حجر الأرض: صراع الغزاة والحماة في أفغانستان

يرصد المؤلف في كتابه -الذي صدرت طبعته الورقية في ديسمبر/كانون الأول من العام الماضي- الأيام الأخيرة للاحتلال الأميركي لأفغانستان، وينقل بأسلوب أدبي مشاهداته، رابطًا بين ما يراه وما قرأه عن التاريخ السياسي والاجتماعي لهذا البلد. بعد المقدمة والمدخل الاستهلالي يتحدث المؤلف عن الأهمية الجيوستراتيجية لأفغانستان وأسباب اهتمام الإمبراطوريات العظمى بالسيطرة عليها عبر الحقب الزمنية المختلفة، وصمود الشعب الأفغاني في وجه تلك الإمبراطوريات وجهاده لها بثبات ومثابرة حتى إخراجها منها

حَجَر األرض صراع الغزاة والحماة يف أفغانستان

حَجَر األرض صراع الغزاة والحماة يف أفغانستان

أحمد فال الدين

هـ 1443 م - 2021 الطبعة األوىل: ديسمرب/ كانون األول

ISBN: 978-605-71169-7-0

إن اآلراء الواردة يف هذا الكتاب ال تع بالرضورة عن مركز اجلزيرة للدراسات

الدوحة- قطر 4831346 فاكس: ) +974 ( 4930218 - 4930183 - 4930181 هواتف: jcforstudies@aljazeera.net البريد اإللكتروني:

جميع الحقوق محفوظة

يمنع نسخ أو استعامل أي جزء من هذا الكتاب بأية وسيلة تصويرية أو إلكرتونية أو ميكانيكية بام يف ذلك التسجيل الفوتوغرايف والتسجيل عىل أرشطة أو أقراص مقروءة أو بأية وسيلة نرش أخرى بام يف ذلك حفظ املعلومات، واسرتجاعها من دون إذن خطي من النارش.

التجهيز وتصميم الغالف: قطاع اإلبداع الفني بشبكة اجلزيرة اإلعالمية

7........................................................................................ُ قبل 11................................................ مدخل: من كانساس إلى كابل 13....................................................................... أسوار خراسان 21.................................................................. الجنون الجماعي 33........................................... الفصل األول: األفغان زمانا ومكانا 35....................................................................... لعنة الحسناء 38......................................................... عالقة خاصة باإلسالم 41....................................................................... منطقة عازلة 46....................................................................... ظالل املاضي 59.............................. الفصل الثاني: انبثاق حركة وميالد وزعيم 61........................................................... يف البدء كانت املرأة 66....................................................................... البردة النبوية 69........................................................... حَجَر األرض: املال عمر 74..................................................................... شبح يف الظل 81................................................................. األطباء الوهميون 85...................................................................... املؤمن الصلب 87..................................................................... تسليم بن الدن 91........................................................................ نهاية حكاية 95........................ الفصل الثالث: العمائم املظفَّرة: عودة طالبان 97........................................................................... ليلة البارود 109............................................................... التوجس من املرأة 121................................................................ سر صمود طالبان 131................................................................... الصفعة األخيرة 136..................................................................... . م 11:59 ، كابل 141........................................................ بين أطالل إمبراطورية 146......................................................................؟ طالبان أخرى

5

155..................................................................... اللحى العنيدة 166............................................. بين برنارد لويس وابن خلدون 173................................................................................... خاتمة 175................................................................... املصادر واملراجع

6

قبل

عندما تحركت الدبابات الســوفيتية جنوبا لغزو أفغانســتان مســاء ؛ كان كاتــب هــذه الحروف رضيعا. 1979 ديســمبر/كانون األول 24 ومنذ تلك اللحظة وأفغانســتان ساحة حرب ومكايدة بين اإلمبراطوريات المتشاكســة. فلم تعرف أرض األفغان استقرارا في تاريخها الحديث إال ، وذلك المساء الشاتي الذي بيّتتْها 1919 ما بين اســتقاللها عن اإلنكليز فيه دبابات الجيش األحمر. غيــر أن الصراع على أفغانســتان أخذ منعرجــا ملحميا يوم غدت ســفوحُها ووهادُها مســرحا ألقوى قوة في التاريخ الحديث: الواليات المتحــدة األمريكية. فمنذ عبرت المقاتالت األمريكية جبال الهندوكوش عادت أفغانستان مرة أخرى 2001 مساء السابع من ديسمبر/كانون األول لفصل آخر من فصولها مع الغزاة. لقد كانت هذه الحقائق في ذهني وأنا أحزم حقائبي مســافرا إليها، موفــدا من قناة الجزيرة لتغطيــة خروج األمريكيين منها، ودخول طالبان إلــى عاصمتهــا. كنت أستشــعر أنني أكتب األحــرف األولى من تاريخ صحفــي ســيبقى. كما كنت أحس، وأنا أجول بيــن مدنها وقراها، ذلك الدبيب الداخلي المنعش الذي يستشعره كل مؤرخ، أو واع بالتاريخ في األماكن المفعمة بالعنفوان الحضاري. فليست جبال أفغانستان مكانا رماديا

متواريــا عن رياح التاريخ، بل ظلت منذ القِدم حلْبة مدهشــة لنجاحات اإلنســان وتعاساته، ومسرحا رحبا لبرهنة اإلنسان على إنسانيته المتوثبة، وشيطانيته الدَّرَكية. إذ كانــت أفغانســتان تاريخيا بؤرة اســتقطاب لصُنّــاع الحضارات ومقوِّضيها منذ اإلســكندر األكبر، واألكاســرة، وجحافــل جينكيزخان. وظلت تلك البقعة -دوما- ممرا أبديا للغزاة والتجار، والفرسان والشعراء، واألولياء والعبيد. لكن ولع الغزاة بهذه البالد يقابله عناد ملحمي من أبنائها. فقد ظل اإلنسان األفغاني صخرة من ضخور الهندوكوش صعبة االقتالع، راسخة راســية. فقد برهــن األفغاني طيلة تاريخه أنه تجســيد حي للعبارة التي وصف بها زعيم الدعوة العباســية قائدَه العســكري أبا مسلم الخراساني من أنه «حجر األرض». وهي عبارة كثيفة الداللة تشير إلى ثبات الجنان، وصالبة الوجدان، والتشبث بالمكان. هــذه الحقائــق دعتني إلى كتابــة هذه الفصــول لوضع األحداث المتكشــفة في أفغانســتان ضمن سياق أرحب. إذ حاولت أال أكون مثل كثيــر من الصحفيين الذيــن يعميهم الخبر اليومي الجــاف المنبت عن جذوره التاريخية، وشروطه الحضارية. فلعل النظرة الفوقية المازجة بين اليومــي والتاريخــي، واللحظي والحضاري، تمنح المــرء ثباتا في عالم متقلــب، وتمده بفهم ليوميات األخبار المتالحقة. ولذا آثرت كتابة هذه

8

لتخرج أثناء تكشّــف األحداث علّها تساهم في خلع ((( الفصول ســريعا بعض المعاني عليها. ولله األمر من قبل ومن بعد.

أحمد فال بن الدين هـ، 1443 ربيع األول، 29 الدوحة، .2021 نوفمبر/تشرين الثاني، 04 الموافق

أشكر األصدقاء الذين قرؤوا المسودة رغم ضيق الوقت. محمد المختار بن أحمد ((( (أبا نزار)، ومحمد المختار الشنقيطي، وأسلم فاروق، وعبد القدوس الهاشمي.

9

مدخل

من كانساس إلى كابل

11

أسوار خراسان

«كانت حرب أفغانستان –دون شك- فشال استراتيجيًا مُريعا»! رئيس هيئة األركان األمريكية املشتركة الجنرال مارك ميلي يف شهادته أمام الكونغرس

المست عجالت الطائرة أرضية كابل. كانت الفكرة التي راودتني أنّا نتحرك عكس الغريزة البشرية، فالناس يهربون ونحن ندخل! وقد اقتضت االحتياطــات األمنية أال نخرج خروجا طبيعيا من المطار الذي كان منطقة عسكرية تخضع ألقصى درجات الحيطة والحذر العسكرييْن. رفع القبطان صوتَه متحدثا إلينا من المسمِّع عن كيفية الخروج ومحاذيره، لكن ضوضاء الطائــرة التــي أقلتنا من الدوحة إلى كابل كانــت تُصم اآلذان. انفتح باب الطائرة الخلفي فالحت أنوار كابل تتألأل على الجبال المحيطة بالمدينة. خطونــا الخطــوات األولى على أديــم كابل. مــا إن ترجلنا حتى داعبتْنا أنســام جو جميل ال يشــبه حر الدوحة الذي خلفناه وراءنا قبل ســاعات. كان الجــو يرتجف توترا رغم الهــواء المنعش. آالف الجنود -من األمريكيين وغيرهم- يُشــهرون أسلحتهم، وآالف األفغان يزحفون فــي طوابيــر طويلة رجاال ونســاء وأطفاال، يتشــبث بعضهم ببعض في طوابيــر حلزونيــة حيرى. أول مالحظــة صدمتني هي أن كابل ال تعرف تــرف الكمامات الكوفيدية، لكأن الكمامة ترف مُدَّخَر لطيّب البال خَلي القلب. أما من يعيش تحت أزيز الطائرات ودوي االنفجارات فمســتثنى من ترف االحتياطات الكوفيدية.

