العدد 22– مايو - ايار 2024

صدر عن مركز الجزيرة للدراسات العدد الثاني والعشرون (مايو/أيار 2024) من مجلة لباب، التي تُعنى بالدراسات الإستراتيجية. يحوي العدد عددًا من المواضيع المتنوعة. في هذا العدد تواصل مجلة لباب الاهتمام بالتحولات الفكرية والقيمية والسياسية والاجتماعية في الغرب منذ جائحة كورونا مرورًا بالحرب في أوكرانيا، ثم عملية "طوفان الأقصى" وما تلاها من حرب إبادة جماعية إسرائيلية، ما زالت مستمرة، للمدنيين في غزة. والتي أصابت تداعياتها الاقتصادية والسياسة والاجتماعية العالم بأسره.

L U B A B  

        2024 / - 22   -   € 

‚ ƒ„     .        .    .     .  € ‚ƒ€ . „ „ „ .  † ‡     ˆ‰ ˆ ‚ †„‡ Š‹Œ ˆŽŒ   . ‚ †„‡ ˆ‡‰ ‘ ’  .. ‚  “    ” .

Š‹ ŒŽ‘ •Ž  –— ˜

دراسات وأبحاث

Studies and Research

Magdy Abdel-Hadi The Price of Tyranny: In the Political Economy of the Collapse of the Egyptian pound

مجدي عبد الهادي ثمن االستبداد: يف االقتصاد السياسي النهيار الجنيه املصري

11

أنور بن قاسم الحضري توظيف الجماعات الدينية يف النزاعات السياسية (اليـمـــن أنمـــــوذجــــ ًـًا)

Anwar Qasem Al-Khudhari Utilising Religious Groups in Political Conflicts: Yemen as a Case Study

55

Zaid Ahmed Baidar and Arshad Adil Rashid The Impact of Regional Changes on Saudi-American Relations since 2021 Abderrafie Zaanoun Morocco's Role in Governing Migration between Africa and Europe: Pioneer or Border Guard?

زيد أحمد بيدر- أرشد عادل راشد أثر املتغيرات اإلقليمية ىلع العالقات 2021 األميركية-السعودية منذ العام

103

عبد الرفيع زعنون دور املغرب يف حوكمة الهجرة بين إفريقيا وأوروبا: رائد أم دركي حدود؟

127

Hicham Ismaili The Ideology of Wokeism: Deepening the Crisis of Values and Displacing References

هشام اإلسماعيلي أيديولوجية الووكيزم: تعميق أزمة القيم وإزاحة املرجعيات

149

Rachid Boutayeb The Defeat of the West: Another History of Modernity

رشيد بوطيب هزيمة الغرب: تاريخ آخر للحداثة

181

5 |

افتتاحية العدد الغرب والتحوالت القيمية والسياسية

يصــدر العدد الجديد من لباب، في غمرة تحــوالت مهمة في المنطقة والعالم، من بين أبرزها، ما يشــهده الغرب من تحوالت قيمية وسياســية، ســواء في التعاطي مع تداعيــات الحرب على غزة، أو ألســباب أخرى كثيرة ترتبــط بالتفاعالت الداخلية فــي المجتمعــات الغربية. وفي هذا العدد نطالع مادتين حول هذا الموضوع، األولى هي دراســة عن (حركة الووكيزم) التي تتحول إلى أيديولوجية مســتقلة ضمن النسق النيوليبرالي، الســيما في الواليات المتحــدة. أما المادة الثانية، فهي قراءة في كتاب للمفكر الفرنسي، إيمانويل تود. " هزيمة الغرب " مهم صدر حديًثًا في باريس بعنوان إلى تحليل هذه الظاهــرة الفكرية " حركة الووكيــزم " ســعت الدراســة الخاصة بـــ االجتماعية التي تتخذ نمًطًا راديكالًّيًا باالنتقال من الدفاع عن حقوق األقليات العرقية التي تعاني التمييز بسبب العرق واللون إلى التركيز على األقليات الجندرية والجنسية، ورفض األسرة النووية التقليدية أنموذ ًجًا مثالًّيًا للمجتمع، ومعاملة أي ميل جنسي على أنه طبيعي وأخالقي. باعتبارها " الووكيزم " وتهدف هذه الدراســة إلى تحليل مفاهيم وأســس أيديولوجية العدالة االجتماعية " التي تدعيها حركة " الوعي بالتمييز " نوًعًا محدًدًا من ممارســات . مع تحديد مبادئ وإستراتيجيات هذه الحركة التي أصبحت تركز بشكل " المعاصرة ) واالستبداد على حساب القيم والهويات Critical theory متزايد على النظرية النقدية ) والمرجعيات الوطنية. وفي قراءة كتاب إيمانويل تود الجديد، نجد أن المفكر الفرنســي يدافع عن فرضية تقول بأن الغرب، يتجه نحو خسارة األسس الثقافية-الدينية التي قامت عليها حضارته الحديثة، وعلى رأسها، في رأيه، البروتستانتية، والتي يفهمها، باعتبارها رافعة التقدم الحضــاري الغربــي، وتركز مقاربة إيمانويل تود على العوامل الثقافية من أجل قراءة التحوالت الجيوسياسية، وهو ما يميزها عن مقاربات أخرى، من نوع تلك التي تركز فقط على التناقضات الداخلية لالقتصاد الرأســمالي في مرحلته النيوليبرالية، وتسلط مقاربته الضوء على العدمية التي أضحت تطبع السياسات الغربية.

