كتاب الجزيرة 25

يوم قيامة فيحلب

سمحت لي الجزيرة نت بأن أعود للتغطية مجددا بعد عام. كانت الأحياء الشرقية من حلب وقتها تعيش هدوءا نسبيا لا يقارن بالأهوال قبل عام في ذات المناطق. تجربتي الثانية، ورغم هدوئها نسبيا، سمحت لي بأن أنقل تفاصيل أخرى من معاناة الإنسان السوري، لكنها كانت مهمة جدا بالنسبة لي على الصعيد المهني والشخصي، كما أنها سمحت لي بنقل زوايا أخرى من صور وقصص الناس بين حالين في الحرب التي تبقى المأساة الكبرى. رغم قسوة تلك التجربة وتفاصيلها الكثيرة جدا، إلا أنها كانت أهم ، وسمحت لي 1999 تجربة لي في مسيرتي الصحفية التي بدأت عام كصحفي -مثل العديد من الزملاء في شبكة الجزيرة- بأن ألتصق مباشرة بالحدث الذي طالما سمعت عنه من لاجئين ومهجرين التقيتهم في طريق فرارهم نحو الأردن.

الشيء الوحيد الذي ظل يرافقنا، حتى نقلي من حلب إلى جرجناز بريف إدلب فجر الجمعة هو صوت الطائرات، القصف والانفجارات التي وزعت حممها «بعدالة» على معظم أحياء حلب. استمرت رحلتي في العلاج في منزل الدكتور عبد العزيز الدغيم ليومين، قبل أن أعود لتركيا إثر إصرار مشرف التغطية الأستاذ يوسف الشولي. وبعد سلسلة من الإجراءات الطبية تأكدنا خلالها من وجود شظية واحدة من أصل أربع في قدمي. طلبت منه أن أكمل تغطيتي رغم إصراره بأن علي العودة لوطني الأردن لاستكمال رحلة العلاج. بعد إلحاح، وافق على أن أستكمل تغطية مادة واحدة فقط. كيلو مترات بين جبال أشجارها 9 انتقلت مع دليل مشيا مسافة كانت جلها قد احترقت في مشهد محزن، إلى قرية خربة الجوز بريف إدلب التي كانت قد تحررت من قبضة النظام بعد معارك شرسة شهدتها والقرى المحيطة بها. كان الهدف، إضافة للتغطية لقاء «أبو أحمد»، صاحب واحدة من أشهر العبارات التي صبغت الثورة السورية في بداياتها عندما صرخ عبر كاميرا الجزيرة: «أنا إسان ماني حيوان وهالعالم كلها مثلي». أضاء لقائي مع أبو أحمد ومع جنود منشقين عن النظام من دير الزور، والحسكة وريف دمشق وغيرها، جانبا من تحولات الناس، بعد أقل من عامين على الثورة السورية، يجده المرء واضحا في خارطة أي فصيل، فيه حملة الشهادات، والطلاب، والمزارعون، وأصحاب المهن المختلفة، وحتى من كان يعمل في التهريب، عوضا عن التنوع الاجتماعي.

صحيح أننا شهود، إلا أننا أيضا جزء من الأحداث، ذلك الجزء الذي ينحاز للإنسان والإنسان فقط. إنه انحياز لا يتعارض أبدا مع الموضوعية والمهنية التي لا حياد فيها عندما تكون تفاصيل الخبر مما شاهدناه واقعا، ونقلناه بصور وآلام وتفاصيل لا تفارقنا، فكيف بمن عاشوا ولا يزالون أهوالا ومآسي ليس أمام الصحافة الحرة إلا أن تنقلها كما هي. إن التاريخ يكتبه أولئك الذين نقلوا تفاصيله كما شاهدوه بأعينهم، لا أولئك الذين يكتبونه بأهوائهم ومواقفهم المسبقة.

241

240

Made with FlippingBook Online newsletter