كتاب الجزيرة 25

الوداع الأخير

المليشيات فسمحت بخروجنا، وانطلقت الحافلات يرقب الناس من نوافذها آخر مشاهد حلب المرتسمة على العيون المحمرة تعبًا وحزنًا وهلعًا. ظهر ذلك اليوم، وصلنا ريف المدينة الخاضع لسيطرة المعارضة، ووصلت إلى بيت أهلي في ريف المدينة الغربي. سارعت إلى والدتي أقبل يديها بعد غياب وبعد سنوات طويلة عنها. كانت تتلمس وجهي وشعري ويدي...وهي تنادي باكية: «عمرو؟ ما متت الحمد لله يا ابني! أنت بخير، وعندي، خليك معي يا ابني». ثم أقبل الجميع يسلمون علي، يتحدثون وكأني لا أسمع شيئًا من قولهم سوى صدى كلماتهم، كمنعزل في غرفة زجاجية. حقًا، لا يعرف أهوال حلب سوى من عاشها! وقفت أمام المرآة، وكدت لا أعرف نفسي؛ كان وجهي شاحباً أصفر تكسوه طبقة سوداء من الغبار. قد كتبت لنا ذلك اليوم حياة جديدة. كانت فرحة بلقاء الأهل والنجاة، ومأتمًا على التهجير وفراق حلب. ثلاث سنوات ونيّف نقلت وغطّيت فيها مراسً لقناة الجزيرة يوميات حلب وحكايتها ما استطعت. غطّيت انتفاضة مدينة ضد نظام عاقبها فجلب مليشياته وحلفاءه فهدّ المدينة ودمّرها وقتّل أهلها وهجّر من بقي منهم على قيد الحياة.

«حان وقت التهجير، وهؤلاء هم أهل المدينة خلفي يتدافعون للنجاة والخروج من المدينة، فالتهجير مهما كان مراً إلا أنه يضمن حياتهم، سنوات وسنوات قضيتها في هذه المدينة أنقل فيها آلام الناس ومآسيهم وأتراحهم، حتى وصلنا معاً لليوم الذي نودع فيه مدينتنا، وربما تكون هذه آخر مرة أقول فيها: عمرو حلبي الجزيرة حلب». ثم صعدنا الحافلات، يحيطها مقاتلو النظام ومليشياته، ومتطوعون من الهلال والصليب الأحمر. مضت ساعات ونحن ننتظر تحرّك الحافلة والقافلة. حين حلّ المساء هممت لأخرج وأنظر ما أخّرنا، فأمسك بيدي متطوّع من الصليب الأحمر وقال: لا تخرج، الوضع متوتر والأمور ليست جيدة. المليشيات لا تسمح بخروجكم! عدت أدراجي وجلست. لا يقطع لحظات الصمت المخيف سوى همس بكاء النساء وصراخ الأطفال تارة، وصفير الرياح المتسربة من نوافذ الحافلة تارة أخرى. حتى إن امرأة جاءها المخاض من شدّة الهلع فولدت طفلها، وجاء بها الصليب الأحمر فجلست مكاني، بينما تمددت بين كراسي الحافلة، حتى كدت أتجمّد من البرد القارس. قبيل الفجر، ساء حالنا جوعًا وعطشًا وبردًا، فالطقس بارد والثلج يتساقط بغزارة، ونحن بين يدي قوات النظام ومليشياته. أخبارنا منقطعة عن العالم الخارجي لا نعرف مصيرنا ولا ما يدبّر لنا. وهكذا حتى طلع الفجر ومعه جاءت بوادر الفرج. رضخت

نقلت تفاصيل تحدّي الانتفاضة والثورة، وآمال الحرية والكرامة، قصصت في تقارير حكايات أمل وفرح عاشها أهل حلب، رحلوا وظلت حكاياتهم يتيمة لكنها خالدة. رويت قصص الأحزان والمجازر والمآتم اليومية في المدينة. عندما كنت أنقل وأغطي كل ذلك، كان الناس يسألونني: «شو الفائدة من كل هالصور والتقارير، ما حدا سائل علينا». حتى إني كدت أستسلم لذلك. لكني اليوم، وقد كتبت لنا الحياة، أرى ما وثقته كاميرا الجزيرة في حلب وقد كانت القناة العالمية الوحيدة في المدينة المحاصرة، أرى ما وثقته كاميرا فريقنا وما وثقه باقي الزملاء الصحفيين من القنوات المحلية، أرى كل ذلك أرّخ لحقبة خراب حلب ومحرقتها ويوم القيامة فيها. سيبقى ما روي صوتا وصورة سجلاً يعرف الأجيال القادمة بقصة مدينتهم ولربما ينصف يوما ما الجيل الحالي. لقد نقلت الجزيرة وباقي وسائل الإعلام وقائع المذبحة داخل أحياء حلب المحاصرة، وهو ما شكّل ضغوطا دولية ورأيًا عامًا للحفاظ على حياة من بقي من المدنيين المحاصرين وضرورة إجلائهم إلى مناطق آمنة. كلي يقين بأن ما نقلته الجزيرة وباقي وسائل الإعلام ساهم في حين أبيدت المدينة دون أن ١٩٨٢ تجنيب حلب مصير حماة عام يعرف أحد عن مجازرها شيئا. ليست الصحافة مهنة بل رسالة إنسانية في المقام الأول.

325

324

Made with FlippingBook Online newsletter