كتاب الجزيرة 25

الموصل والحاجة سناء

المتعاونين من داخل المدينة، وعلى ما يصلنا منهم من صور. وكنا نغطي المعركة من مكتبنا في مدينة أربيل. كانت الصور التي تصل إلينا والأخبار المتواترة تعكس واقعا مأساويا للمدينة وأهلها. فآثار الدمار تملأ المكان، وأعداد القتلى والمفقودين كانت أكبر من أن يتم إحصاؤها. أما رائحة الجثث المنبعثة من تحت ركام المنازل المدمرة، فلا تزال حاضرة حتى الآن، رغم مرور أربع سنوات على انتهاء المعارك. لم يحل قرار السلطات دون دخول الجزيرة إلى المدينة، فقد تمكنا من إنجاز عشرات القصص والتقارير عن المعركة والفترة التي تلتها. كل تلك التقارير كانت محاولات لتقريب الصورة للعالم عن واقع هذه المدينة، وما مرت به. لم يكن الأمر سهلا أبدا في تغطية معركة كهذه، فالأخبار المتواترة يوميا كانت تنقل مشاهد وصورا تدمي القلوب. وكصحفي أقول: كان الصراع النفسي الداخلي الذي عشناه آنذاك كبيرا ومؤلما، وكان علينا أن نلتزم الموضوعية والحياد ولا نسمح للعاطفة بالتأثير على عملنا الصحفي بنقل الوقائع بتجرد. كنا نتابع قصص أهل الموصل وما جرى لهم، عبر المواقع الإعلامية والصحفية، وعبر منصات التواصل الاجتماعي التي كانت خير معين لنا.

الموصل والحاجة سناء مدير مكتب الجزيرة في العراق | وليد إبراهيم

توقفت أكثر من مرة وأنا أعمل على إنجاز التقرير، لأنه لم يكن بمقدوري لجم ما يعتمل في النفس من انفعالات وأنا أستمع لقصة هذه السيدة. في أحد مقاطع التقرير، تقول الحاجة سناء إنه لم يكن أمامها خيار سوى الخروج للعمل لرعاية العائلة، بعد أن تم توقيف راتبها وراتب زوجها التقاعدي بسبب ما حصل في الموصل، وأن العمل الذي عثرت عليه يعتمد بالدرجة الأولى على ما يجود به الخيرون لها، أي ما يشبه الصدقة. وبعد مرور أربع سنوات على استعادة مدينة الموصل من تنظيم الدولة، ما زالت قصص ما جرى في هذه المدينة تتكشف كل يوم. ، وهو 2014 لقد قدر للموصل أن تدفع ثمنا باهظا ابتداء من يونيو ، التاريخ الذي أعلنت 2017 تاريخ سيطرة التنظيم عليها، حتى يوليو فيه السلطات العراقية استعادتها للمدينة من سيطرة التنظيم. لقد أدى استخدام القوة المفرطة من قبل القوات العراقية وقوات التحالف الدولي، خاصة الضربات الجوية للطائرات المقاتلة، إلى تدمير المدينة بشكل تام، وتشريد أهلها. بالنسبة لنا، لم تكن عملية تغطية المعركة في الموصل سهلة، فالسلطات العراقية آنذاك كانت تمنع صحفيي الجزيرة من التغطية، وتمنعهم من الدخول إلى المدينة. وكنا نعتمد في تغطيتنا على

كانت صور الحاجة سناء إبراهيم، التي بلغت عقدها السابع، وهي تتحدث أمام الكاميرا بعفوية مطلقة وبصوت منكسر، مؤلمة جدا. كان السؤال الذي أتعبني جدا وأنا أعمل على إعداد القصة، كيف تستطيع امرأة في هذا العمر أن تعول أكثر من عشرين طفلا من أحفادها، وهي تعيش وضعا اقتصاديا مترديا، إضافة إلى الأوضاع الصعبة التي كانت تعيشها المدينة آنذاك؟ قصة الحاجة سناء واحدة من القصص التي لا يمكن نسيانها، وسبب العمل على إنجازها ألما كبيرا يصعب علي تجاوزه حتى الآن. هذه المرأة وجدت نفسها بين ليلة وضحاها العائل الوحيد لاثنين وعشرين حفيدا، بعد أن قُـتل أولادها الخمسة في معركة الموصل، إضافة إلى بناتها الأربع اللائي ترملن بسبب الحرب. ورغم أن مدة التقرير الذي أنجزناه، أنا وزميلي المونتير ريحان عبد الوهاب، لا تتجاوز دقيقة واحدة وأربعين ثانية، إلا أن عملية كتابة النص وما يناسبه من صور قاسية ومؤلمة، كانت عملية صعبة جدا. كانت الحاجة سناء تحاول خلال حديثها معنا إخفاء دموعها. وكان تصور المشهد مؤلما جدا. امرأة فقدت أولادها الخمسة، وتحولت بناتها الأربع إلى أرامل، جميعهم يعيشون في منزل لا أثاث فيه.

137

136

Made with FlippingBook Online newsletter