| 6

وفي العدد دراسة تبحث في انهيار الجنيه المصري من خالل منهج االقتصاد السياسي وتعالج الموضوع من خالل المنطق المؤسسي وراء السياسات االقتصادية المصرية، التي أدت لما أصاب الجنيه المصري من تدهور شــديد طوال العقد األخير. وتتركز أطروحة الدراســة على أن هذا التدهور في قيمة العملة المصرية ال يمكن تفســيره بوصفه مجرد أخطاء تقدير أو انحرافات تنفيذ، بل بسبب النموذج السياسي الحاكم في مصر، المتســم باالســتبداد والمحاسيبية، في مواجهة تناقضات التمويل والتمثيل ، والتي 2011 والمشــروعية، التي تفاقمت بشكل خاص بعد ثورة يناير/كانون الثاني تتجذر في تفاقم تأزم المالية العامة مع تراجع الموارد الريعية، ومن ثم الحاجة لتوليد مزيد من الموارد الضريبية، بما يتطلب مزيًدًا من التمثيل السياسي يتناقض مع طبيعة " تنموسياسي " النموذج االســتبدادية ويهدد شبكاته المحاســيبية؛ ما اضطره لنموذج متناقض ذاتًّيّا، يْفِْرِط في آليات الجباية غير الطوعية لتعويض العجز المالي. وفي العدد دراسة حول توظيف الجماعات الدينية في النزاعات السياسية (اليـمـــن أنمـــــوذجــــًـًا)، تتناول حاالت توظيف الجماعات الدينية في النزاعات السياسية بالواقع اليمني الحديث، وهي ظاهرة سياسية الفتة، أسهم في خلقها أطراف سياسية مختلفة، محلية وإقليمية. وســعت الدراســة إلى رصد وتتُّبُع هذه الظاهرة من حيث األهداف والمالمح والنتائج، على صعيد جماعات دينية ع َّدَة، وذات تو ُّجُهات متباينة، من خالل مح َّطَات وأحداث عديدة، معتمدة المنهج الوصفي والتحليلي. أثر المتغيرات " وحول العالقات الســعودية-األميركية، يتضمن العدد دراســة حول أي خالل والية الرئيس "2021 اإلقليمية على العالقات األميركية-السعودية منذ العام جو بايدن؛ حيث تسلط الدراسة الضوء على أبرز القضايا واألزمات اإلقليمية وطريقة تفاعــل الواليات المتحدة األميركيــة معها وانعكاس ذلك على العالقات األميركية- الســعودية، الســيما الحرب اليمنية ومقتل جمال خاشقجي واألزمة السورية والليبية وتصاعــد نفــوذ إيــران وبرنامجها النووي. وقد خلصت الدراســة إلــى أن الطريقة األميركية في التعامل مع القضايا واألزمات اإلقليمية هي التي دفعت الســعودية إلى تبني توجهات جديدة في سياستها الخارجية تقوم على إيجاد وسائل وأدوات جديدة لمواجهة التحديات واألزمات التي تواجهها المنطقة بعيًدًا عن الحلول األميركية. وعن ظاهرة الهجرة غير النظامية من إفريقيا إلى أوروبا، يتضمن العدد دراسة بعنوان

7 |

" دور المغــرب فــي حوكمة الهجرة بيــن إفريقيا وأوروبا: رائــد أم دركي حدود؟ " ويتضمن رصًدًا لتحول الدور المغربي من دركي الحدود األوروبية إلى محاولة القيام بأدوار قيادية في تدبير الهجرة غير النظامية من إفريقيا إلى أوروبا، مع تتبع مســاعي المغرب لجعل الشركاء األفارقة واألوروبيين يقبلون بهذا الموقع، والتأثيرات الناجمة عن ذلك. في ضوء ذلك، تحاول الدراســة اإلجابة عن هذا الســؤال المركزي: ما سياقات تحول دور المغرب في تدبير الهجرة اإلفريقية نحو أوروبا؟ وهل تم َّكَن من تجــاوز نموذج دركي الحدود إلــى لعب دور ريادي، باعتباره دولة عبور بين الدول اإلفريقية واألوروبية، في تدبير تدفقات الهجرة؟

دراسات وأبحاث

ثمن االستبداد: يف االقتصاد السياسي النهيار الجنيه املصري The price of tyranny: in the political economy of the collapse of the Egyptian pound * Magdy Abdel-Hadi – مجدي عبد الهادي ملخص تعالـج الورقـة املنطـق املؤسسـي وراء السياسـات االقتصاديـة املصريـة، التـي أدت قـًا مـن � ملا أصـاب الجنيـه املصـري مـن تدهـور شـديد طـوال العقـد األخيـر؛ انطال أنـه ال يمكـن تفسـيرها كمجـرد أخطـاء تقديـر أو انحرافـات تنفيـذ، بـل كاضطـرارات للنمــوذج السياســي الحاكــم يف مصــر، املتســم باالســتبداد واملحاســيبية، يف مواجهـة تناقضـات التمويـل والتمثيـل واملشـروعية، التـي تفاقمـت بشـكل خـاص ، والتـي تتجـذر يف تفاقـم تـأزم املاليـة العامـة 2011 بعـد ثـورة يناير/كانـون الثانـي مـع تراجـع المـوارد الريعيـة، ومـن ثـم الحاجـة لتوليـد مزيد مـن المـوارد الضريبيـة، بما يتطلـب مزيـ ًدًا مـن التمثيـل السياسـي يتناقـض مـع طبيعـة النمـوذج االسـتبدادية يـّا، � ويهـدد شـبكاته املحاسـيبية؛ مـا اضطـره لنمـوذج "تنموسياسـي" متناقـض ذات يفــرط يف آليــات الجبايــة غيــر الطوعيــة لتعويــض العجــز املالــي (لحــل تناقــض التمويــل والتمثيــل)، ويحــاول تمتيــن وإعــادة هيكلــة شــبكاته املحاســيبية عبــر يـّا وغيـر فعالـة اقتصاديـة (لحـل تناقـض التمثيـل � تنميـة اسـتعراضية مكلفـة مال واملشــروعية)؛ مــا كانــت نتيجتــه مقاومــة اجتماعيــة ســلبية بتراجــع االســتثمار الخـاص وارتفـاع امليـل لالكتنـاز واملضاربـة والهـروب مـن العملـة الوطنيـة بالدولـرة... ع ـًا. � إلـخ؛ بشـكل أضعـف االقتصـاد والعملـة م مصـر، الجنيـه املصـري، الـدوالر األميركـي، الدولـرة، االسـتبداد، الكلمـات املفتاحيـة: ينايـر 25 املحاسـيبية، ثـورة Abstract This paper addresses the institutional logic behind the Egyptian economic policies that led to the severe deterioration of the Egyptian pound over the last decade. These policies cannot be interpreted as mere errors of estimation or deviations in implementation but as necessities of the ruling political model in Egypt, which is characterised by tyranny and cronyism and