13

وجدنا المطار وقد تحوّل إلى معسكر للجنود تحت الظالم المخيم. تلفت فلم أر إال جنديا ال يكاد يبدو شيء من جسده؛ بزة عسكرية خشنة، وأســلحة كثيرة متعلقة بأطراف جسمه ال تشكل البندقية إال واحدة منها. ســرنا تحت عيونهم بترقب. كأن كل خطوة نخطوها تشــكل خطرا على شــخص ما لشــدة االحتياطات األمنية. كأن كل قدم تقع على األرض حدث يســتفز مســلحا ما. عادت بي الذاكرة أربع سنوات، إلى أكتوبر/ ، يوم نزلت هنا في مطار حامد كرزاي الدولي 2017 تشرين األول عام وتقدمت مع مئات الركاب العاديين جهة موظف الجوازات. ال شيء من كل ذلك اآلن. تقدمنا بين جدران المطار الســميكة متجهين إلى بوابة الخروج. ما إن اقتربنا منها حتى نهرنا جندي أمريكي: إلى أين؟ مستغربا كيف يكون آالف الناس متكدسين أمام البوابات حالمين بدخول المطار ونحن نخرج طائعيــن منه! أجبناه: نريد أن نخرج.. نحن صحفيون. قال جندي ألحد الزمالء: كنت أظن الجنون مقتصرا على العســكريين، أما اآلن فأعترف بأن الصحفيين أجن منا! شعرت بالضيق من كالم الجندي ألنه أيقظ في تالفيف ذاكرتي أبيات ؛ فكأن ((( م) عن زيارته لخراســان 808 هـ/ 192 العباس بن األحنف (ت سوء الحظ) قد أصابت من ينزل في مطار =( الجندي يرى أن عين الزمان كابــل والناس عنه راحلــون. تجاوزت الجندي مُقلِّبا بصري في الحيطان الطويلة والجنود المنتشرين في كل ركن، متمتما بأبيات ابن األحنف: تطلق خراسان تاريخيا -بحدودها الواسعة المسماة «خراسان العليا»- على ((( معظم أفغانستان وتركمانستان وأوزبكستان وقرغيزستان، وجميع طاجيكستان، وشرقي إيران.

14

قالوا خراسان أقصى ما يُراد بنا ٍثُم القُفُولُ.. فقد جئنا خراسانا ما أقدر الله أن يُدني على شَحَط سُكان دِجْلة من سكان جَيْحانا عين الزمان أصابتنا، فال نظرتْ! ((( وعُذبت بفنون الهَجْر ألوانا وصلنا البوابة الخارجية. رأيت جنديا أمريكيا مكتنز الجســم قصيرا ينوء كاهله بأســلحته يقف ممســكا دفترا رماديا متوسطا. كان ينظر إلى الدفتر ويحرك شــفتيه. تســاءلت ما الذي يفعله؟! هل يقرأ نصوصا في هــذه الظروف يتســلى بها؟ وبعد دقائق دخل فوج مــن المدنيين فرأيته يمد يده ليحصيهم ويخط في الدفتر. كان يحصي أعداد الداخلين واحدا واحدا. فكل إنســان يتجاوز هذا الجندي داخال المطار يشــعر بالوالدة مــن جديد.. فرِحا بالنجاة من مدينة تعيــش يومها الثالث دون حكومة، وتدخل عَقْدها الخامس تحت الرصاص. يشعر العابر إلى داخل المطار بنشــوة الهارب من طابور ربما أخذ من عمره أياما وســط أكوام البشر. لكــن هذا العابر عند ذلك الجندي مجــرد رقم ينضاف ألرقام في دفتر رمادي فحسب! تجاوزنا الجندي فقال: احذروا... فالوضع في الخارج مرعب! تجاوزناه قليال فصاح جندي آخر: - هل أنتم متأكدون من رغبتكم في الخروج؟ لم نلتفت. مشينا إلى المخرج فالحت الصورة الكاملة؛ آالف الناس يتدافعــون جهة البوابة التي نريد الخــروج منها. آالف األرواح المرهقة والعيون المتوسلة واأليدي المرتعشة الممتدة بحثا عن طوق نجاة. شباب .388 ، 8 ، (بيروت: دار الفكر)، دون تاريخ، األغاني أبو الفرج األصفهاني، (((

15

عاطلون فُتحت لهم فرصة ال تتكرر للهروب، وعيون تجسُّس للغزاة غادر أســيادُهم فجأة وتركوهم أيتاما في مدن يديرها مســلحو طالبان. شبرا.. شــبرا.. خرجنا؛ دفعا بين األكوام البشرية المتعبة، وروائح مكان تكدس فيه اآلالف أياما دون تنظيف. التفت أحد الزمالء وقال: هذه الرائحة تذكرني بليالي منى ومزدلفة! حزّت في نفســي عبارة زميلي؛ وتمنيت لو أن اللحظة مناســبة ألحدثه بالتفصيل عن ليالي منى قديما. فقد كانت ليالي منى في التاريخ اإلسالمي ليالي إمتاع وجَمال وعطور، وكانت من أكثر الليالي التي يبكيها الشعراء لجمالها وروعة مظاهرها. والشــعر العربي شاهد على ذلك خاصة شعر ابــن أبي ربيعة. ومن األمثلة الشــعرية المعبرة عــن رائحة المكان قول ْالنميري الثقفي: تضوَّع مسكا بطن نَعمان أن مشت ًبيه زينب في نسوة عطِراتِ! تهادَيْن ما بين المُحَصَّب من منى وأقبلن ال شُعثا وال غبِراتِ! لكني أعرضت عن كل ذلك. فقد كان أحد الزمالء مشغوال بمحاولة التواصل مع زميلنا حميد الله شاه المسؤول عن مكتب الجزيرة في كابل ليأتي ألخذنا، لكن ذلك بدا مســتحيال خالل الساعات الماضية؛ فإشارة الهاتف ضعيفة جدا بسبب التشويش المتعمد أمريكيا. وبعد جهود وتنسيق رمينا حقائبنا الكثيرة عند البوابة ووقفنا ننتظر في الداخل. شــعرت بتعب من الوقوف فحاولت التراجع ألســتند إلى الحائط، فصرخ جندي أمريكي مســتلق قرب قدمــي تحت الحائط. أدرت عيني فالحظــت أن الجنود المنهكين موجودون في كل زاوية، نائمون في كل ركن من التعب الماحق. جالت في ذهني أسئلة دالة: هل تسلل شيء من

16

اإلرهاق إلى اإلمبراطورية األمريكية بعد طرحها لجنودها هنا؟ كيف لم تتســع عشرون عاما لترتيب رحيل منظم؟ هل فوجئت الواليات برحيلها الذي برمجته منذ سنوات؟ أم هي صالبة األفغاني وقدرته الخارقة على تعكير مزاج الغازي دوما؟ ابتعــدت عن الجندي المســتلقي على التراب، الغــارق في النوم والظــ م، وأنا أفكر في قصة هــذه األرض مع الغزاة. الحت لي جبال كابل متأللئة بعيدة شــامخة مُظلَّلة بالعناد الســرمدي. هل جاء غاز هنا وغادر طيّب النفس قار البال؟ أم إن األفغان ظلوا دوما أمة عصية على » حسب تعبير ((( الترويض واالحتالل؛ «أمة حربية ال تدين لسلطة األجنبي م). 1897 هـ/ 1314 جمال الدين األفغاني (ت امتــ ذهني بصور تاريخية مختلفة. صورة الجيش البريطاني الذي م، ولحظة خروج البريطانيين 1842 أُبيــد هنا في يناير/كانون الثاني عام ، ولحظات انسحاب الدبابات السوفيتية في فبراير/شباط عام 1919 عام م. 1989 انتبهــت من التأمل التاريخي على شــاب أفغانــي يدخل إلى بوابة المطار. تجاوز «بوابة آبي» ووقف رافعا يديه. فتشه الجندي تفتيشا دقيقا ثم أشــار له بالتقدم إلى داخل المطار حيث الطائرات الرابضة واألحالم المجنحة. كان وجه الفتى األفغاني يطفح بِشــرا. فهذه هي اللحظة التي تحلم بها كل روح من هذه األرواح المنهكة الزاحفة على أرضية المطار. أشار الجندي للشاب طالبا منه الدخول لكنه لم يتحرك. بدأ يتحدث مع (القاهرة: مؤسسة هنداوي تتمة البيان في تاريخ األفغان، جمال الدين األفغاني، ((( .15 م، 2014 للتعليم والثقافة)

17

الجندي كأنه يحاول إقناعه بأمر. فتح الجندي ذراعيه ومد إحداهما جهة المطار واألخرى جهة الجموع ورفع صوته: - همــا خيــاران: إذا كنت تريــد الحرية فادخــل، وإذا كنت تريد أفغانستان فعُدْ! اقتربت منهما بحيث صرت أسمع حديثهما بيّناً. قال الشاب األفغاني متوسال: - اسمح ألسرتي! أتوسل إليك أن تسمح ألسرتي لتأتي معي! عاد الجندي مستخدما عبارة «الحرية» بالفارسية هذه المرة، رافعا صوته أكثر: - إن كنــت تريد «آزادي» فتفضل إلى الداخل، وإال فعد أدراجك إلى أفغانستان. ال أسمح ألسرتك بمرافقتك! استمر النقاش والمحاوالت حتى صرخ جندي أسمر جالس على طرف الحائط: - اكْريسْ! اركل مؤخرتَه وأرجعه من حيث أتى! دفع الجندي الشاب األفغاني وهو يتوسل حتى أعاده جهة الجموع. أتبعت الشاب عيني حتى توارى وسط الطوابير متجاوزا سيارة جنود طالبــان الذين يذودون الناس عــن البوابة التي يقف خلفها األمريكيون. بدت الصورة معبرة عن أفغانســتان الجديدة؛ مسلحون من حركة طالبان واقفون أمام البوابة يســاعدون في ضبط الناس وتنظيم دخولهم المطار بالتعاون مع الجنود األمريكيين!

