كتاب الجزيرة 25

الإعلام.. الحياد والحقيقة

«الجزيرة مع الإنسان» شعار ترفعه الجزيرة وتطبقه في كل أعمالها. إنها مع الإنسان بسعيها الدائم لتقديم الحقيقة له، كما هي، من دون تحريف ولا تلوين. إنها تعمل على فضح الفساد والتزوير إعلاء للحقيقة. «الحياد» عند الجزيرة، إذن، ليس إلا التزاما كاملا «بالحقيقة»، وهو يكون بذلك المنطلق السليم لانحياز الجزيرة للإنسان. هذا يعني التزام الجزيرة بتمكين الإنسان عن طريق إمداده بالمعرفة، بكل تفاصيلها الممكنة، إيمانا منها بأن الإنسان المسلح بالمعرفة يملك حق الاختيار وأدواته. لهذا تجد المستبدين والفاسدين يحاربون الجزيرة وينفقون الأموال والوقت جاهدين لتشويه صورتها. إنهم، بحربهم المعلنة على الجزيرة «يستهدفون الحقيقة» ولهذا لا يمكن السكوت عليهم، ولا الحياد تجاههم، «فعندما تستهدف الحقيقة يكون الحياد خيانة عظمى.»

النصوص، أنبهر من قدرة مبدعيها على الجمع بين تلك الشجاعة، التي جعلتهم يتجرؤون على مواجهة الحروب والكوارث الطبيعية ونحوها حتى ينقلوا الحقيقة لجماهير الجزيرة، وبين هذه المشاعر الإنسانية الرقيقة والتعاطف الحميم مع الضحايا. إنها «الشجاعة المهنية» المتجذرة في ضمير الإنسان، صلابة ورقة. إنهم، وكثير غيرهم ممن لم يسهموا في هذا الكتاب لكنهم واجهوا تحديات مماثلة، جديرون «بتاج البطولة» الإعلامية الإنسانية. إنني أشعر بالفخر والاعتزاز لكوني أنتسب لنفس المؤسسة التي ينتسبون إليها وهم المؤمنون بأن «العمل في الجزيرة ليس وظيفة، بل رسالة». أرجو ألا يفهم من كلامي أن هؤلاء المبدعين لم ينتجوا قصصا، بثت ونشرت، تبرز تعاطفهم الإنساني الفياض مع الناس الذين يعانون، ضحايا الحروب والكوارث الطبيعية والمجاعات والظلم ونحو ذلك. لقد أنتجوا من القصص الإنسانية الكثير، مما خلق تعاطفا كبيرا مع الضحايا أدى إلى تلقيهم مساعدات هامة من الخيرين. غير أن مثل هذه القصص كانت تنتج خارج إطار تغطيات الحدث، في إطار نوع خاص من المحتوى الإعلامي الذي لا يتعلق مباشرة بتغطية الأحداث، ويدعى عادة «فيتشر ستوري» (ربما يمكن ترجمته حرفيا بعبارة «قصة الملمح»، وهي ترجمة لا تؤدي الغرض بدقة وأرجو أن يتفق اللغويون والمترجمون على عبارة أصح).

واحد، يرفضها رئيس التحرير من دون تردد. لماذا؟ لأنها صورة «منحازة»، غير متوازنة، جزئية، تتبنى منظورا واحدا وتتجاهل الزوايا الأخرى للمشهد، تفتقر للواقعية، «غير مهنية» الخ، وهي بذلك تكون قد خانت الحقيقة. «الحياد» هنا ضروري، لأن الصورة الكاملة تستدعي أن نقدم الجلاد والضحية، من دون انحياز لأي منهما حتى نحافظ على حق المتلقي في تشكيل الموقف الذي يراه صوابا استنادا إلى استيعابه لكل زوايا المشهد. تقديم المشهد الكامل هو الضمان الجوهري لتقديم «الحقيقة» للمتلقي، وبها فقط يكسب الإعلام مصداقيته ويحقق هدفه: «تمكين الجمهور من المعرفة وبها». لم أقل «الحقيقة الكاملة»، لأن الحقيقة لا تكون إلا كاملة، وإلا فإنها ليست حقيقة. من الواضح حتما أن مصطلح «الحقيقة» هنا لا يعني الحقيقة المطلقة التي يتحدث عنها الفلاسفة مثلا، ولكنها تعني «الحقيقة الوقائعية». والحياد الذي أتحدث عنه هنا يتعلق بالتغطيات الإخبارية، وليس بأشكال أخرى من التقارير والبرامج التي تسمح بتجاوز حدود نوع الحياد الذي أتحدث عنه. أين إذن تلك «المشاعر الغلابة» التي أشرنا إليها سابقا؟ هنا، في هذا الكتاب، نجد صورا رائعة منها تجسد ما اختزنه كتَاب هذه الصور القصصية، بعد أن تمكنوا أعواما عديدة من إنجاز عملهم الإعلامي بكل مهنية، من دون أن ينهاروا أمام حالات إنسانية ينفطر من هولها القلب. لم يفقد هؤلاء الإعلاميون الأفذاذ إنسانيتهم وهم يحافظون في عملهم على أرقى معايير المهنية. كنت، وأنا أقرأ هذه

من القنوات والمنصات والمراكز والإدارات، وما رافق هذه المسيرة من تحديات ونجاحات منقطعة النظير، رغم بعض المآسي التي ما تزال تثير الشجون، خاصة استشهاد زملاء لنا كانوا من طلائع فرسان الحقيقة. نعرف، من خلال أغلب هذه الصور، المسار الخارجي لتاريخ المؤسسة وبناتها. أما الصنف الثاني فيجسد المسار الداخلي / الباطني، وتمثله كتابات تركز على «التجارب الإنسانية» التي واجهها الزملاء أثناء أداء عملهم الميداني. أغلب هؤلاء من المراسلين أو الموفدين لتغطية أحداث هامة، كالحروب والكوارث الطبيعية والمجاعات ونحوها من المآسي الإنسانية. نجد هنا أن الإعلاميين، في مثل هذه الحالات، يواجهون تحديا كبيرا يصل أحيانا إلى مستوى «المحنة». فالإعلامي يجد نفسه ممزقا بين واجبه المهني الذي يفرض عليه تقديم الصورة الكاملة للحدث الذي يغطيه، بعيدا عن مشاعره الخاصة التي تميل به نحو إبراز تعاطفه مع الضحايا، وهو ما يجعله يبدو «حياديا» تجاه حالة لا تقبل «الحياد».فهل تجوز مساواة الجلاد بالضحية في تقرير يقدم الطرفين معا وكأن لكل منهما الحق نفسه في التقرير؟ ألا يبدو هذا، للوهلة الأولى، وكأنه يبرر عمل الجلاد ولو جزئيا؟ ثم إلى أين تذهب تلك «المشاعر الغلابة» التي لا يمكن لقلب بشر أن يخلو منها أو أن يتجنبها وهو يصور بشاعة المشاهد التي يراها أو يكتب عنها تقاريره، خاصة عندما يتعلق الأمر بالأطفال، مثلا؟ لو أطلق العنان لعواطفه هناك لما بُث تقريره على الشاشة، لأنه لن يكون صورة حقيقية لكل ما حدث، بل يكون مجرد «بكائية» منحازة لطرف

23

22

Made with FlippingBook Online newsletter