* مجدي عبد الهادي، باحث اقتصادي

Magdy Abdel-Hadi- Economic Researcher

faced with contradictions in financing, representation and legitimacy. These contradictions worsened particularly after the January 2011 revolution and are rooted in the exacerbation of the public finance crisis. As rentier resources decline, there is an increased need to generate more tax resources, which, in turn, necessitates greater political representation. That political representation contradicts the authoritarian nature of the model and threatens its patronage networks. This forced it to adopt a self-contradictory “develo-political” model, which increases involuntary collection mechanisms to compensate for the financial deficit (and resolve the contradiction of financing and representation) and attempts to strengthen and restructure its patronage networks through exhibitional development that is financially costly and economically ineffective. The result was negative social resistance represented by a decline in private investment and a rise in the tendency toward hoarding, speculation and escape from the national currency through dollarisation, all of which weakened both the economy and the currency. Keywords: Egypt, Egyptian pound, US dollar, dollarisation, tyranny, cronyism, 25 January revolution.

13 |

مقدمة احتل الجدل حول التدهور المستمر للجنيه المصري، أو ما أخذ إعالمًّيّا اسم التعويم، جزًءًا معتبًرًا من النقاشات االقتصادية طوال العقد األخير، بعد أن قامت مصر بخمسة تخفيضات/تعويمات كبيرة، باإلضافة لعدة تخفيضات تدريجية بســيطة، خالل عشرة )، لينخفض الجنيه المصري مقابل الدوالر األميركي من حوالي 2024 - 2014 أعوام ( جنيًهًا للدوالر الواحد، بإجمالي انخفاض جاوز 47 سبعة جنيهات إلى ما يجاوز اليوم % خالل نفس 24 % مــن قيمته مقابل الدوالر، الذي انخفض هو نفســه بحوالي 85 الفترة؛ ليكون إجمالي االنخفاض الحقيقي في ســعر صرف الجنيه بالمقارنة بدوالر .% 90 حوالي 2014 هذا التدهور السريع خالل عقد واحد، والجدير بوصف االنهيار بالنظر لحجمه الكلي وانعكاســاته على دخول ومدخرات ومستويات معيشة المصريين، استقطب كثيًرًا من الجدل حول أخطاء السياسات االقتصادية المصرية طوال العقد األخير، من استدانة ا عن مفرطة وســوء توظيف للموارد واعتماد غير رشــيد على األموال الساخنة، فضاًل )، رغــم كل الخبرات التاريخية 1 اللجــوء المتكــرر لصندوق النقد ضمن كل ذلك( .) 2 السيئة، والقريبة، لمصر نفسها معه( وقد انص َّب أغلب التحليالت على الجانب االقتصادي التقني من إشــكاالت تجارية التدهور " تسارع " ومالية ونقدية، كلها مهم ووجيه وأساســي، لكنها ال تكفي لتفسير خالل العقــد األخيــر بالتحديد، لهذا ال تكتمــل إال بتناول ُبُعد آخر يؤطرها جميًعًا، ويفســر جزًءًا محورًّيّا من خلفية تلك اإلشكاالت نفسها، هو البعد المؤسسي، الذي يتصل بطبيعة النظام السياسي. كذا ال يمكن تفسير خطايا السياسة االقتصادية المصرية طوال العقد األخير وما قبله بمجــرد النزعــات الفردية أو قلة المعرفة والخبرة، أو أخطاء التقدير وســوء التنفيذ؛ فخالًفًا لســذاجة هذا القول الذي يقيس الدول على األفراد، فإنه يخالف حقيقة ِقِدم مشكلة تدهور الجنيه ووجود خبرات فعلية وسوابق تاريخية لمصر مع كل اإلشكاالت المنتجة لها، كما، وهو األهم، ال يفسر مطلًقًا استمرار وتكرار كثير من هذه األخطاء، رغم كل ما سَّبَبته من أزمات.