18

من كان يتخيل هذه الصورة؟ مســلح طالباني يضع يده على الزناد، وجندي أمريكي بقربه ال يطلق عليه النار! كانا يتحدثان وينسقان. هل هذه هي أفغانستان الجديدة؟ خطر لي أن األمر ليس مستحيال؛ فكل حركات التحــرر مــن الجزائر إلى زيمبابوي تصافح فيها الغــازي والمَغزُو لحظة رحيل المستعمر، فالحرب بين االثنين إنما قامت إلخراج الغازي فحسب. كان الطالبانيون شبابا من الناس، أفغانا يلبسون كما يلبس األفغان، ال تميزهم إال بالرشاش؛ أما المالبس واللحية فمنظر أفغاني أصيل. وكان يمكن تمييز سلوكهم عن سلوك الجنود األمريكيين بطريقة السيطرة على الحشــود؛ فالجندي األمريكي يصرخ ويحذّر ويدفع بيديه، أما الطالباني فيدفع بأعقاب البندقية ويرفعها مهددا بها كأنها عصا. لكنه أيضا يضحك ويمزح ويتحدث لغة الناس، أما األمريكي فمكفهر متترِّس خلف بندقيته وخوفــه وجهلــه بطبيعة األرض وأهلها. طال مكثنا عند البوابة ونحن ال ندري ما نفعل. شــعر الجندي الــذي نقف إلى جانبه بالتوتر من وقوفنا قربه فاقترح اقتراحا عمليا. أشار إلى حافلة عالقة وسط الجموع: - أرى أن تتفقــوا مع صاحب تلك الحافلة وتُدخلوا حقائبكم فيها وتجلسوا هناك. وقد يساعدكم مسلحو طالبان على الخروج. راقت لنا الفكرة. وبعد دقائق كنا جلوســا داخل الحافلة، غير أنها كانت كلما حاولت التحرك ضربها الناس بأكفهم تحذيرا. كنت جالســا قــرب النافذة أتأمــل الجموع. كانت قرب نافذتي امــرأة تحمل رضيعا ومعها رجل. أخرجت هاتفي ألصور المشــهد رغم الظالم فأشارت إلي أال أصورهم. أغلقت هاتفي وأعدته لجيبي مما حرمني من أي صورة من تلك الصور التاريخية.

19

ظل الســائق يحاول بين الفينة وأختها التحرك فنســمع القرع على الحافلة من كل جانب. ال يوجد شبر يتحرك فيه. بعد نحو نصف ساعة حاول مســلحو طالبان فتح الطريق لنا. وبعد محاوالت انفســح الطريق واستدارت الحافلة وبدأت تتحرك في الشارع المكتظ. عبرنا سباحة بين أمواج من الطوابير البشرية حتى خرجنا. وما كدنا نســل أجســادنا من الجموع حتى بزغ الفجر، مع أنا وصلنا إلى المطار نحو الثامنة مســاء بتوقيت كابل. دخلنا كابل وعباءة الليل تنحســر عنها انحسارا... كانحسار النظام المدعوم أمريكيا عشرين عاما. تلفت فرأيت شــبان طالبان عند نقاط التفتيش. كانوا يؤشرون مسلّمين مبتمسين، بينما تلوح األسلحة المصنعة أمريكيا على أكتافهم. التفت ورائي فلمحت من بعيد خوذات الجنود األمريكيين مشرئبة من وراء جدران المطار، تداعبها أشعة الشمس المتسللة من خلف الجبال. بــدا الجنود األمريكيون منشــغلين بطي أمتعتهم اســتعدادا لرحيل نهائــي، بعد عشــرين عاما من التخبط في الوحــل األفغاني. جاءوا قبل عشرين عاما بحجة إسقاط طالبان وها هم اليوم يسلمونها المفاتيح قبل الخروج. ألح علي ســؤال واحد وأنا أبتعد عن المطار متوغال في كابل التي بدأت تتململ مستيقظة. كيف بدأ كل هذا؟

20

الجنون الجماعي

«لن نتعثرَ، ولن نتعبَ، ولن نفشلَ.» الرئيس األمريكي جورج وولكر بوش

، استيقظت باكرا وتوجهت 2021 من أغسطس/آب 18 في صباح إلــى مطــار كابل. اقتربت بصعوبــة من البوابة الرئيســية، حيث الجنود األمريكيون ومسلحو طالبان ينسقون عمليات اإلجالء من البالد. خضت طوابير آلالف الشبان األفغان الباحثين عن فرصة لرفع مستواهم االقتصادي بالســفر المجاني إلى الواليات المتحدة. كنت ألبس الســترة الصحافية الواقيــة من الرصاص، ومعي منتج ومصور وحارس وســائق؛ فكان من السهل تمييزي. سارع إلي كثير من الشبان حاملين أوراقا وملفات. يحمل بعضهم إفادات عمل مع منظمات دولية، ويحمل آخرون أوراقا ال يشك الناظر إليها في أنها مزورة. ســألوني كيف يستطيعون العبور إلى الجنود األمريكيين ليسمحوا لهم بركوب طائرة شحن إلى الواليات المتحدة أو أي دولة أوروبية؟ شــرحت لهم أني صحفي ال غير؛ فال أســطيع مساعدة أحد منهم، وال علم لي بطبيعة الوثائق المسموح لصاحبها بالسفر. تجاوزت الجموع منطلقــا إلى البوابة التي على يميني حيــث الجنود األمريكيون. اقتربت خطوات فالحت سيارة طالبان متوقفة عند البوابة قرب الجنود األمريكيين.

21

هل هذه هي أفغانســتان القادمة؟ بالد يقوم أمرها على تعاون أمني بين عدويْن سابقين، تعاون براغماتي مع احتقار وتوجس متبادلين. زواج متباغضين أجبرتهما السنين على تقاسم سقف واحد دون ذرة من حب، أو خفقة من قلب؟ أعــدت النظر في الصورة الجاثمة أمامي؛ آالف الجنود األمريكيين الذيــن أرهقهــم التعب وأضناهم العمل المتواصل والتنظيم المســتحيل محاولين الخروج من أفغانســتان بأقل خسائر. شبان صغار، من واليات أمريكيــة متفرقة نأت بهم الدار، وقذفهم الطموح اإلمبراطوري إلى هذه البيئة الطاردة. أيــن الدقة األمريكية المشــهورة والتنظيم والعمــل المتقن المنظم المنجَــز في إبَّانه؟ كيف تأخروا في كل شــيء حتــى وقع هذا؟ هؤالء جنودهم معرضون للقتل، مرهقون مغبرّون عالقون بين أكوام القمامة ال يســتطيعون حَراكا. ما الذي جعل أقوى قوة مادية وعســكرية على وجه األرض ترحل هذا الرحيل المهين، هذا الرحيل المتعجل.. رحيل اللص الذي فاجأه رب البيت فأعجله عن كل شيء! 2001 اســتيقظت في ذهني صورة السابع من أكتوبر/تشرين األول يوم كنت وســط الغرب األمريكي منصتا لخطــاب بوش معلنا بدأ غزو أفغانســتان. ما زلت أذكر إطالالته في بزته الســوداء وربطة عنقه العنابية وهو يتحدث بحسم، بينما تظهر السيارات عابرة وراء النافذة التي يجلس قربها. تحدث بوش حديثا حاسما وأنصتت له الواليات المتحدة والعالم المرتجف من ورائها. أعلن بدأ قصف أفغانســتان، ثم ختم مهددا: «لن We will not waver, we will نتردد، ولن نتعثر، ولن نتعب، ولن نفشل» ( .) not tire, we will not falter, and we will not fail

22

وكل مــا وعد بــوش بأنه لن يكون قد كان. وقفــت قرب الجنود األمريكيين المترددين، الخائفين، المتوترين، الغائصين في القمامة؛ أستعيد ذكريات مريعة. لقد كان خطاب بوش يومها خطابا عاطفيا مُلفَّفا بالغضب، ال كالما محكوما بالمنطق. لقد كان في قمة الجنون الجماعي الذي كنت شاهدا . لن يستطيع أحد فهم 2001 من سبتمبر/أيلول 11 عليه صبيحة الثالثاء من ســبتمبر/ 11 الجنون الجماعي الذي أصاب الواليات المتحدة بعد أيلول إال إذا عاصر الضربة داخل العمق األمريكي. وإن أنْــس ال أنْــس لحظة وقوفي في طــرف مقهى بوالية ميزوري والنــاس متحلقون على شاشــة صغيرة تعرض صــورة طائرة تدخل في برج التجارة العالمي. وقفت وســط النَّظارة أتأمل المشــهد. كنت يومها في الرابعة والعشرين من العمر، أعيش هناك كادحا محاوال الدراسة وحفر موقع لي في الحياة في أرض األحالم تلك. انتفضت الواليات المتحدة من ساحلها الشرقي إلى ساحلها الغربي تحت هول الصدمة. هبطت عشرات آالف الطائرات من الجو، وانقبضت األيدي عن العمل، وكسد السوق. وبقي األمريكيون مشتتين في واليات ممنوعين من السفر، وليس لهم إال التأمل والحنق والغضب من هذه اليد التــي امتلكت الجرأة لتمتد إلى إمبراطوريتهم وتصفعها وهي واقفة على المسرح العالمي تستعرض مفاتنَها وجبروتَها. فــأي منبع ثقافي ذاك الذي يجعل شــبانا آتين مــن بلدان متخلفة يدخلــون أرض األحالم لهذا الهدف؟ فالمتوقع من الشــاب القادم من البلدان المتخلفة أن يدخل الواليات المتحدة مرفوع اليدين طالبا السالمة

23

واالندماج فحســب. لكن هؤالء دخلوها وكل منهم يخفي تحت مالبسه خنجرا منقوعًا في االحتقار ليطعنها به! ضج اإلعالم األمريكي على مدار الســاعة بالحديث عن اإلسالم والمسلمين والقرآن وابن تيمية وابن عبد الوهاب وسيد قطب واإلخوان المسلمين وتنظيم القاعدة وأسامة بن الدن وأفغانستان وطالبان. دخلت كلمات كثيرة القاموس اإلنكليزي بســبب الضخ اإلعالمي: «المدرسة» و«طالبان» و«الجهاد» كانت من أشهر الضيوف على المعجم اإلنكليزي. مر يوم واحد على األحداث ثم وقفت الواليات المتحدة ثورا هائجا غاضبا يبحث عن عدو يهجم عليه. خزائن مألى بالسالح، ومئات آالف الجنود المدججين جاهزون، وبارجات رائعة جاثمة انتظارا لألوامر، وعدو قليل العدد، غامض المالمح. كانت الساحة ممهدة لالشتباك. كان أول ما قامت به الواليات المتحدة هو التركيز على المسلمين الموجوديــن داخل أراضيها. وكانت ثم شــروط ال تنطبق على أحد إال أمســى هدفا للمخابــرات والمضايقات، وكنت أحد هــؤالء. فقد كنت شابا أعزب أسكن شقة صغيرة وسط مدينة كنساس سيتي، ما بين والية كنساس ووالية ميزوري. عدت يوما من العمل على تمام الثانية ظهرا. فتحت الباب فلمحت وُريْقة صغيرة مدسوسة على العتبة. رفعتها فرأيت عليها الـ«أف. بي. آي» (مكتب التحقيقات الفدرالي)، وقد كُتب عليها بخط واضح: «اتصل بي اليوم»! تأملت البطاقة فلمحت اســم المحقق أظنه ديفيد. أخذت الورقة ودخلت إلى الشقة متسائال: ماذا يريد هؤالء؟

