ويلمح دوبري إلى أن المدينتين اليابانيتين هيروشيما ونغازاكي تعافتا من الضربة النووية األمريكية المعاصرة، أما حواضر غربي آسيا فلم تستعد عافيتها أبدا من الضربة المغولية المتوحشــة. ولعل ذلك عائد إلى ذهاب الناس وموتهم، ووجود فراغ بشري عاق عودة الحياة ومنع نقل الخبرات وهو العالم بعلل – م) 1406 هـ/ 808 الحضارية. وقد نبّه ابن خلدون (ت – الحضارة اإلســ مية- على أن فناء أعداد كبيرة من الناس دفعة واحدة بطاعون أو غيره- يقود إلى فناء الحضارة واختفاء خصائص المدن. يقول م: 1378 هـ/ 749 مثــ معلقا على الحواضر التي ضربها الطاعون ســنة «وانتقــض عمران األرض بانتقاض البشــر: فخربــت األمصار والمصانع ودرست السُّبل والمعالم، وخلت الدّيار والمنازل وضعُفت الدّول والقبائل وتبدّل السّاكن...، وكأنما نادى لسان الكون في العالم بالخمول واالنقباض ومن ( (( ، وكأنه خَلق جديد ونشأة مستأنَفة وعالَم محدَث»! … فبادر باإلجابة الالفــت هنا تطابــق عبارة الحميري عن «طي الدنيا» بإفناء المغول للمدن اإلسالمية، وعبارة ابن خلدون عن «انقباض العالم» بوباء الطاعون. ومع كل هذا؛ فإن من يزور اليوم أطالل إحدى تلك المدن، ويتجول فيمــا بقي من حواريها القديمة يلحظ أن ســكانها أحفاد حضارة عتيقة، وأبنــاء مدن عريقــة. يلحظ ذلك في طعامهم ومالبســهم ونظرتهم إلى أنفســهم وللتاريخ. أما أرقام التنمية البشرية التي تُصدرها األمم المتحدة عنهم وعن مدنهم؛ فما هي عندهم إال تَذكار بحجم المآسي التي عانوها في الماضي، وما زالوا يعانونها بسبب ثنائية الغزاة والحماة. ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عبد الرحمن ابن خلدون، ((( تحقيق: خليل شحادة، (بيروت: دار الفكر)، عاصرهم من ذوي الشأن األكبر، .43 / 1 م، 1988 هـ - 1408
53
Made with FlippingBook Online newsletter