضنا لهجوم. إن المعركة الوحيدة التي يُُنتظر من حماس أن تخوضها هي الحرب مع إسرائيل . " لتحرير الأراضي الفلسطينية المحتلة طوفان الأقصى والأثمان المرتفعة لتعصف بكل الإســتراتيجيات الدفاعية في " طوفان الأقصــى " جــاءت عمليــة المنطقة، وشــك ََّل العدوان الإســرائيلي على غزة، الذي أعقــب العملية، تحديًًا الذي انخرط بمستويات مختلفة في " محور المقاومة " مباشــرًًا وغير مســبوق لـ المواجهة. وشك ََّلت تلك المواجهة اختبارًًا حقيقيًًّا للمحور في أهم قضية يعدها نقطة ارتكاز في ثقافته وخطابه، وكذلك في الموقف السياسي والعسكري لمساندة لفلسطين. لقد كشــفت هــذه المواجهة عن نقاط القوة والضعــف في المحور. وحيث لا إلا " خنق إسرائيل " يمكن التقليل من الدور الذي قام ويقوم به في إسناد غزة و في المواجهة مع إسرائيل، باتت " غير التقليدية " أن المحور أيض ًًا وجد أن اساليبه

32

مع تســخير التكنولوجيا بصورة غير مسبوقة من الجانب الإسرائيلي، " تقليدية " في عمليات معقدة وعميقة التخريب. وكانت تفجيرات البيجر التي اســتهدفت ا عن الآلاف مــن مقاتلــي حزب الله في لبنان أبرز عناوين هذه المواجهة، فضلًا استخدام أسلحة بقدرة تدميرية عالية. خلال الحرب الأخيرة، كانت إسرائيل تنجح في إقصاء قادة المحور الكبار شيئًًا فشيئًًا، في سلسلة من الاغتيالات التي حملت أهدافًًا ميدانية وعسكرية وسياسية. فاغتالت قادة حماس في عقر دار المحور (بيروت وطهران)، وشــجعها غياب الرد على الجرأة في اســتهداف القادة، فاغتالت الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، وكل أعضاء المجلس الجهادي للحزب. لقد ألحقت الضربات الإسرائيلية المتلاحقة والمتسارعة ضررًًا بالغًًا في بنية الحزب القيادية وفي كفاءته في إدارة الحرب. صحيح أنها لم تؤد إلى انهياره، وأبلى مقاتلوه بلاء حسنًًا في المواجهة مع جيش الاحتلال في الجنوب، إلا أن الحزب بدا مجبرًًا على القبول . ويبدو أنه سيحتاج إلى وقت 2024 بوقف إطلاق النار، في نوفمبر/تشرين الثاني ليس بالقليل لإعادة تنظيم صفوفه وتعيين قياداته ومعالجة مداخل الاختراق التي أصابته. لقد واصلت إســرائيل بكفاءة ضــرب حلفاء إيران، كما واصلت جعل الانخراط في محور المقاومة مكلفًًا لأعضائه. إيــران ذاتهــا، الدولة الداعمــة للمحور، لم تكن بعيدة عن مرمى الاســتهداف الإســرائيلي، وقد أظهر رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، جرأة غير مســبوقة في مهاجمة أهداف داخل إيران وخارجها، وهو ما أجبر طهران، التي ظلت تحاول تجنب مواجهة مباشرة تقول إن إسرائيل تسعى لجرها إليها، على تنفيذ هجومين الوعد الصادق " بالصواريخ والمســيرات في العمق الإسرائيلي. لقد حاولت في ، أن تثأر لكرامتها وترســي معادلــة ردع جديدة مع " 2 الوعــد الصــادق " و " 1 " الصبر الإستراتيجي " إسرائيل، بعد أن تبين لها أن سياستها السابقة المعروفة بـ لــم تفلــح فــي منع نقل المعركة إلــى عقر دارها. وقد كشــفت إيران في هذه المواجهة عن امتلاكها قدرة صاروخية تســتطيع الوصول إلى أهداف إســرائيلية بدقــة، لكن لا يمكن الجزم بــأن الهجومين نجحا بصورة كاملة في بناء معادلة الردع التي تريدها طهران.