24

كنت شــابا متهورا يومها. حتــى إن أحد األصدقاء اتصل بي -من إحدى الواليات- شاكيا من كثرة دخول الـ«أف. بي. آي» عليه، فغبطته! قلت له: أنا أريدهم أن يســتجوبوني، أريــد أن أراهم واقعا بعد رؤيتهم أفالما! كنت متهورا وأعلم أني لم أرتكب جرما، ولذا رأيت االستجواب فرصة لرؤية الـ«أف. بي. آي» فحسب. - وضعت الهاتف ورفعت الورقة واتصلت. -آلو.. -آلو - من المتصل؟ - أنا أحمد.. تركت لي رسالة تحت عتبة بابي تطلب أن أكلمك. - آه، نعم نعم. - لماذا طلبتم أن أتصل بكم؟ - أمر بسيط. فقط عندي أوراق أريد عرضها عليك. - ال بأس. نلتقي في مطعم مكدونالدز األقرب لمنزلي على شارع برادوي. - تماما. متى؟ - بعد نصف ساعة؟ -ممتاز! وانتهت المكالمة. استحممت وغيرت مالبسي ونزلت. خرجت من مبنى «أمباسادور» ولففت يمينا مع شــارع برادوي حتى وصلت المطعم. أوقفت ســيارتي

25

ودخلت باحثا عمن أتوسم فيه أنه من الـ«أف. بي. آي».. تخيلته ذا بنية رياضية ونظارات شمسية سوداء. جلســت نحو خمــس دقائق، فظهر رجل أحمر قــوي البنية يلبس صدريــة خضــراء فوق قميص أحمر ونظارة شمســية. خطر لي أنه هو. تجاوزنــي ذاهبا للباب اآلخر. فتحــه ونظر ثم عاد. وقفت وتقدمت إليه فتردد قليال ثم قال: -أحمد؟ -نعم! -تفضل. جلسنا حول طاولة في الركن الشمالي من المطعم. صعّد نظره معي وقال بحماس مفتعل: - الجو لطيف جدا اليوم - نعم.. هو كذلك. بدأ يســألني بعض األســئلة التي أراد أن يُفهمني أنها عابرة وليست مهمة. لكني كنت منتبها جدا وعارفا أنه سيعيدها الحقا. - متــى وصلــت لهذه البالد؟ ماذا تفعل هنــا؟ لم جئت إلى هذه الوالية بالذات؟ ومد يده: - هل عندك هوية حتى أكتب معلوماتك؟ أدخلــت يدي في جيبي وناولته هويتي. أخرج دفترا أصفر مخططا وبدأ يكتب. مرت دقيقة دون أن يسألني فقلت:

26

- لم ال نبدأ؟ - تحرك في مقعده: - ما زلت أنتظر زمالء لي.

قالها ثم بدأ يلقي بعض األســئلة المشــتتة عن الســكن وطبيعته، وأصدقائي، ولماذا جئت إلى الواليات المتحدة؟ بعد نحو عشــر دقائق رفع وجهه جهة الباب فظهر رجل وامرأة في بدالت رسمية سُود. اقتربا وسلما وجلسا معنا. كان الرجل عجوزا حليقا، أبيض الشعر حاد النظرات معروق الوجه. أما المرأة فكانت فتاة رشــيقة في مقتبل العمر. جلســت الفتاة في وجهي وجلس العجوز عن يميني بينما ظل ديفيد عن يساري. بدأ التحقيق بالصيغة التقليدية بطلب معلومات ال حصر لها عني، ثم أخرج ديفيد ورقة من ظرف عنده وسألني وكأنه يعطي كل حرف حقه: - ما هذه الرسالة التي أرسلت من البريد األسبوع الماضي؟ كانت الرســالة ألفــي دوالر (بصيغة «مَانــي أُورْدرْ»/حوالة مالية) أرسلتها إلى أحد الموريتانيين في والية كنتاكي. - هذه رسالة ألحد الموريتانيين ليحولها إلى بالدي. -لماذا؟ - أرسلتها مساعدة ألهلي في بعض شؤونهم كما أفعل شهريا غالبا. تحركت الفتاة ووضعت يديها على الطاولة ونظرت إليهما أوال ثم حدقت فيَّ: - لم لم ترسل المال بحوالة بنكية إلى حساب أهلك؟ شعرت باالستفزاز:

27

- هل تظنين أن لدى أمي حســابا بنكيا؟ إن الحياة هناك ليســت كالحياة في كنســاس ســيتي. نحن نرسل المال بهذه الصيغة، وال صيغة أخرى غير هذه. كانت الواليات المتحدة يومها تشــك في كل شيء، وتحاول رصد حركة كل دوالر ينفقه مسلم؛ محاولة معرفة من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟ ضرب الرجل المسن الطاولة مقطِّبا جبينه: - يا رجل! أتظن أنك تخدعنا؟ هل تتحدث مع أطفال؟ قل لنا لم أرسلت المال؟ ومن هذا الرجل الذي أرسلته إليه؟ شعرت بضيق وتوتر من رد فعل العجوز، ثم قلت: - األمــر كما قلت لكم. أنتم تحتاجون إلى فهم المجتمعات حتى تفهموا كيف تعمل. مشــكلتكم أنكم تقيســون كل شيء على ما تعرفونه فقط. كانت الفتاة تنظر إلي وتضيق حدقة عينيها كلما تحدثتُ. تضيقها ثم تفتحها بعد ذلك. وما إن أنهيت حديثي حتى مالت على الطاولة قائلة: - أحمد، قل لنا لم أرسلت المال؟ وماذا يفعل ذلك الرجل -الذي أرسلته إليه- باألموال التي تأتيه؟ - ليس عندي إال ما قلته.. وهذه هي الحقيقة. كح ديفيد كحة خفيفة ورفع يده إلى ذقنه: - هل تذهب إلى المسجد؟ - نعم، ال أضيع فرصة الذهاب إليه كلما واتتني. - من سبتمبر 11 هل سمعت أحدا في المسجد يتحدث عن هجوم قبل وقوعه؟

28

شعرت بسخافة السؤال. كأنهم يتخيلون أن المسلمين في الدنيا كلها اتفقــوا علــى هذ الفعل، ويمكن أن يدور بينهم أمر يتحدثون فيه دون أن يشــاركوا فيه بقية العالم. كأن المليار ونصف المليار مسلم جماعة سرية واحدة مغلقة محكمة التنظيم، تتفق على أمر وال يخرج عنها. قلت بتضايق: - طبعا لم أسمع أي حديث قط عن األحداث قبل وقوعها. قال ديفيد بصوته الخشن: - ما شعورك وموقفك من الضربات؟ تراجعت في الكرسي وقلت بنبرة تأكيدية: - حزيــن جــدا للحادثة. وحزني وتضايقي منهــا أكثر من حزنكم وتضايقكم؛ فأنتم منزعجون فقط ألن أبرياء قتلوا، أما أنا فحزين لألبرياء وألن األمر وقع باســم ديني، قام به رجال يرفعون اســم اإلســ م الذي أحبه، وعليه فالمسألة مضاعفة علي بعكس حالتكم! أحسســت باالرتيــاح لجوابي؛ فالعجــوز هش إلجابتــي، والفتاة اســترخت في مقعدها باسمة، كأنه أول جواب لي يعجبهم. زمّت الفتاة شفتيها وضيقت حدقتيها: - هل سافرت خالل الفترة الماضية خارج البالد؟ - كال، لكني أنوي السفر لموطني بعد شهر. -لماذا؟ - كنت قد برمجت سفري وحجزت التذكرة قبل شهر. رمقت العجوز عن يمينها فبادلها النظرات.

29

مر وقت وهم يتناوشــوني باألســئلة. رفعت بصري جهة الســاعة المعلقة في الزاوية فإذا بها تزحف جهة الثالثة والنصف. لقد مرت ساعة كاملة وأنا أُســتجوب. بعد دقائق جمع ديفيد أوراقه وشــكرني، ووقف العجــوز ذو البدلة الســوداء، ومد لي بطاقتــه وقال خل هذه معك. وإن أوقفك أحد يمكنك أن تعطيه إياها. وإذا سمعت أخبارا وأردت إيصالها لنا فسنكون من الشاكرين. خرج العجوز وفتاتُه من الباب الشــمالي للمطعم، وبُعيد خروجهما التفت العجوز هازًّا رأسه، ثم تواريا بينما الح سوادهما من وراء الزجاج. مــد ديفيد يده وتصافحنا وافترقنا. خرجــت إلى الموقف الواقع جنوب المطعم ودخلت سيارتي ورميت جسدي على المقعد األمامي، وأنا أنظر ديفيد من المرآة العاكســة يتقدم جهة ســيارة ســوداء رياضية وهو يعدل نظارته الشمســية. استرخيت في المقعد مفكرا في أمر واحد: هل انتهى التحقيق عند هذا أم سيتابعونني؟ أدرت الســيارة فصدحت إذاعة «أم. بي. آر» فازددت توترا. كانت تصــدح باألخبار، والحديث عــن خطاب متوقع للرئيس بوش مع أخبار متفرقة عن هجمات متقطعة على مسلمة محجبة، أو مسلم ملتح. في مساء ذلك اليوم اتصل بي أحد األصدقاء الموريتانيين من والية كنتاكي قائال بخوف: لقــد جاؤونــا! جاءنا الـ«أف. بي. آي»، كنا في بيت أحد الشــباب فدخلوا علينا. كنا سبعة شبان في غرفة واحدة. دخلوا وقالوا: هل انتهى االجتماع وما موضوعه؟ قلنا لهم إننا لسنا في اجتماع. فقالوا كيف؟ كيف

