كتاب الجزيرة 25

الجزيرة وقضايا الأمة

الجزيرة وقضايا الأمة الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين | الدكتور علي القره داغي

أتذكر أن أول تجربة لي مع الجزيرة، كانت في بداية نشأتها عندما اعتمد برنامج (الشريعة والحياة) فطلب مني الأستاذ محمود السهلاوي نائب رئيس مجلس إدارة الجزيرة (في ذلك الوقت)، أن أتعاون مع الأستاذ أحمد الشيخ الذي كان يُعدّ ويُرتّب البرنامج فكانت التجربة الأولى له معي. وخلال تلك التجربة شعرتُ بأن طبيعة هذا البرنامج مختلفة عما خُضتُهُ سابقاً. وفعلاً خرج البرنامج متميزاً في كل جوانبه، ومن أهم مميزاته أنه كان يعطي للفقهاء الآخرين أيضاً الحق في بيان رأيهم الذي قد يخالف رأي الضيف الدائم آنذاك العلاّمة الشيخ يوسف القرضاوي (حفظه الله). وأتذكر أنني سمعت العلاّمة القرضاوي يُفتي، في إحدى الحلقات لبرنامج الشريعة والحياة، بجواز زواج المسيار، فطلبتُ المشاركة، وبيّنتُ له أن للمسيار عدة أنواع وأن معظمها لا يتفق مع مقاصد الشريعة في الزواج، وذكرتُ رأي الإمام أحمد لَّ سُئل عن زواج النهاريات، فقال: (ليس من أنكحة المسلمين). وذكرتُ رأي الماوردي الشافعي. فعلق فضيلة الشيخ القرضاوي: هل تخالفني؟ قلتُ: وما المانع؟ فقال: أبداً، نرحب بكم. هكذا كان برنامج (الشريعة والحياة) فلم يكن برنامجاً تقليدياً، بل كان يثري الفقه والاجتهاد.

وكنا -نحن في العالم الإسلامي، بل والعالم الثالث- لا نتلقى المعلومات إلاّ من وكالات الأنباء ووسائل الإعلام الأجنبية التي تذكر من الأخبار ما تشاء، وتصوغها وفق ما تريد- إلى أن أُنشئت قناة الجزيرة في في الدوحة، بدعم من دولة قطر، مع منحها كامل 1996 نوفمبر 01 الحرية المسؤولة لها، وحقاً لا يمكن أن يكون هناك إعلام مؤثر مقبول إلاّ في ظلال الحرية مع الحرفية العالية. لذلك نجحت الجزيرة وأثبتت مصداقيتها بأخبارها وبرامجها الحرّة، فغطّت قضايا الأُمة، خاصة قضية فلسطين، والحروب والأحداث الجارية في المنطقة، والربيع العربي بحرَفية عالية، ومصداقية أخلاقية راقية، حتى أصبحت قِبْلَةً إعلاميّةً للشعوب المسلمة، وبخاصة للذين يَتَطلعون إلى الارتقاء بالأُمة في جميع المجالات. أحدثت الجزيرة ثورة فكرية رائدة، وغرست حبها في نفوس الشعوب العربية والمسلمة، فَبَلَغت بجُزرها، قنواتها، مواقعها الإلكترونية، مراكزها، آلياتها، وأدواتها مرحلة التنافس مع كُبريات وسائل الإعلام العالمية، بل تسبقها أحياناً.

للإعلام المعاصر قوّة هائلة في التأثير على المواقف والقناعات، ودور في صياغة العقول والعواطف والمشاعر، وتسهم في إبراز الحقائق والمظالم، وكذلك في إلباس ثوب الباطل للحق، وشيطنة أهل الحق، وتجميل أوجه الطواغيت. ولذلك أُطْلِقَتْ على وسائله: صاحبة الجلالة، والسلطة الرابعة، التي أطلقها المفكر البريطاني (أدموند بروك) الذي قال في إحدى جلسات مجلس البرلمان البريطاني: «هناك ثلاث سلطات تجتمع تحت سقف البرلمان، لكن في قاعة المراسلين تجلس السلطة الرابعة، وهي أهم منكم جميعاً». وقد أولى الإسلام أهمية قصوى للإعلام باعتباره أهم وسيلة للدفاع عن الحق، وللتغيير، وكسب الحقوق، ولكشف الباطل وبيان زيف الطغاة والمستبدين، وللنهوض بالأمة من كبوتها، وبيان طرق التغيير. وقد سمى الله تعالى الإعلام المدافع عن الحق بالكلمة الطيبة فقال تعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ََبَ اللّهُ مَثًَ كَلِمَةً طَيّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَاِ الس َّءِ) سورة إبراهيم، وسمى الله تعالى الإعلام الذي يقف مع الظالم والطغيان بالكلمة الخبيثة، فقال تعالى: (وَمَثَل كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثّتْ مِنْ فَوْقِ ا َْرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ) سورة إبراهيم.

وترجع أسباب نجاح الجزيرة في نظري إلى ما يأتي: أولاً: سقف الحرية الذي أتاحته دولة قطر، والدعم السخيّ، وثباتها، وتضحياتها في سبيل ذلك، مع القبول بتحديات كثيرة وصلت إلى الحصار الشامل. ثانياً: الفريق الإداري المتميز -من رئيس مجلس الإدارة إلى المراسل- المشبع بالإرادة القوية، والحرفية العالية، والإخلاص والاختصاص، فقد قال الله تعالى لنبيّه صلى الله عليه وسلم: (هُوَ الّذِي أَيّدَكَ بِن َِْه وَبِالْمُؤْمِنِينَ) سورة الأنفال. ثالثاً: التضحيات الجسام التي تحمّلتها الجزيرة على جميع المستويات، وص ْها على ذلك.

397

396

Made with FlippingBook Online newsletter