| 14

انعدام المســؤولية " ا، ليس جوهر المشــكلة في اإلفراط المالي بحد ذاته، أو فمثا ًل ، حســب وصف روبرت ســبرينجبورج، ضمن تلخصيه إلشكاالت النموذج " المالية االقتصادي المصري في عهد الرئيس عبد الفتاح السيســي، باندفاعه لإلســراف في اإلنفاق بما تجاوز إمكانيات مصر، ومحاولة إنشــاء دولة ريعية دون وجود ريع من األساس، معتمًدًا كبديل على االئتمان وتقليص االستهالك المحلي من السلع العامة )، فربما لم يكن اإلفراط المالي ســوى مظهر المشــكلة، ال أصلها الحقيقي 3 وغيره( النهائــي، خصو ًصًــا إذا كان ثابًتًا كاتجاه عام منــذ عقود؛ بحيث ال يمثل الفارق بين السيسي وما قبله سوى فارق درجة -هائل بالطبع- ال فارق نوع. وهكذا، فما تســتهدفه هذه الورقة هو تحليل دور طبيعة النظام السياســي في مصر، )، في 4 من غلبة الميل االستبدادي المحاسيبي عليه بأكثر األوصاف عمومية وتحفًظًا( التدهور المتســارع لسعر صرف العملة الوطنية خصو ًصًا، وفي تفاقم ركود وهشاشة االقتصاد المصري عموًمًا، من جهة خلفيات ودوافع ممارســاته االقتصادية والمالية، ومن جهة قنوات وأشكال تأثيره على أبعاد األداء االقتصادي األساسية ذات الصلة، دون توســع أو إغراق في تفصيالت االقتصاد التقني لمشــكلة ســعر الصرف، مما .) 5 تناولناه سابًقًا في مواضع أخرى( وهكذا تبدأ الورقة بنبذة موجزة عن األبعاد الهيكلية لمشكلة سعر الصرف في مصر، ثم مناقشة ألزمة النموذج السياسي بمعضالتها ووجوهها الثالثة من تناقضات التمويل والتمثيل والمشــروعية، وبعدها المناورات الجبائية والتنموسياسية التي يتبعها النظام ا إلى انعكاسات تلك المناورات على االقتصاد والعملة، السياسي لمواجهتها، وصواًل وما يمكن توقعه على أساس تلك االنعكاسات. نبذة عن األبعاد الهيكلية لمشكلة سعر الصرف في مصر حيث يمثل ســعر الصرف، أو بصيغة أخرى، القوة الشــرائية الدولية للعملة الوطنية، تجســًدًا نهائًّيّا لكافة أبعاد ومتغيرات االقتصــاد الداخلية والخارجية؛ فإنه يمثل أحد أعقــد الظواهــر االقتصادية من جهة تداخل العوامل المؤثرة فيها وتعدد مســتويات تأثيرها وتفاعلها، وما يزيد األمر صعوبًة مكونه السياسي واإلداري الصريح، بكل ما يتضمنه من توجهات فكرية وأولويات عملية للسلطة الحاكمة من جهة، ومن أخطاء التقدير والتنفيذ الحاضرة حتًمًا ودوًمًا من جهة أخرى.

15 |

يزداد التعقيد تعقيًدًا بمعالجة اإلشــكالية في ســياق االقتصادات المتخلفة أو النامية، سواًء كانت شبه صناعية أو ريعية أو خليًطًا من االثنين مًعًا، بكل ما تعانيه أمثال هذه االقتصــادات من اختالالت أعمق وتناقضــات َأ ََح ََّد داخلًّيّا، وما تعانيه من قيود أكبر ومساحات أقل للمناورة بفعل التبعية للمراكز الرأسمالية خارجًّيّا. ودون إغراق في تفاصيل تخرج عن نطاق الورقة، أو تكرار لما سبق وتناولناه تفصياًلا )، فاالقتصاد المصري اقتصاد شبه صناعي بانحراف ريعي صريح؛ 6 في مواضع أخرى( يعاني من عجز تجاري مزمن (فلم تغط الصادرات الســلعية ســوى ثلث الواردات السلعية كمتوسط عام طوال نصف القرن المنصرم)، اعتمد في معالجته على فائض الميــزان الجاري، المكون في معظمه من مجموعة شــبه ثابتــة من موارد من النقد األجنبــي، غلب عليها الطابع الريعي والميــل للتقلب بطبيعة الحال، ومع ذلك فقد ا وبكثافة مفرطة حتى اشــتهرت باألربعة الكبار المصرية، وهي: اعتمــد عليها طوياًل متحصالت الصادرات النفطية وعوائد الســياحة ورســوم قناة الســويس وتحويالت العاملين بالخارج. ومــن بينهــا جميًعًا احتلت تحويالت العاملين بالخــارج مكانًة خاصة، فقد وصلت طوال عقد الثمانينات إلى نحو نصف إجمالي الصادرات المصرية، وما يقارب أربعة أضعاف االستثمار األجنبي المباشر وثلث االستثمار اإلجمالي، وأكثر من مرة ونصف المرة المعونات اإلنمائية، ونحو ثلثي االدخار المحلي، وما يقرب من نصف االدخار اإلجمالي، واليوم بعد أكثر من ثالثة عقود، لم تتغير الصورة كثيًرًا، فعبر العقد األخير )، تجاوز متوســط التحويالت نصف الصادرات، ونحو أربعة أضعاف 2021 - 2013 ( االســتثمار األجنبي المباشــر، وأربعة أضعاف إيرادات السياحة، وما يقرب من أربع .) 7 مرات ونصف المرة إيرادات قناة السويس( وقــد لعبت هذه التحويالت، وإلى جانبها الموارد الريعية األخرى، دوًرًا يشــبه دور المــوارد الطبيعية في البلــدان الغنية بالموارد الطبيعية، فخلقــت بع ًضًا من أعراض )؛ فعانى من ارتفاع سعر الصرف الحقيقي 8 المرض الهولندي في االقتصاد المصري( (األمر الذي تعزز بربط الجنيه المصري بالدوالر األميركي منذ أوائل التســعينات)، ا عن تعزيز أنشطة التداول والريع والسلع وتراجعت تنافسية الصادرات المصرية، فضاًل غير اإلتجارية على حســاب أنشــطة اإلنتاج والسلع اإلتجارية؛ ومن ثم تفاقم العجز التجاري.