30

يجتمع سبعة شبان إال على اجتماع؟ قلنا لهم إننا مجتمعون لشرب الشاي األخضر! وانقطع االتصال وأنا أفكر في صعوبة المهمة التي تواجه الواليات المتحــدة. إمبراطورية جريحة تجد نفســها فجأة تتلمس طريقها في كل ركــن، وتغرس ظفرها تحت كل جلد، وتدس أنفها في كل بيئة بتوجس مرَضي. وما هي بجاهزة لفهم هذه المجتمعات وال تعقيداتها وال ثقافتها. من أكتوبر/تشرين 31 بعد ذلك بأقل من أربعين يوما، وفي مســاء دخلت مطار سنسناتي -بوالية أوهايو- ذاهبا إلى موريتانيا. 2001 األول جئت إلى المطار قبل موعد السفر بأربع ساعات احتياطا؛ فوقع استنفار عندما رأوني. قاموا بعزل شــنطتي وفتشــوها تفتيشا دقيقا. ثم ذهبت إلى سمعت النداء قاعة المغادرة وجلست. وقبيل موعد السفر بنحو ساعتين في جنبات المطار: المســافر أحمد دَاينْ.. إلى البوابة لطفا! المســافر أحمد داين إلى البوابة لطفا. تقدمت متهيبا حامال شــنطة صغيرة على منكبي. خطوات ووقفت أمام البوابة. وجدت خمسة رجال وسيدة في انتظاري. ابتسم أحدهم: تفضل معنا! خطونا خطوات ثم انفتح باب ســفلي ودخلنا. ما كاد الباب ينغلق حتى تغيرت النبرة واستحال الهدوء صخبا: انظــر في عيني! إلى أين تذهب؟ ولم تســافر؟ ماذا وراءك؟ لم ال تحمل مالبس كافية في شنطتك؟

31

كانت األســئلة كثيرة ومتعددة ومن الجميع. كأنهم يريدون إرباكي. ثم لمحت شــنطتي -التي فُتشــت من قبل تفتيشــا دقيقا- يعكف عليها آخرون. أفقت من األسئلة المتتالية وقلت: هذه بطاقة صاحبكم.. سبق أن حققتم معي وأعطيتموني هذه الورقة. يمكن أن تتصلوا بهم لتتأكدوا من أنهم ســألوا كل األســئلة. ليس عندي ما يفيدكم. اختطفت السيدة الورقة من يدي ووضعت الرقم وابتعدت متحدثة. كنت قلقا من أن الرحلة ستفوتني. لكن كبيرهم عاد فأخذوني وأدخلوني إلى الطائرة، وطلبوا مني أال أتحرك بداخلها حتى ال أخيف الركاب. كنت عطشان جدا. التفت إلى المضيفة التي تجهز الطائرة: - لطفا، أعطيني ماء! رمقتني وقالت: - ال، لن أعطيك ماء. تكوّمــت داخل مقعدي متحســرا حزينا مفكرا فــي طبيعة الجنون الجماعــي الذي مس هذه األمة العظيمة! ما هذا الداء الذي أصاب هذه األمة التي ما كانت هكذا قبل خمسين يوما؟ أفقت من ذكريات الحادي عشــر من ســبتمبر/أيلول وأنا ما زلت متســمّرا أمــام بوابات مطــار كابل. فكرت في أن معظم هؤالء الشــبان األمريكييــن الماريــن أمامي لم يكونوا قد وُلــودا يومها، أو كانوا رُضّعا حينهــا. فما الذي جنت الواليــات المتحدة من غزوها لهذه البالد؟ وما الذي يجعل هذه الديار قبلة للغزاة في كل عصر؟

32

الفصل األول

األفغان زمانا ومكانا

33

لعنة الحسناء

«أول قاعدة يف السياسة: ال تغز أفغانستان أبدا»! رئيس الوزراء البريطاني هارولد ماكميالن ناصحا خليفته أليك دوغالس هيوم

تتمتــع أفغانســتان بتاريخ حضاري مهيب، وموقــع جغرافي غدت ميزتُه ســبب تعاســتها المعاصرة. فهي بذلك تُشبه الحسناء حين يمسي جمالُها نقمة عليها. إذ تقع أفغانســتان تاريخيا على مفترق طرق القوافل السائرة باألفكار واألطماع والبضائع إلى زوايا األرض. ولذا نبّه المؤرخ م) إلى أن مكانة أفغانســتان تاريخيا 1975 اإلنكليزي آرنولد توينبي (ت متكئة على كونها بؤرة الربط بين حضارات الهند، وشرق آسيا ووسطها، والشرق األوسط، وأوروبا. ثم لخص فكرته طالبا منك -لكي تفهمها- أن «تضع نفسَك في العراق -ال في أوروبا- وستالحظ جليا أن نصف طرق . وهذا ((( العالم القديم تقود إلى حلب، ونصفها الثاني يؤدي إلى باغرام» ما يفســر محورية أفغانســتان تاريخيا في بناء اإلمبراطوريات وإسقاطها، وأسباب التنافس عليها. كما يسوّغ االزدهار الثقافي والعلمي الذي شهدته عبر العصور. إن الموقــع الجغرافــي ألفغانســتان يشــرح محوريتها السياســية واالستراتيجية؛ فهي أقصى نقطة شرقية من هضبة إيران، كما تتربع قرب (1) Toynbee , Arnold J . Between Oxus and Jumna . ) London : Oxford Univer - sityPress , 1961),1

35

جبــال الهماليا، مما يجعلها بؤرة التوتر والعبور بين إمبراطوريات الهند والصين ووســط آسيا وروسيا والشرق األوســط. هذه الخاصية جعلت معظم الغزاة األقوياء في التاريخ يمرون من أفغانســتان، بدءا باإلسكندر م)، 1227 هـ/ 624 ق.م)، ومــرورا بجنكيز خــان (ت 323 األكبــر (ت وانتهاء بجورج بوش االبن. لقــد انجذب األقوياء عبــر التاريخ إلى أرض أفغانســتان الوعرة؛ فدخلها اإلســكندر المقدوني وخاض المعارك بين جبالها الشاهقة حتى . فغيّر بعد ذلك طريقته مع ســكان البالد ((( انهــزم جنــوده هزيمة مدوية محاوال بذلك التقرب من الســكان. ثم ((( وتزوج أميرة من أميرات بلخ تــرك البالد بعد ذلك طالبا من جنوده عدم ذكر الهزيمة التي تعرض لها (كان يُطلق على جبال الهندوكوش باروبانســادا ((( بين جبال الهندوكوش ). ولعل أوامرَه تلك ((( وتعني الجبل الذي يعجز النسر عن التحليق فوقه أول رقابــة إعالمية تصلنا عن ضيق اإلمبراطوريات بنشــر أخبار مصارع جنودها في أفغانستان. لقد حاول األكاسرة الفُرس جعل أفغانستان جزءا من إمبراطوريتهم، وخلفية شرقية وادعة لمملكتهم. وقد نجحوا في ذلك مرات وفشلوا في (1) Stephen Tanner, Afghanistan: AMilitary History From Alexander The Great to The Fall Of The Taliban ,(Masachusetus: Da Capo Press, 2002), 60-71. (2) Stephen Tanner, Afghanistan: AMilitary History From Alexander The Great to The Fall Of The Taliban,(Masachusetus: Da Capo Press), 2002, 49. يزعم ابن بطوطة أن معنى جبال الهندوكوش: «قاتلة الهنود؛ ألن العبيد والجواري ((( الذين يُؤتي بهم من بالد الهند يموت هنالك الكثير منهم لشدة البرد وكثرة الثلج.» تحفة النظار في غرائب األمصار وعجائب انظر: محمد بن عبد الله ابن بطوطة، .302 / 1 ، (بيروت: دار الشرق العربي)، دون تاريخ، األسفار (4) Toynbee, Between Oxus and Jumna, 51.

36

األغلب. فكثير من الهزائم المنكرة التي سُــجلت لألكاســرة كانت غالبا داخل أفغانستان، والحاالت التي قُتل فيها األكاسرة أو أُسروا وقعت غالبا بين جبال ووِهاد تلك الديار. كما وطئتها أقدام جينكيز خان وتيمورلنك م) لغزوها. 1821 م)، وخطط نابليون (ت 1405 هـ/ 807 (ت وترتبــط قصة أفغانســتان مع الغزاة دوما ببُعديْــن: أولهما مكانتها االســتراتيجية باعتبارها ممرا بين صُناع الحضارات القديمة من هنود في الجنوب، وصينيين في الشرق، وفرس وعرب في الغرب. وثانيهما بيئتُها الجغرافية والعرقية التي تجعل البقاء فيها أمرا في غاية الصعوبة. غيــر أن قــدوم الغزاة إلــى األرض األفغانية يقــع دوما في مأزق بســبب التركيبة الجغرافية والثقافية للبالد. فهي أرض ذات جبال عالية، ووديــان عميقة، وشــتاء قارس، وصيف حار. وتشــقها سلســلة جبال الهندوكوش البالغة ســتمائة كم طوال، وتســعمائة كم عرضا. بينما يبلغ . وقد شكلت هذه البيئة حاضنة ((( ارتفاعها ما بين ستة وسبعة آالف متر طبيعيــة لالختالف العرقي واللغــوي مما عمّق المأزق الذي يواجهه أي غازٍ. فلم تكن الســيطرة على أفغانســتان العقبة الكبرى أمام غزاتها، بل بقاؤهــم فيها بعد الدخول. فاألهواء المتشاكســة، والجغرافيا الحاضنة، عوامــل تجعل بقاء الغــازي أمرا صعبا. لكن ثمة اســتثناء واحد يمكن التوقّف عنده.

