كتاب الجزيرة 25

في كل جدار ثغرة

يا ترى؟ ماذا حل بها؟ هل انتهى ترحالها أم شملتها رحمة الله الواسعة؟ وماذا عن فاطمة؟ هل بقيت شامخة وقوية في غرف التحقيق كما ظهرت على الشاشة أم إنهم كسروها؟ ثم يسرح خيالي متأملا عيون الأطفال الثلاثة لحظة اقتيادها من بينهم، هذا أكثر ما يؤذيني في عملي. لقد وضع فيلم «سيناء: حروب التيه» الملح على الجرح، وكان نقطة تطور جذرية في مسار برنامج المسافة صفر وأدواته التحقيقية. فبعد أكثر من عام من العمل تمكنا من الوصول إلى سيناء، تلك المنطقة التي حُصنت عسكريا بدعوى مكافحة الإرهاب. عزل أهلها وغيبت عن الإعلام وباتت بقعة متروكة في غياهب النسيان. كشف تحقيق الجزيرة عن غارات نفذها الطيران الإسرائيلي في عمق الأراضي المصرية، جرفت مدنا بأكملها، وهجر سكانها وغدت مدن أشباح. ولأننا كنا نعلم أن كل ما وثقناه في الميدان سيواجه بالتكذيب وبتلك الأسطوانة المجنونة عن بناء الجزيرة لهذه المشاهد في استوديوهات خاصة، جاء الحسم عبر صور أقمار اصطناعية أظهرت اختفاء بلدات وتجمعات سكانية من الخريطة تماما. لقد كانت صور الأقمار الاصطناعية صفعة لوجه الاستبداد لا يمكن إنكارها. ولذلك سعى جهاز الأمن إلى الانتقام من السكان حين انسدت أمامه طرق التكذيب. من قال إن الأبواب الموصدة لا تفتح؟ نحن نخترقها إذا آمنا بما نفعل. تمكن فريقه من تطوير 2017 فمنذ أن انطلق «المسافة صفر» عام أدواته التحقيقية تدريجيا ووصل إلى عمق الأماكن.

فيكل جدار ثغرة منتجة برنامج «المسافة صفر» | سلام هنداوي

هوية «حسنة». ثم حددوا هوية «فاطمة».. أم الأطفال الثلاثة التي غُيبتْ قسرا ثم هدم منزلها بتهمة ظهورها على شاشة الجزيرة. ببساطة، لم يتمكنوا من الطعن في حقائق الفيلم فانتقموا من الضحية لأنها صرخت. لم يكن سهلا تقبل ما حدث. إنها صفحة في الضمير يصعب تجاوزها. هي غصة تؤرقني وكادت أن توقفني عن مواصلة العمل في الصحافة الاستقصائية. فحين يذهب الصحفي بقدميه للميدان يكون مستعدا لدفع ثمن ذلك، لكن كيف يمكن له أن يتقبل معاقبة الناس بسبب عمله؟ مرت سنوات وما تزال الأسئلة المفتوحة تنهشني، أين حسنة

بضع كلمات محملة بأطنان من الأوجاع والقهر كانت كفيلة أن تؤرق مضاجع من أرادوا وقوع الجريمة دون ضجيج. كلمات جرجرت حسنة السبعينية من خيمة اللجوء إلى زنزانة الاعتقال عقابا على صرختها المدوية على شاشة الجزيرة. فانضاف فصل جديد إلى حكاية شقائها وشقاء أهالي سيناء. في الأسبوع الموالي لبث فيلم «سيناء: حروب التيه» كاد الشعور بالعجز والذنب يقتلني. فالأخبار تتوالى عن حملة انتقام يقوم بها الأمن المصري ضد كل من ظهر في الفيلم أو «ساعد» الجزيرة. ورغم حرصنا على إخفاء هوية المتحدثين، فإن المخابرات نجحت في تحديد

كانت عينا «حسنة» تتنقلان بين عدسة الكاميرا وأثاث خيمتها المتناثر. ثم أشاحت بوجهها عن جهة الكاميرا، مخفيةً الدموع الحائرة في مآقيها. ربما أرادت ألا تُظهر سيلان الدموع بين تلك الأخاديد التي حفرها الزمان في وجهها بعد أن باتت مشردة على أرض وطنها وهي تحبو في عقدها الثامن. كانت متشحةً بالسواد، مفترشة أرض خيمتها بعد أن أجبرت على ترك منزلها. غالبتْ كلماتها، وتحشرج صوتها وكأنها تمنع الكلام من الخروج من حلقها ثم انطلق لسانها فجأةً أمام كاميرا الجزيرة.

149

148

Made with FlippingBook Online newsletter