| 16

من جهة أخرى، أضعفت هذه الموارد الريعية الضغوط ألجل المســاءلة السياســية )، كما شــوهت ممارســات المالية العامة وعززت الميول 9 والديموقراطية التمثيلية( المحاســيبية للنظام السياسي كآلية لتكريس اســتقراره ولتعويض ضعف المشروعية السياســية؛ ما أضعف التطور المؤسســي واإلنتاجي للبلــد عموًمًا، وض َّخَم جيوب الفساد العام والخاص. وحيث تراجع التصنيع منذ االنفتاح، وركد عند مستوى التصنيع االستهالكي األولي دونما تعميق لمســتويات أكثر تقدًمًا؛ تفاقمت االعتمادية العينية على اســتيراد السلع الرأســمالية ومســتلزمات اإلنتاج من الخارج؛ بما أدى إلى إخضاع التوازن الداخلي (العرض والطلب المحليين) للتوازن الخارجي (إمكانات تمويل الحساب الجاري)؛ بحيــث أصبح ميزان المدفوعات ورصيد النقد األجنبي القيد النهائي على كامل نمو )، وبما جعل الدوالر األميركي مقياس القيمة النهائي والحقيقي في االقتصاد 10 البلد( ا كامًنًا للدولرة وأضعف فاعلية السياسة النقدية، في اقتصاد تابع المصري؛ فج َّذَر مياًل محدود االستقاللية أصاًلا. وألن االقتصــاد ال يمتلك احتياطيات غزيرة من الموارد الطبيعية القادرة على تمويل عجــز خارجي مزمن، بل مجرد موارد متقلبة ومتراجعة كاتجاه عام؛ عانى االقتصاد، من جهة، من هشاشــة مالية وضعته على حافة اإلفالس مع كل أزمة خارجية و/أو اختنــاق مالــي من جهة، ومن جهة أخرى، من اقتطــاع حتمي من موارده وانكماش إجباري شــبه دوري لناتجه اإلجمالي لســداد مديونياته المتراكمة؛ يترجم ضمن ما يترجم بخفض في سعر الصرف كل فترة. وقد تساوق ذلك مع، وضمن، اختالل أعمق لكامل الديناميات االقتصادية؛ من تشوه لهياكل األسعار واألرباح واالستثمار وضعف نمو اإلنتاج وتدهور فاعلية السياسات الكلية؛ بما انعكس بمجموعه ســلبًّيًا على مؤشــرات المالية العامة وال َّدَْيْن الحكومي والميزان التجاري والتضخم وسعر الصرف؛ ليخلق حلقة خبيثة من التغذية المتبادلة فيما بينها جميًعًا. وقد عزز من هذه االنحرافات البرامج النيوليبرالية التي اعتمدتها مصر ضمن اتفاقاتها مع صندوق النقد الدولي منذ أواســط الســبعينات، والحقيقة أنها ليست استثناًء بأية حال، فحالها يشبه حال أغلب التجارب االقتصادية العربية غير النفطية، كما رصدها

17 |

علي القادري في سياق التحوالت النيوليبرالية؛ حيث اتخذت تلك السياسات، وأدت ا : فتح حسابات رأس المال وتقليص معدالت ): أواًل 11 إلى، ستة أبعاد ونتائج مترابطة( الفائدة وأسعار الصرف المتعددة إلى معدل وسعر واحد؛ ما أدى إلى ضعف فاعلية السياســات النقدية كأداة تنموية وفقدان السيادة الوطنية عليها، وثانًيًا: تعاظم اللجوء لالقتراض الخارجي، كنتيجة لآلثار الســلبية لهذه السياسات على موازين مدفوعات الدول العربية الفقيرة نفطًّيّا، فكانت النتيجة، ثالًثًا، أن ارتفعت عالوة المخاطر ضمن معدالت الفائدة، بســبب مخاطر ســعر الصرف ممزو ًجًة بحالة عدم اليقين بالمنطقة الناجمة عن الحروب، فامتنعت نتاًجًا لكل ذلك تدفقات رأس المال وزادت صعوبة تمويل المشروعات الوطنية، فكان رابًعًا، أن انخفض االستثمار العام نتيجًة للسياسات النيوليبرالية ومتطلبات سياســات االستقرار قصيرة األجل في الموازنة العامة وميزان المدفوعات، ثم، خامًسًا، ضربت الدولرة (أي تفضيل المواطنين حيازة الدوالر بداًلا من العملة الوطنية) الصريحة أو الضمنية ســوق النقد تدريجًّيّا، منتزعًة معها قضمًة ضخمة من السيادة النقدية كنتيجٍة عامة لتدهور وعدم استقرار العملة الوطنية وإحالل الدوالر محلها كمخزن للقيمة، فتراكمت، سادًسًا، اآلثار االجتماعية السلبية للتقشف فــي األجل القصير، لتدفــع لتدهور قوة العمل ورأس المال االجتماعي في األجلين القصير والطويل مًعًا. إنها دورة خبيثة متكاملة، تبدأ من التخلف الصناعي وفجوة التشغيل، وتتعزز بأمراض ريعية ولبرلة استتباعية تفاقم االختالالت الكلية وتشوه منظومة الحوافز، لكنها تتجدد ويعاد إنتاجها على مســتويات أســوأ، بفعل إطار مؤسسي استبدادي محاسيبي، تابع يـّا وطفيلي داخلًّيّا، وفي هذا اإلطار تتجلى أهمية النموذج السياســي، وكيف � خارج تنعكس تناقضاته على سياساته، بشكل يع ِّمِق األزمات الكامنة، ويسرع وتائر انفجاراتها. أزمة النموذج السياسي: تناقضات التمويل والتمثيل والمشروعية تعاني االقتصادات شبه الصناعية عموًمًا انخفاض متوسط اإلنتاجية ومحدودية الفائض االقتصــادي، ومعه الهامش الضريبي الممكن؛ ومن ثم انخفاض ســقوف الترضيات االجتماعية والمناورات السياسية الممكنة؛ بشكل يسمح بمساحة معقولة من التمثيل االجتماعي دون تهديد استقرار النظام السياسي، فإذا كانت مصابة بشيء من االنحراف الريعي؛ فإنها قد تمارس تلك الترضيات والمناورات بأساليب تقتل الديمقراطية، وال