، ترجمة: أحمد النادي، (القاهرة: أفغانستان في التاريخ المعاصر علي رضا آبادي، ((( .27 ، 2000 المشروع القومي للترجمة)،

37

عالقة خاصة باإلسالم

ولم تخرج منها ((( إن اإلمبراطورية الوحيدة التي دخلت أفغانســتان يوما هي اإلمبراطورية اإلســ مية؛ فمنذ عبر أصحاب محمد (صلى الله صلى الله عليه وسلم) على خيولهم السريعة مدينة هراة في عهد الخليفة م)، وتوغلوا في أفغانستان بقيادة 656 هـ/ 35 الراشد عثمان بن عفان (ت الشــاب القرشــي ذي الخمسة والعشرين عاما عبد الله بن عامر بن كُرَيز م)؛ لم يخرج اإلســ م وال األمراء المســلمون قط من 679 هـ/ 58 (ت تلك البالد. ولعل الطبيعة الديمغرافية المتشاكســة كانت العامل المساعد لثبات اإلســ م وتشــبث األفغان به. فقد شكَّل عامل اللحمة المجمع عليه في أفغانستان المترعة بالمتناقضات الثقافية والجغرافية المرهِقة. وغدا الدين اإلســ مي مع الزمن ضرورة موحّدة يرجع إليها الجميع؛ ســواء أكانوا مــن المتوارين داخل وديانهم العميقة، أم من المتمترســين وراء جبالهم الشــاهقة، أو المنكشــفين وسط الســهول الخصبة. وهكذا ظل اإلسالم -كما يقول المندوب األمريكي الســابق إلى أفغانستان «القاسم المشترك . ((( الوحيد في المجتمع األفغاني» ورد أول ذكر للفظة «أفغاني» في المصادر العربية في كتاب «النُّتَف في الفتاوى» ((( م. ثم تردد 1070 هـ/ 461 ألبي الحسن علي بن الحسين السُّغْدي الحنفي المتوفى ذكر «األفغان» بعد ذلك عند ابن بطوطة ومن بعده المقريزي. ، السفير: من كابل إلى البيت األبيض: رحلتي عبر عالم مضطرب زالماي خليل زاد، ((( .24 ترجمة: بسام شيحا، وسعيد الحسنية، (بيروت: الدار العربية للعلوم ناشرون)،

38

لقــد الحــظ المؤرخون المســلمون باكرا العالقة االســتثنائية بين م) 949 هـ/ 340 الخراسانيين واإلسالم؛ إذ يقدم ابن الفقيه الهمداني (ت: مقارنة طريفة بين الخراسانيين واإليرانيين مُرجعا ذلك إلى لحظة االتصال األولــى باإلســ م، فيعرض صورتيــن متناقضتين لعالقة الخراســانيين الشرقيين والفرس اإليرانيين باإلسالم فيقول عن أهل خراسان: «ثم أتى الله باإلســ م فكانوا فيه أحسن األمم رغبةً، وأشدَّهم إليه مسارعة. منّا من الله عليهم، وتفضال وإحسانا منه عليهم. فأسلموا طوعا، ودخلوا فيه أفواجا، وصالحوا عن بالدهم صلحاً. فخف خراجُهم وقلّت نوائبُهم، ولم يَجْر عليهم سِــباءٌ، ولم يســقط فيما بينهم وبين المسلمين . ((( دم» ويكــرر ابن الفقيه الدخول الطوعي لهــم في الدين فيقول: «وأهل خراســان دخلوا في اإلســ م رغبة وطوعا، ثم هم أحســن الناس تقية . وظلوا مع عميق تدينهم أولي قوة وبأس في ((( وأشدهم بالدين تمسكا» .» ((( الدين حتى شاع وصفهم بأنهم «فرسان الهيجاء وأعنة الرجاء ويطنــب بعد ذلك في التدليل على أن غالبية الميمزين علما وثقافة وسياسة في ظل اإلسالم كانوا من أهل خراسان لمالمسته شغاف قلوبهم، فهم الذين أقاموا الدولة العباســية وكانوا عمودها الفكري والعســكري والسياسي واإلداري. تحقيق: يوسف الهادي، البلدان، محمد بن إسحاق الهمداني المعروف بابن الفقيه، ((( .607 ،) 1996 (بيروت: عالم الكتب،

.607 ، البلدان ابن الفقيه، ((( .275 ، البلدان ابن الفقيه، (((

39

ثــم يقارن ابن الفقيــه بينهم وبين جيرانهم غربــا: «إن أول أمرهم في اإلســ م على ما قد علمت من شدة العداوة للمسلمين، ومحاربتهم إياهــم، حتى قُهروا وهُزموا وطُلبوا ومُزقــوا (..)؛ فكانوا كنار خمدتْ، وكرمــاد اشــتدت به الريح في يوم عاصف، فتبــدّد جمعُهم، ومُزّقوا كل . ((( ممزّق، فلم يبق في اإلسالم منهم نبيه يذكر وال شريف يشهر» ونص ابن الفقيه هذا نص متحامل بعيد عن العلمية، لكنه معبر عن نمط النظرة إلى الخراســانيين واإليرانيين في العقلية الجمعية لكثير من نُخَب المســلمين منتصف القرن الرابع الهجري/العاشر الميالدي، ودال كذلك في تفسير العالقة االستثنائية لألفغان باإلسالم، وتحوله إلى هوية محلية ملتحمة بالحمض النووي الثقافي لإلنســان األفغاني، عكس غيره من اإلمبراطوريات واألديان التي مرت من هناك.

.607 ، البلدان ابن الفقيه، (((

40

منطقة عازلة

كثيرة هي الغزوات التي نُظمت الحتالل أفغانســتان تاريخيا، لكن معظمهــا لم يكن بقصد الســيطرة على أرض أفغانســتان ذاتها، بل كان للتحكم في المناطق األكثر ثراء كالهند جنوبا، أو وســط آســيا شــماال، أو للسيطرة على طرق التجارة التي كانت أفغانستان تتربع على ملتقياتها في العالم القديم. واألهم من ذلك كله التحكم في طرق عبور الجيوش بين جبال الهندوكوش باعتبارها الممر الوحيد بين جنوبي آسيا وشماليها. فهذا الموقع جعل أي قوة في الهند مثال ترى الســيطرة على أفغانســتان ترسَها األساسي للوقاية من التهديد األجنبي. ولذا يشهد التاريخ أن جبال الهندوكوش ظلت -طيلة األلفي عام الماضييْن- جزءا من إمبراطوريات متصارعــة، أو مــكان نزاع دائم بين دول محلية قوية بســبب محوريتها . ((( الجغرافية واالستراتيجية غير أن الموقع االستراتيجي ألفغانستان تراجع خالل العصر الحديث فــي جانبه التجــاري؛ فلم تعد البالد نقطة ربط للتجارة الدولية بســبب عوامــل متراكمة. فقد جزمت الباحثة األمريكية رييا تالي ســتيوارت بأن ثمة شــخصيتين أزاحتا أفغانستان عن مكانتها العالمية هما جينكيز خان، (1) Thomas Barfield, Afghanistan: A Cultural And Political History , (Prin- ston University Press), 2010, 66.

41

. إذ أخرجها األول من التاريخ ((( م) 1506 وكريســتوفر كولومبــس (ت بقتل أهلها وإفناء محاســنها الحضاريــة، وتدمير نظام الري فيها، بحيث لــم يبق فيها أحد يعلم الصناعــة لألجيال الالحقة. وأضر بها كولومبس باكتشافه لطرق تجارية جديدة؛ «فقد أبحر كولومبس غربا باحثا عن طريق بديل ألفغانســتان باعتبارها الممر الوحيد بين آســيا وأوروبا. ومنذ تلك اللحظة قلّت القوافل المارة بين جبال الهندوكوش. فأفغانســتان محورية . ((( في عالم مسطح، ال في عالم دائري» ومــع تراجع مكانتها -مقارنة بالماضي البعيد- فإنها ما زالت مهمة سياســيا لكونها منطقة عازلة بين هضبات إيران، وســهوب وسط آسيا، وشــبه القارة الهندية. وهــذا ما يجعلها محورية للروس والباكســتانيين ، وفي أي معادلة جيوسياســية دولية. ثم هي اليوم ((( والهنود واإليرانيين ربما تعود للواجهة االستراتيجية بسبب مجاورتها للصين المتحفزة للتأثير العالمي بعد نهوضها االقتصادي والعسكري خالل العقود األخيرة. ولعــل الصراع المرير الذي خاضته روســيا وبريطانيا -طيلة القرن التاســع عشر- على أفغانســتان يلخص مكانتها االستراتيجية المعاصرة باعتبارهــا أرضا محورية في صــراع القُوى الكبرى. فالروس اهتموا بها ألنهــا طريقهم إلــى الهند التي كانت تحت االحتــ ل البريطاني، وإلى التمركز وسط المياه الدافئة في المحيط الهندي وبحر العرب. والبريطانيون (1) Rhea Talley Stewart , Fire In Afghanistan 1914-1929: Fait, Hope, And the British Empire , (New York: Double Day And Company), 1973, 583-584. (2) ibid (3) Tim Marshal, The Prisoners Of Geography , (New York: Scribner), 2015, 96.

42

غزوها لمنع الروس من االقتراب من مناطق نفوذهم جنوبا، وإليجاد ممر The إلى وســط آسيا، مما ولّد المصطلح المشــهور بـ«اللعبة الكبرى» ( ). وهو المصطلح الذي ســكّه ضابــط بريطاني اعتقله أمير great Game أفغاني بعد ووضعه في بئر مليء بالقوارض، ثم أخرج ما تبقى من جثته . ولعل قصة وضع هذا المصطلح ومعناه ومصير واضعه ((( وضرب عنقه يُلخصان مكانة أفغانستان، وعالقتها بالمستعمرين كذلك. لقد لعبت بريطانيا وروسيا لعبة األمم على األرض األفغانية بسبب موقعها االستثنائي العازل. وخالت كل منهما أن السيطرة على أفغانستان تقود للســيطرة على مفاصل محورية في السياسة الدولية يومها. حتى إن م) جزم 1925 المندوب اإلنكليزي إلى الهند آنذاك جورج كورزون (ت . ((( بأن «اللعبة التي تدور على هذه الرقعة هي لعبة السيطرة على العالم» وقد اســتمرت تلك اللعبة على األرض األفغانية طيلة القرن التاسع عشر حتى برهن األفغان للمستعمرين البريطانيين أن البقاء بأرضهم مكلف جدا، بعد المقاومة الشرسة التي لم تتوقف (وسنشير لها بالتفصيل الحقا)، م، مما قاد الســتقالل أفغانستان 1919 فانســحب البريطانيون أخيرا عام الحديثة بحدودها المعروفة اليوم. غير أن المكانة االستراتيجية ألفغانستان لم تتركها تنأى عن الصراع عبر عشــرات آالف 1979 طويال؛ ففي نهايات ديســمبر/كانون األول (1) David Fromkin, A Peace To End All Peace: The Fall Of The Ottman Empire And The Creation of The Modern Midlleast , (New York: Henry Holet and Company),1989, 27. (2) George N. Curzon, Persia and The Persian Question , (London: Long- man, Green, And Co.), 1892, 3-4.

