كتاب الجزيرة 25

انفجار بيروت الدامي

بقيت مع فريق العمل في تغطية متواصلة لأيام في الأحياء المنكوبة، وكان التحدي نقل الصورة على حقيقتها وبسرعة لا تسرّع، وبصدق دون تأثر، رغم ما أحاط عملنا من تحديات شخصية ومهنية لم نألفها من قبل. لقد شهدنا حروبا وقتالا واغتيالات وراكمنا خبرات في كيفية التعامل معها وجهزنا سيناريوهات لعائلاتنا للتصرف في حال وقوع أحداث كالتي سبقت، لكن ما حدث لم يكن في الحسبان أبدا، ولم يكن يخطر ببال أي عاقل أن انفجارا بهذه الضخامة سيحدث كل هذا الفرق في حياة الناس، وقد وقع بفعل إهمال وفساد كانت تؤشر إليهما نتائج التحقيقات.

القتلى والجرحى لا يمكن إحصاؤهم ميدانيا، ففي حي مدمر هذه امرأة تحاول نقل ما تبقى من ثياب عائلتها، وفي حي آخر كاهن يتفقد كنيسته بعد أن نجا من دمارها خلال صلاته، والمنازل القديمة التي كانت تزين الحي فقدت قرميدها وشرفاتها الملونة الجميلة، وشارع السهر والمطاعم الذي كان يضج حياة صار أثرا بعد عين. لكن متطوعين رفضوا الركون لمبدأ موت مدينتهم، فتوافدوا بالعشرات وبدأوا فتح الطرقات ومساعدة السكان على رفع ركام منازلهم حتى قبل تحرك سلطات المدينة نفسها.

العمل، وشابا فقد صوابه بسبب وفاة شقيقه المصاب بكورونا بعد تعطل جهاز الأوكسجين إثر انقطاع الكهرباء، وامرأة تحاول التخفيف عن والدتها العجوز الملقاة على سرير في موقف السيارات وهي التي خضعت لعملية جراحية وأصيبت بعدها بساعات بجراح بليغة وأسعفت على عجل في انتظار تأمين سيارة لنقلها. ومع انتصاف، الليل أخلي الجميع بسيارات إسعاف وصلت من أماكن بعيدة من جنوب لبنان وشماله وشرقه لنقلهم خارج العاصمة. بقيت التغطية مفتوحة على شاشتنا، وفي دقائق الانتظار كانت الرسائل الكثيرة التي تصل شاشة هاتفي تتحدث عن أصدقاء جرحوا ونقلوا إلى المستشفيات، أو دمرت منازلهم أو أخرى تطمئن على أحوال عائلتنا والزملاء. بعد استراحة ليلية قصيرة، كنا مع الضوء الأول نجول بين الأحياء التي كانت جميلة وهادئة نهارا وصاخبة ليلا، وتحولت إلى منطقة منكوبة، كنا ننتقل مشيا على الأقدام، فلا السيارات ولا الدراجات النارية تستطيع التحرك بسبب حطام المباني والطرق المقفلة. في حي قريب مدمر من المرفأ بدأنا رسائل حية لنقل واقع الصورة لعالم ينتظر أخبار تداعيات الانفجار الذي هز كل بيت. قتل أحد عشر شخصا بينهم أطفال في الحي الذي اخترته لبداية نهارنا. قلة من سكانه ممن أصيبوا بجروح طفيفة كانوا في الشارع، وكل الشقق والمحال التجارية التي فيه دمرت. هكذا تكرر المشهد،

بينما كانت سيارات الإسعاف تنقل من تبقى من مرضى وجرحى إلى مستشفيات بعيدة، إذ إن المستشفيات القريبة كانت خارج الخدمة. وصلنا إلى مستشفى جامعي بعيد نسبيا عن دائرة الانفجار، لكن حقيقة آثاره الإنسانية كانت هناك: أطباء وممرضون ينعشون أعدادا كبيرة من الجرحى، سيارات الإسعاف تواصل نقل المصابين، وفي كل واحدة ثلاثة أو أربعة جرحى. أمهات يصرخن بحثا عن أفراد عائلاتهن، وغرف الطوارئ تحولت إلى عمليات، وتكدس الجرحى بالممرات وبدأ نقل من توفي منهم إلى ثلاجات الموتى. انتهى خلال ساعة مخزون الدم والأمصال وأعلنت إدارتها أنها لم تعد قادرة على استيعاب المزيد. كنا نسمع عبر أجهزة اتصال سيارات الإسعاف التي كانت تتوقف أمام غرف الطوارئ كيفية إدارة عملية إخلاء الجرحى وطلب نقل الحالات الحرجة إلى المستشفيات القريبة والإصابات المتوسطة إلى خارج العاصمة. كان علينا توسعة دائرة التغطية لنقل الوقائع من مواقع أخرى، وكان الزملاء قد تولوا نقل ما يجري في عين المكان من المرفأ. أبلغنا أنه بدأ إخلاء مستشفى قريب بسبب الدمار الذي لحقه. كان المرضى بأسرّتهم والممرضون والأطباء، ممن نجوا من عصف الانفجار، مجتمعين في مكان مكشوف في موقف سيارات قريب. عمل فريق المستشفى في سباق مع الزمن على نقل الجرحى النازفين، ومن بينهم أطباء وممرضون، إلى مستشفيات خارج العاصمة. شاهدت ممرضات يبكين زميلات لقين مصرعهن، وهن يواصلن

273

272

Made with FlippingBook Online newsletter