| 18

تبنيها، وأبرز النماذج النظرية لتفسير وتجسيد ذلك المسار، غير المتناقضة جوهرًّيّا، بل والمتداخلة مفاهيمًّيّا، هي مداخل األنظمة المحاسيبية واألنظمة المقيدة. ويتميز مدخل األنظمة المقيدة والمفتوحة بمساحة أكبر من التدرج المراعي للتفاصيل، فبينمــا األنظمــة الديمقراطية المفتوحة واضحة ومحــددة كنوع واحد، نجد األنظمة المقيدة تتراوح ما بين ثالث درجات، أســوأها األنظمة المقيدة الهشــة، وأوســطها ا األنظمة المقيدة الناضجة، والتي تتفاوت األنظمة المقيدة األساســية، وأفضلها حااًل من األولى إلى األخيرة بحســب درجة تطور المؤسســات إيجاًبًا والتمايز فيما بينها .) 12 ومدى وحدة القواعد وهامش التأثير الديمقراطي( عامــل إضافي يلعب دوًرًا مه ًّمّا في صياغة واســتمرار األنظمــة المقيدة، هو الطابع ا لتســرب الَطَرفي التابع -ألغلبها- في النظام العالمي؛ حيث يؤدي ذلك الموقع أواًل القيمة من هذه البلدان؛ بما ُيُضعف فوائضها االقتصادية ومعها هوامشها الديمقراطية بدرجــة أكبر، وثانًيًا باتفاق المصالح ما بيــن النخب اإلمبريالية والمحلية على إدامة ))؛ وبما 13 الوضــع التابــع؛ لضرورته لمصالح ك ٍّل منهما (بما فيهــا المتضاربة منها( .) 14 يجعل أي هامش ديمقراطي حقيقي تهديًدًا لمثل هذا الترتيب( والناظر في الحالة المصرية يجدها قد تدهورت خالل العقد األخير من درجة وسطى ما بين األنظمة المقيدة األساسية والناضجة، إلى ما يقرب من قاع األنظمة الناضجة (حتى اآلن)، فبينما كانت قد بدأت تمتلك هامًشًا ديمقراطًّيًا وتعدًدًا في المؤسسات والشــركات، وإن خضعــت جميًعًا لتأثير الســلطة المركزية، فإنهــا قد مالت مؤخًرًا لتراجع هذه التعددية وإخضاع أغلب المؤسسات االقتصادية، عامة وخاصة، للسلطة الحاكمة، والتركز الشديد للقرار وقتل العملية السياسية والقمع الفوري العنيف ألي معارضة. هذا التصاعد في القمع يتماشــى مع توقعات ســامر ســليمان في أطروحته الشهيرة )؛ حيث توقع حتمية اتجاه النظام السياســي 15 ( " النظام القوي والدولة الضعيفة " عن المصري لزيادة حدة قمعه لمواجهة تناقضه الحاد، المتمثل في التأزم المالي المتصاعد مع تراجع الموارد الريعية التي قام عليها نظامه المحاســيبي، أي صيغته الخاصة من األنظمة المقيدة المذكورة.

19 |

فمع هذا التأزم المالي المتصاعد، سيضطر النظام لمزيد من االعتماد على استخالص المــوارد الماليــة من المجتمع، ســواًء من خالل جباية الضرائــب أو االقتراض من ا مزيًدًا من الشفافية والرقابة ا أو آجاًل األموال الخاصة عبر البنوك؛ ما سيتطلب عاجاًل مـ ًا؛ بما يعنيه كل ذلك من � قـ ًا للعالقات القانونية والتعاقدية عمو � والمســاءلة، وتعمي ضــرورة قبول المزيد من المؤسســية والحوكمة والتمثيل السياســي، والتي تتناقض كلها مع بنية ومنطق عمل واســتمرار النظام المحاســيبي المقيد؛ ليصطدم االستبداد المــأزوم مالًّيّا بمعادلته الصعبة: كيف يزيد موارده المالية (الضريبية باألســاس) مع كبح التمثيل السياسي؟! ما يفرض هذا التحدي هو محورية الضرائب على الدخل في األنظمة الضريبية والمالية العامة الحديثة، كأهم وأكبر مصاردها األكثر استدامًة وكفاءة وعدالة، لكنها في ذات الوقــت أكثر الضرائب إثــارًة للمقاومة والرفض، وأكثرها إثارًة للمطالب السياســية ا ؛ نظًرًا لمحدودية شفافية والديمقراطية، خصو ًصًا مع كونها أصعب الضرائب تحصياًل الدخــول بالمقارنة بالنوعين اآلخرين من أوعيــة الضرائب، أوعية الملكية (ضرائب العقــارات) وأوعيــة اإلنفاق (ضرائب المبيعات والقيمــة المضافة)؛ ما يجعلها أكثر .) 16 الضرائب تطلًبًا لحٍّد أدنى من القبول والتوافق بين المجتمع والدولة( وبشــكل عام، ال تلقى محاولة الدولة توسيع قاعدتها الضريبية، دون توسيع مشاركة المواطنين في صنع القرارات، ودون استخدام النظام الضريبي لتقليص عدم المساواة ا من المواطنين، بل ُيُنظر لها باعتبارها انتهاًكًا غير مشروع؛ االجتماعية والسياسية، قبواًل .) 17 يرفع احتماالت التمرد واالضطراب السياسي( وقد رصد ســليمان اعتماد نظام الرئيس األســبق، حســني مبارك، على العديد من )، قبــل اللجوء إلصالح نظام الضرائب 18 اآلليــات لمواجهة ذلك التحدي المالي( على الدخل، أبرزها ضريبة التضخم، واالســتدانة الخارجية ثم الداخلية، والضرائب علــى المبيعــات، كذا اآلليات العديدة التي تفاوتــت نجا ًحًا وتعثًرًا، كمحاولة فرض ضرائب على العاملين بالخارج أو فرض التوريد اإلجباري للعملة الصعبة، واللجوء للتبرعات والدور االجتماعي لرجال األعمال، ومحاولة تنظيم القطاع غير الرسمي. وكمــا نــرى، فمن بين هذه اآلليات التي غلب عليهــا التعثر، تكررت دعاوى حديثة ا، كتبرعات صندوق تحيا بممارسات مشابهة لها في عهد السيسي، وُنُِّفِذ بعضها فعاًل