43

الجنود الســوفييت إلى أفغانستان دعما للنظام الشيوعي في كابل. وكان في أذهان الروس أن أفغانستان أصبحت منطقة خطرة فكريا على الدول اإلســ مية الخاضعة لموســكو. فجاءت للتعامل معهــا باعتبارها منطقة عازلة، تُحجّم من خاللها «التطرف اإلسالميَ» وأحالم االستقالل داخل الجمهوريات اإلســ مية الســوفيتية. كما أرادتها منطقة عازلة بينها وبين النفوذ األمريكي المخيم جنوبا. توغل الجيش األحمر في أفغانستان متسلحا بسمعة الجيش الذي ال لم يخسر الروس أي معركة، لكن السنوات العشر التي 1942 يهزم؛ فمنذ قضوها بين جبال الهندوكوش كانت كفيلة بتلطيخ تلك الصورة، وإثبات اســتعصاء أفغانستان مرة أخرى. فقد انهزم الجيش األحمر «هزيمة مذلة علــى أيدي مجموعة من المزارعين األميين األفغان»؛ كما يقول الضابط . وهكذا عندما خرج من أفغانســتان الضابط ((( األمريكي بروس ريديل 1989 من فبراير/شباط 15 الروســي األخير برويس غروموف صبيحة أضافت إلى سجلها قصة جديدة من قصص طرد المحتلين. كانت الواليات المتحدة حاضرة في أسباب هزيمة الروس تلك؛ إذ كانت تراقب الوضع المتكشف بين جبال ووهاد األفغان، لكنها لم تحترق به. فقد شاركت في الحرب دون أن يضع جندي أو موظف استخباراتي . وخرجت من تلك الحرب ((( أمريكي واحد قدمَه على أرض أفغانســتان منتصرة على الروس دون أن يُجرح لها جندي واحد أو يقتل لها مواطن. (1) Bruce Riedel, What We Won: America’s Secret War in Afghanistan 1979-1989 , (Masachusets: Brooking Institution, 2014) 40 . في النجاح األميكري الباهر دون خسائر انظر كتاب بروس ريدل أعاله. (((

44

ولعل هذه التجرية كانت حاضرة في أذهان الساسة األمريكيين يوم قرروا -بعد اثني عشر عاما من انسحاب الروس- أن يدخلوا المستنقع األفغاني. كانت قاعدة 2001 ففي صبيحة الســابع من أكتوبر/تشــرين األول تلك البقعة التي تحدث توينبي عن مكانتها اســتراتيجياً- على – باغــرام موعــد مــع غزاة جُــدد. إذ عبــرت المهاجمات األمريكيــة فوق جبال الهندوكوش، وانطلقت خمســون صاروخا من نوع توماهوك لتدك مدنا أفغانية ذات تاريخ مديد مع مطامع اإلمبراطوريات ومطامحها.

45

ظالل املاضي

«والدنيا خراسانُ» الشاعر عصابة الجرجاني

تقف خريطة أفغانستان اليوم على أربع مدن تشكل مربعا مثيرا للعين والذاكرة؛ فتقع هَراة غربا، وبلخ (مزار الشريف) شماال، وقندهار جنوبا، وكابل شــرقا. وقد لعبت هذه المدن أدوارا محورية في التاريخ البشري، وظلت -منذ القدم- مدنا قائمة ومن أكثر حواضر العالم ازدهارا اقتصاديا وثقافيا. اليوم تقدم أرقاما ( (( غيــر أن تقارير البرنامج اإلنمائي لألمم المتحدة صادمة عن الحياة االقتصادية والثقافية في أفغانســتان، وتحديدا في تلك من أصل 169 المرتبة رقم 2020 المــدن العتيقة. فقد احتلت البالد عام بلدا في مؤشر التنمية البشرية؛ إذ ال يتجاوز دخل الفرد السنوي فيها 189 دوالرا، وال يوجد لكل عشــرة آالف أفغاني غير طبيب واحد. أما 2229 ( (( .%43 لتصل 2020 نسبة القادرين على القراءة والكتابة فقد ارتفعت عام ولعل الحروب وتعاقب الغزاة على البالد طيلة القرون الماضية كان السبب في إيصال البالد إلى هذه الهوة السحيقة مقارنة مع ماضيها المجيد. (1) http://hdr.undp.org/en/content/latest-human-development-index- ranking retrieved on 28th September, 2021, 10:00 AM GMT. (2) https://uil.unesco.org/interview-literacy-rate-afghanistan-increased-43- cent

46

هَراة تقع هراة غربا على الحدود مع إيران. وقد وصفها الرحالة اإلغريقي ، ونقل منها صورا دالة على طيب عيش ( (( هيرودوت بأنها سلة وسط آسيا أهلها ورواج أسواقها قبل أكثر من ألفي عام. وظلت هذه الصورة حاضرة فــي معظــم كتابات الرحالة الذين رأوها بعدُ، وتحدثوا عن طبائع بالدها وشيم سكانها. )يقول عنها: «لم 1229 هـ/ 626 فهذا الرحالة ياقوت الحموي (ت م)- مدينة أجل وال 1210( 607 أر بخراســان -عند كوني بها في ســنة أعظم وال أفخم وال أحسن وال أكثر أهال منها...، فيها بساتين كثيرة ومياه مما يدل على رخاء – فهو يالحظ وفرة السكان ( (( غزيرة وخيرات كثيرة». العيــش- والحالة الحضارية التي وصلت إليها. ثم يتحدث عن الجانب الثقافي فيصفها بأنها «محشوة بالعلماء، ومملوءة بأهل الفضل والثراء». ثم ينبه إلى اللحظة التاريخية األفظع في تاريخ هراة وأفغانستان عموما، وهي اللحظة المغولية التي رآها وهي تمحو المحاســن الحضارية االســتثنائية لمدن خراسان: «وقد أصابتها عين الزمان ونكبتْها طوارق الحدثان، وجاءها الكفار مــن التتر فخربوها حتى أدخلوها في خبر كان». ولم يجد ياقوت -وهو (1) Radek Sikorski, Dust And Saints (Toronto: Doubleday Canada limited, 1989) 134. ، 1995 ، (بيروت: دار صادر)، معجم البلدان ياقوت بن عبد الله الرومي الحموي، ((( .396 ، 5

47

المــؤرخ المدقق- ما يعلق به على انمحاء تلك المدينة التي رآها إال أن ( (( يقول: «فإنا لله وإنا إليه راجعون»! تميــزت هراة باالزدهار الثقافي والعلمي طيلة تاريخها وخاصة قبل الغــزو المغولــي؛ حتى إن الجغرافي أبا إســحاق اإلصطخري (ت نحو م) يقارنها بالمدن العامرة بالثقافة يومها، ثم يجزم بأن «ليس 951 هـ/ 346 بخراســان وما وراء النهر وسجســتان والجبال مسجد أعمر بالناس على . وعمارة المساجد يومها ال ( (( دوام األيام من مسجد هراة ثم مسجد بلخ» تعني انشغال الناس بالصالة فحسب، بل كانت المساجد جامعات علمية ونوادي سياسية حيوية، فعمرانها انعكاس لحيوية المجتمع المدني يومئذ. م) حيوية 1214 هـ/ 611 ويؤكد الرحالة علي الهروي الســائح (ت الثقافــة في خراســان مقارنة بإحدى أهم الحواضر اإلســ مية؛ فيقول: «وجامع دمشــق ليس لإلســ م هيكل للعبادة مثله بعد المسجد األقصى ببيــت المقدس، أعنى في حســن عمارتهما، وأما في االشــتغال بالعلم وهذه ( (( والحديــث فإلــى جامع مدينة هراة وبلخ وسجســتان المنتهى.» المقارنة تأخذ أهمية خاصة إذا صدرت من رحالة مثل الهروي الذي زار كل المــدن الحيوية في الحضارة يومها داخل أرض اإلســ م وخارجه. م) يقول إن الهروي «كاد 1282 هـ/ 681 حتى إن المؤرخ ابن خِلّكان (ت يطبق األرض بالدوران؛ فإنه لم يترك برا وال بحرا وال ســهال وال جبال .396 / 5 ، معجم البلدان ياقوت الحموي، ((( ، 2004 ، (بيروت: دار صادر)، المسالك والممالك محمد الفارسي االصطخري، ((( .265 (القاهرة: مكتبة اإلشارات إلى معرفة الزيارات، علي بن أبي بكر بن علي الهروي، ((( .23 هـ، 1423 الثقافة الدينية)،

48

مــن األماكــن التي يمكن قصدها ورؤيتها إال رآه. ولم يصل إلى موضع إال كتب خطه في حائطه، ولقد شــاهدت ذلك في البالد التي رأيتها مع . وثمة بعد آخر، وهو أن المدن التي تنتج نمط هذا الرحالة هي ( (( كثرتها» مدن حيوية منطلقة منفتحة على الحياة. وقــد أخرجت هــذه المدينة أعدادا ال تحصى من العلماء والفنانين م) 1501 هـ/ 907 والشــعراء، حتى إن الشاعر األوزبكي علي نوائي (ت قال: «إنك لن تمد رجليك في هراة إال ركلت شــاعرا»! كما خرجت في أوكسفورد، وظلت مضامينها 1665 منها كتب علمية طُبع بعضها عام ( (( ورسومها حول النجوم والمجرات دقيقة حتى اليوم. وال جَرَم أن يكون المزاج الهروي مزاجا مقاوما للغزاة؛ فقبل أربعة ، لكن الروس 1979 عقود ثار ســكانها على الروس في مارس/آذار عام ردوا بقصف المدينة ودمروها تدميرا لم يقم به المغول من قبل، حتى إنهم حولوا معالمها القديمة إلى حقل ألغام ال يقدر الهروي على العبور منه. بلخ وإذا مــا تركنــا هراة وصعدنا إلى الضلع الشــمالي فســنجد مدينة بلــخ غافية على أطاللها الماجدة قرب مزار الشــريف المعاصرة. وبلخ مــن المدن العتيقة التي كانت محورية في الدراما البشــرية؛ فقد أنتجت خميرتُها الحضارية شــخصيات مركزية في رحلة العقل البشري، ويحفظ ، تحقيق ، وفيات األعيان وأنباء أبناء الزمان أحمد بن محمد بن إبراهيم ابن خلكان ((( .346 / 3 ، 1994 إحسان عباس، (بيروت: دار صادر)، (2) Rashid, Taliban, 38