33

سوريا: حلقة القوة والضعف شك ََّلت سوريا، على مدى سنوات، حلقة مهمة في محور المقاومة، سواء بالنسبة إلى ضمان خطوط الإمداد لحزب الله أو بالنســبة إلى حركتي حماس والجهاد الإسلامي. ففي الحالتين، كانت سوريا داعمًًا لا غنى عنه، وحكمت علاقتها مع إيران مصالح وأحداث تاريخية تعود إلى فترة حافظ الأســد وتعقيدات الحرب ، دخلت علاقة حركة 2011 الإيرانية-العراقية. ومع انطلاق الثورة الســورية في حماس مع نظام الأسد في أزمة وصلت حد القطيعة. وحين استؤنفت العلاقات ، ظن كثيرون أن تلك الأزمة قد طويت صفحتها. 2022 بين الحركة والنظام عام ورأى البعض أن عودة بعض قيادات حماس إلى دمشق دليل على وحدة محور المقاومة وتماسكه. لكن جمر إســقاط بشــار الأسد كان يستعر، وفجأة وجد نفسه خارج سوريا في لعبة إقليمية ودولية كبرى لم يكن الجيش السوري بعيدًًا عنها. ومع اقتراب قوات المعارضة من دمشــق، تكفل الحليف الروسي بتهريب الأسد إلى موسكو، فيما أدرك الإيرانيــون ومقاتلــو المحور، وفي مقدمتهم حزب الله، أنه لا جدوى من الاستمرار في الدفاع عن النظام إذا كان الجيش السوري لا يريد القتال. فقرروا الانسحاب عوض ًًا عن الاستدراج إلى قتال أشبه بالفخ. من ناحيته، اعتبر حزب الله تحريك الســاحة الســورية عقب وقف إطلاق النار بمنزلة استدراج لإغراقه مجددًًا في الســاحة الســورية، وهو ما لا يستطيعه وما لا تريده القيادة الجديدة للحزب متمثلة في أمينه العام، نعيم قاسم. خلال السنوات الأخيرة، واظب بشار الأسد على طلب تقليص الوجود الإيراني في سوريا، وهو ما حدث بالفعل. وقد فهم الإيرانيون ذلك على أنه نتيجة تقارب النظام مع الإمارات. لكن ذلك لم يكن السبب الوحيد لتقليص الوجود الإيراني، فقد وجدت إيران أن نخبتها من الحرس يتم استهدافها من قبل إسرائيل بصورة دقيقة، وخلصت إلى نتيجة مفادها أن المعلومات المتعلقة بهم كانت تُُرسل إلى إسرائيل من داخل الحلقة الضيقة لبشار الأسد. ومع طوفان الأقصى، رفض الأســد إحياء جبهة الجولان، رغم ترتيبات جرت على مدى ســنوات من قبل خبراء من إيران وحزب الله. فبدا وكأن الاســتثمار

34

الإيراني في ســوريا كان خاسرًًا، خاصة بعد إسقاط نظام الأسد، الذي رأت فيه طهران تحقيقًًا لهدف إســرائيل بإخراج إيران من ســوريا. من المنظور الإيراني، تبدو إســرائيل الرابح الأكبر من هــذا التغيير الذي حدث على يد المجموعات المعارضة والمعادية لإيران، والذي سمح لإسرائيل بشن غارات مدمرة استهدفت المنشآت العسكرية السورية والموانئ والمصانع، إضافة إلى احتلال المزيد من الأراضي السورية. وليس واضح ًًا ما إذا كان يمكن لسوريا أن تعود مجددًًا لتكون حلقة قوة في المحور الإيراني المعادي لإســرائيل، فاللعبة الكبرى تتواصل في المنطقة بين لاعبين تلتقي مصالحهم وتتعارض على أكثر من صعيد. تجديد الإستراتيجية الدفاعية وإعادة تعريف "محور المقاومة" ، " طوفان الأقصى " ستجبر التطورات الجارية في سوريا، والتحديات التي فرضها والعدوان على غزة، وانتقال المواجهة مع إسرائيل إلى مستويات تتجاوز الحرب في المناطق الرمادية، سيجبر كل ذلك إيران على إعادة بناء إستراتيجيتها الدفاعية. ورغم تأكيد طهران بأنها ستستمر في تقديم الدعم لحلفائها في المحور، إلا أن في إستراتيجيتها " محور المقاومة " مؤشرات كثيرة تفيد بأنها بصدد إعادة تعريف المســتقبلية، مع احتمال خســارة المزيد من الساحات، وليس العراق ببعيد عن ذلك. في هذا الســياق، تشــير النقاشــات في طهران إلى ضرورة التركيز على مقومات القوة الداخلية، وفي مقدمتها البرنامج الصاروخي وبرنامج المســيرات والبرنامــج النووي. فالاتفاق المتعثر بشــأن البرنامج النووي يوشــك أن يصل ، في ظل عودة ترامب إلى البيت الأبيض، والتهديد 2025 إلــى نهايتــه في العام الإســرائيلي المتواصل باســتهداف المنشآت النووية، وهو ما قد يدفع إلى تغيير كبير في العقيدة النووية لإيران. هــذا النقاش الداخلي بين " محور المقاومة " يعــزز من الدعــوة لإعادة تعريف مؤسســات صنع القرار فــي إيران. ولا تبدو حلقة الفكــر التي تحيط بالرئيس الإيراني ويتزعمها وزير الخارجية السابق، جواد ظريف، مقتنعة باستمرار السياسة الإيرانية على حالها في العلاقة مع محور المقاومة. ولعل هذا التوجه الذي خرج إلى العلن في أكثر من مناسبة قد شجع على مراجعة نقدية للحضور الإيراني في

35

Page 1 Page 2 Page 3 Page 4 Page 5 Page 6 Page 7 Page 8 Page 9 Page 10 Page 11 Page 12 Page 13 Page 14 Page 15 Page 16 Page 17 Page 18 Page 19 Page 20 Page 21 Page 22 Page 23 Page 24 Page 25 Page 26 Page 27 Page 28 Page 29 Page 30 Page 31 Page 32 Page 33 Page 34 Page 35 Page 36 Page 37 Page 38 Page 39 Page 40 Page 41 Page 42 Page 43 Page 44 Page 45 Page 46 Page 47 Page 48 Page 49 Page 50 Page 51 Page 52 Page 53 Page 54 Page 55 Page 56 Page 57 Page 58 Page 59 Page 60 Page 61 Page 62 Page 63 Page 64 Page 65 Page 66 Page 67 Page 68 Page 69 Page 70 Page 71 Page 72 Page 73 Page 74 Page 75 Page 76 Page 77 Page 78 Page 79 Page 80 Page 81 Page 82

Made with FlippingBook Online newsletter