| 20

مصــر، وقوانين الشــمول المالي، وكل المبادرات المتعلقــة بالعاملين بالخارج، بل وتعامل بعض الهيئات االقتصادية المحلية بالعملة الصعبة (الدوالر تحديًدًا) في بيع منتجاتها، وال ننسى الزيادات الكبيرة في الرسوم على الخدمات الحكومية المختلفة، بل واستحداث الكثير منها. مع ذلك، فمع حدة التأزم المالي، لجأ النظام السياســي بقدر من النجاح لمضاعفة اإليــرادات الضريبية -وإن كانت غير المباشــرة باألســاس- بالتوازي مع قمع حاد يونيو/حزيران، والشعبية الكبيرة 30 ا الوضع السياسي بعد للتمثيل السياســي؛ مستغا ًّل للســلطة الجديدة وقتها، وتحت غطاء االضطــرارات الم َّدَعاة لبرامج صندوق النقد الدولــي؛ فكان القمع المفرط هو الحل قصير األجل للمعادلة الصعبة، التي ازدادت صعوبًة مع متطلباته المحاسيبية المتزايدة. كان النظام الحاكم قد واجه بعد فترة االضطراب الناتجة عن ثورة يناير/كانون الثاني سـَة إلعادة ترسيخ أقدامه بإعادة بناء وهيكلة شبكاته المحاسيبية، � وتوابعها، حاجة ما خصو ًصًا مع عودة المكون العســكري لواجهة المشــهد السياســي بشــكل مباشــر فـ ًا للموقف مختلط الروافد أواخر عهــد مبارك؛ ما انعكس في زيادة � وصريــح، خال حصة المؤسسات البيروقراطية في النشاط االقتصادي، بأشكال تراوحت ما بين العلنية والسرية الصريحة، والرمادية الملتوية ما بين هذه وتلك. وهكذا دخل النظام السياسي في حلقة خبيثة، يتطلب فيها نجاح القمع تعزيًزًا للدوائر المحاســيبية، بينما يؤدي تعزيز الدوائر المحاســيبية، بكافة تكاليفها المباشــرة (من خلق وتوزيع متزايد للريوع) وغير المباشرة (من انتهاك للمجال االقتصادي وتراجع للكفاءة العامة ومنظومة الحوافز)، إلى مزيد من تدهور الموقف االقتصادي والمالي والمؤسسي؛ الذي يستلزم بدوره مزيًدًا من القمع لحفظ االستقرار السياسي، ومزيًدًا من الجباية لمواجهة التأزم المالي؛ ما يؤدي بمجموعه لمزيد من تدهور المشروعية السياسية والفاعلية التنموية للنظام، وتفاقًمًا لعزلته االجتماعية التي تدفع بدورها لمزيد ) ليعيد الدورة كلها، 19 من القمع، الذي يؤثر بحد ذاته سلًبًا على االقتصاد والموارد( وهكذا دواليك. دفع المجتمع ثمن ذلك النموذج السياسي مرتين، مرة بالتكلفة المباشرة لتعزيز القمع، ممثلًة في إعادة بناء المحاسيبية وتوسع الفساد وتضخم الجيوب الريعية، ومرة أخرى بالتكلفة غير المباشــرة الناتجة عن االنعكاسات السلبية للقمع والمحاسيبية والفساد

21 |

على كفاءة االقتصاد العامة، لكن في حدود موضوع الورقة، نركز على كيفية انعكاس ذلك النموذج في، وعبر، ما اتخذه من مناورات ملتوية لمعالجة العجز المالي على أهم محددات سعر صرف الجنيه المصري. كذلك كيف انعكس في، وعبر، ما اتخذه من مناورات مكلفة لمعالجة إشكالية المشروعية على اتجاهات األداء االقتصادي. الجباية غير الطوعية: المناورات الملتوية لتناقض التمويل والتمثيل اضطــرت الحكومــة متزايدة العجز المالي، والعاجزة في ذات الوقت عن اكتســاب القبول الشعبي لتقديم مزيد من اإليرادات العامة (مقابل تحملها تمثيل سياسي أكبر)، إلى التوسع في اآلليات سالفة الذكر، التي يتسم بعضها بقدر أكبر من عدم الطوعية، .) 20 خصو ًصًا االستدانة والتضخم( وبشكل ما، يمكن اعتبار االستدانة والتضخم وجهين لعملة واحدة، فبينما االستدانة حصول على موارد من اآلخرين في الحاضر وســدادها لهم مع تكلفتها الزمنية في المســتقبل، فالتضخم هو اســتدانة من المســتقبل، أو بصيغة أكثر تحديًدًا، هو نتاج ّاًلا تكلفة ومظهــر الســتدانة فــي الماضي من حاضر أو من مســتقبل قد حــ َّلَ، ممِّث موارد اســُتُهلكت مســبًقًا قبل إنتاج مقابلها الفعلي محلًّيّا؛ بما ينعكس في انخفاض القوة الشــرائية الحالية للعملة الوطنية؛ كخصم حقيقي لهذه التكلفة في صورة نقدية (بالخفــض من قيمة النقد الوطنــي) ال مالية (أي كمدفوعات مالية من مدين محدد .) 21 إلى دائن محدد)، حتى إنها توصف بأنها ضريبة على النقد نفسه( ولعل هذه السمة األخيرة هي سبب وصف التضخم كضريبة عشوائية؛ كونها تصيب الجميــع دون تمييز؛ فنظرًّيّا تح ِّمِلهم أعباء االســتدانة بالتســاوي، فيما عملًّيّا تح ِّمِل الفقــراء حص ًصًا أكبر غالًبًا؛ كون التضخم يصيب الســلع األساســية واألجرية عادًة بنسب أكبر من نظيرتها الكمالية، ولتأثيرها النسبي األعلى على دخولهم المنخفضة، )؛ لكونها شائعة اجتماعًّيّا؛ 22 لكنها تظل محبذة للحكومات عموًمًا، كما يرى سليمان( ا عن كونها خفية ضريبًّيّا؛ بالنظر لعدم فرضها بشكل فتصعب مقاومتها سياسًّيًا، فضاًل قانوني صريح، كما يمكن التملص الحكومي منها بإلقاء اللوم على آخرين كجشــع التجار والتضخم المســتورد واألزمات الدولية وما شــابه (وكلها دعاوى ثابتة لدى الحكومات المصرية المتعاقبة)؛ ما تكون نتيجته بالمجمل انخفاض تكلفتها السياسية نسبًّيّا في األجل القصير.