49

لها التاريخ أنها مرقد زرادشــت، وأنهــا «ظلت واحدة من كبريات مدن حسب عبارة توينبي. ( (( العالم لفترة ال تقل عن خمسة آالف عام»! ولعــل من ســخريات األيــام أن الواليات المتحــدة عندما بدأت ، كان األمريكيون إذا عــادوا إلى بيوتهم 2001 قصــف أفغانســان نهاية فــي المســاء يبحثون عــن ذواتهم المطمورة في ديوان شــاعر من بلخ. فقــد ذكرت إحصائيات ثقافية يومئذ أن شــعر جالل الدين الرومي (ت . ( (( م) هو أكثر األشعار قراء في الواليات المتحدة 1273 هـ/ 672 عُرفت بلخ في تاريخها بعدة أســماء تــدل على مكانتها الحضارية والسياســية المركزيــة؛ فقد سُــميت «أم المدن» ونوديت بـ«الحســناء» وخرَّجت آالف العلماء في كافة المجاالت، وال يكاد الرحالة ( (( كذلــك. والمؤرخــون يذكرون العقول التي خرجت منها إال اســتخدموا عبارات لتعذر العد ( (( تعميميــة مثــل: «خرج منها عالَم ال يُحصى مــن العلماء»، واإلحصاء للمنتج الثقافي الخارج من بين أســوار تلك المدينة. وظلت دوما مدينة مزدهرة عامرة، مميزة بجامعاتها وجوامعها، وشوارعها النظيفة، . ( (( ونظامها الزراعي المحكم الذي بُني قبل أربعة آالف عام (1) Toynbee, Between Oxus and Jumna, 85. (2) http://content.time.com/time/subscriber/article/0,33009,356133,00. html (retrieved on 29, Sepmtember, 2021, 11:10 GMT). ، (بيروت: دار تاريخ الرسل والملوك أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، ((( .538 / 1 هـ، 1387 التراث)، ، تحقيق: عبد الرحمن بن يحيى األنساب عبد الكريم بن محمد السمعاني المروزي، ((( ، 1962 المعلمي اليماني وغيره، (حيدر آباد: مجلس دائرة المعارف العثمانية)، .304 / 3 (5) Pierre Briant, From Cyrus to Alexander (Winona Lake, IN: Eisen- brauns, 2002), 77–9, 743–54 .

50

وقــد أنتجت وفرة المدارس فيهــا اعتقادا في نجابة أهلها وتفوقهم العقلي، حتى إن اإلصطخري جزم بأن «أنجب أهل خراســان أهل بلخ ويندر أن يتكلم عنها رحالة ( (( ومَــرْو فــى الفقه والدين والنظر والكالم». إال بالــغ في حالتهــا الحضارية والعقلية، وألمح لوفــرة التعليم، وتوافر األوقــاف؛ فـ»بها مــدارس للعلوم ومقامات للطــ ب، واألرزاق جارية ولعل العبارة التي أوردها اإلدريسي (ت ( (( على من شاء شيئا من ذلك». م) بعد ذلك هي األكثر دقــة؛ فبعد أن أطنب في ثرائها 1165 هـــ/ 560 وهي عبارة تختصر ( (( االقتصــادي والثقافي قال: «وبها أحــوال صالحةٌ» معنى استواء األمور على الحال المحمودة ثقافيا واقتصاديا وسياسيا. ويحسب لبلخ كذلك أنها أخرجت للعالم أول كتاب في الطب النفسي؛ م) إلى أن األطباء 934 هـــ/ 322 فقــد انتبه أحمد بن ســهل البلخي (ت يهتمون باألعضاء وأمراضها، لكنهم يغفلون األرواح وأدواءَها، فوضع كتابا دعا فيه أطباء العالم إلى بدء الدراسات النفسية، وتفريع الطب إلى قسميْ: ولم يتميز أحمد بن سهل بعلومه الدقيقة ( (( الطب العضوي والطب النفسي. ، (بيروت: ، المسالك والممالك أبو اسحاق إبراهيم بن محمد الفارسي االصطخري ((( .282 ، 2004 دار صادر)، ، (بيروت: نزهة المشتاق في اختراق اآلفاق محمد بن محمد بن عبد الله اإلدريسي، ((( .483 / 1 هـ، 1409 عالم الكتب)، .483 نزهة المشتاق في اختراق اآلفاق، اإلدريسي، ((( ، (جدة: مركز الملك فيصل مصالح األنفس واألبدان أحمد بن سهل البلخي، ((( هـ. 1424 للدراسات والبحوث)،

51

م) بأن قلمه 1010 هـ/ 400 فحسب، بل جزم أبو حيان التوحيدي (ت بعد . ( (( كان من أجمل ثالثة أقالم أخرجتها اللغة العربية» غير أن هذه المدينة االستثنائية توارت عن المسرح التاريخي يوم نزل م؛ فقد حقد على أهلها 1221 هـ/ 618 بساحتها جنود جينكيز خان عام ألنهــم قاوموه فأبادهم، كما جرت عادته مع المدن المقاومة لجيوشــه. هـ): «وكان القتلى بنيســابور 727 يقــول ابن عبد المنعم الحميري (ت وبلخ وهراة أكثر مما كانوا بمرو. وهذه أمهات مدن خراســان التي كان ثم يختم تعليقه على حالة هذه المدن ( (( المثل يضرب بعمارتها وعظمها»! بخاطــرة مترعة بالداللة وكأنه يكتب شــهادة وفاة بلخ: «خربوها وقتلوا أحيائها) =( أهلها في بعض سنة، وفعلوا في مدارس هذه المدن وربضها وبالفعل؛ فقد ( (( ما تنبو عنه األســماع؛ فسبحان من أرسلهم لطي الدنيا»! طُويــت الدينا، وذوت الحيــاة الثقافية واالقتصادية االســتثنائية في بلخ وأخواتهــا، وخرجت «أم المدن» من التاريخ بســبب الغزو المغولي، أو «الســ ح النووي في وقته»؛ حســب العبارة الدقيقة للويس دوبري. فقد «كان جينكيــز خان القنبلة الذرية في وقته؛ وما زالت جراح تلك القنبلة وآثارها االقتصادية ماثلة في غربي آسيا...؛ فالمدن الخرِبة وقنوات الري ( (( المطمورة أتربة تقف اليوم كتمثال لجنكيز خان»! معجم األدباء: إرشاد األريب إلى معرفة ياقوت بن عبد الله الرومي الحموي، ((( .258 / 1 ، 1993 ، تحقيق: إحسان عباس، (بيروت: دار الغرب اإلسالمي)، األديب ، الروض المعطار في خبر أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن عبد المنعم الحميري ((( تحقيق: إحسان عباس (بيروت: مؤسسة ناصر للثقافة ومطبعة السراج)، األقطار، .533 ، 1980 .533 ، ، الروض المعطار في خبر األقطار الحميري ((( (4) Louis Dupree, Afghanistan , (New Jersy: Prinston University), 1980,316.

52

Page 1 Page 2 Page 3 Page 4 Page 5 Page 6 Page 7 Page 8 Page 9 Page 10 Page 11 Page 12 Page 13 Page 14 Page 15 Page 16 Page 17 Page 18 Page 19 Page 20 Page 21 Page 22 Page 23 Page 24 Page 25 Page 26 Page 27 Page 28 Page 29 Page 30 Page 31 Page 32 Page 33 Page 34 Page 35 Page 36 Page 37 Page 38 Page 39 Page 40 Page 41 Page 42 Page 43 Page 44 Page 45 Page 46 Page 47 Page 48 Page 49 Page 50 Page 51 Page 52 Page 53 Page 54 Page 55 Page 56 Page 57 Page 58 Page 59 Page 60 Page 61 Page 62 Page 63 Page 64 Page 65 Page 66 Page 67 Page 68 Page 69 Page 70 Page 71 Page 72 Page 73 Page 74 Page 75 Page 76 Page 77 Page 78 Page 79 Page 80 Page 81 Page 82 Page 83 Page 84 Page 85 Page 86 Page 87 Page 88 Page 89 Page 90 Page 91 Page 92 Page 93 Page 94 Page 95 Page 96 Page 97 Page 98 Page 99 Page 100 Page 101 Page 102 Page 103 Page 104 Page 105 Page 106 Page 107 Page 108 Page 109 Page 110 Page 111 Page 112 Page 113 Page 114 Page 115 Page 116 Page 117 Page 118 Page 119 Page 120 Page 121 Page 122 Page 123 Page 124 Page 125 Page 126 Page 127 Page 128 Page 129 Page 130 Page 131 Page 132 Page 133 Page 134 Page 135 Page 136 Page 137 Page 138 Page 139 Page 140 Page 141 Page 142 Page 143 Page 144 Page 145 Page 146 Page 147 Page 148 Page 149 Page 150 Page 151 Page 152 Page 153 Page 154 Page 155 Page 156 Page 157 Page 158 Page 159 Page 160 Page 161 Page 162 Page 163 Page 164 Page 165 Page 166 Page 167 Page 168 Page 169 Page 170 Page 171 Page 172 Page 173 Page 174 Page 175 Page 176 Page 177 Page 178 Page 179 Page 180 Page 181 Page 182

Made with FlippingBook Online newsletter