| 22

وعلى المســتوى المالي، يخفض التضخــم العبء الحقيقي اللتزامات الحكومة من ال َّدَْيْن العام المحلي؛ فيحسن مؤشراتها المالية جزئًّيًا، بما يسِّهِل لها االستمرار بمزيد من االقتراض المحلي، خصو ًصًا من الفئات العاجزة عن التحوط بأدوات استثمارية بديلة لشهادات العوائد البنكية (وأغلبها من أصحاب المعاشات والمحتاجين لدخول دورية ثابتة من مدخراتهم القليلة). وقد شــ َّجَع هذا الحكومَة المصرية على اإلفراط في اســتخدام ضريبة التضخم منذ أواســط الثمانينــات، حتى وصفها تقريــر للبنك الدولي بأنها مــن أكثر دول العالم % من الناتج المحلي اإلجمالي 11 اعتماًدًا على ضريبة التضخم، مقدًرًا بلوغها حوالي % من الناتــج إلجمالي اإليرادات الضريبية التقليدية في نفس 17 ، مقابل 1987 عــام % من الناتــج اإلجمالي طوال الفترة 4 )، بل وتجاوز متوســطها الســنوي 23 العــام( .) 24 (% 18 ، بلغ خاللها المتوسط السنوي للتضخم حوالي 1991 - 1975 وقد استمرت الحكومة بالتوسع في اإلصدار النقدي المفرط طوال العقدين األخيرين بمعدالت متسارعة، يتجلى هذا التسارع بالمقارنة بين شطري الفترة منذ بداية األلفية؛ بمــا يعكس تفاقم األزمة المالية وزيادة اعتماد الحكومة على ضريبة التضخم، فكما من العملة الوطنية بكافة فئاتها، M0 ) بتاليه، نمى المعروض النقدي 1 يظهر بالشكل ( مليار جنيه في فبراير/شــباط 276 إلى 2001 مليار جنيه في فبراير/شــباط 70 . 4 من % خالل االثني عشــر عاًمًا األولى من الفترة، فيما نمت إلى 292 ، بنســبة نمو 2013 % خالل االثني عشر عاًمًا 519 ، بنســبة نمو 2024 مليارات في فبراير/شــباط 1709 الثانية من الفترة. )25(2024-2001 خالل الفترة M0 ): المعروض النقدي 1 شكل (

23 |

ولم يختلف السلوك بالطبع على نطاقات القاعدة النقدية المختلفة، فقد نمت القاعدة 2528 إلى 1996 مليار جنيه في مارس/آذار 33 . 6 مــن M1 النقديــة بمعناها الضيق مرة خالل ما يقرب من 74 ، متضاعفًة بأكثر من 2024 مليار جنيه في فبراير/شــباط )، بما يعكس ِقِدم وثبات هذه الممارســة لدى المركزي المصري 26 م ـ ًا( � ثالثيــن عا الخاضــع كلًّيّا لمتطلبات الحكومة المالية، بل وتصاعد االســتخدام النظامي لضريبة التضخم كآلية تمويل ثابتة لدى الحكومة المصرية. ، مع التركيز على مدى زمني أقرب، M2 وباالنتقال إلى القاعدة النقدية بمعناها الواسع تريليونات 9 . 12 إلى 2016 تريليون جنيه في فبراير/شباط 1 . 92 فقد نمت من حوالي % خالل تســع سنوات، كما 375 ، بمعدل نمو إجمالي 2024 جنيه في فبراير/شــباط ) التالي. 2 يظهر بالشكل ( )27(2024-1996 خالل الفترة M2 ): القاعدة النقدية بمعناها الواسع 2 شكل (

وُيُظهر الشكل مرة أخرى، تكرار وتعمق ذات النمط على مستوى العقد األخير وحده، 2016 من تسارع نمو السيولة النقدية مع الزمن، كما يظهر بتسارع نموها منذ تعويم بالمقارنة بنموها بالفترة السابقة عليه؛ بما يعكس تزاوج التأزم في الموقف المالي مع انعكاسات التدهور في سعر صرف الجنيه، فبلغ متوسط معدل نمو السيولة المحلية % سنوًّيّا خالل الفترة 15 . 8 ، مقارنًة بمتوسط 2023 - 2017 % سنوًّيّا خالل الفترة 21 . 9 .) 28 % بين الفترتين( 38 . 6 ، بزيادة بنسبة 2016 - 2010

| 24

من جهة أخرى، فاالســتدانة والتضخم مرتبطان، فاالســتدانة الداخلية عادًة ما تسدد ا مكلًفًا بما يـ ّا على األقل- بطباعة نقد جديد، كما تمثــل بذاتها تموياًل � قـ ًا -جزئ � الح تتضمنــه من خدمة للديون، فيما االســتدانة الخارجيــة يجري تعقيم واردها من نقد أجنبي يدخل الجهاز المصري بطباعة نقد وطني مقابله للتداول في االقتصاد المحلي؛ ما يســهم بمجموعه، حــال لم توظف الموارد في اســتخدامات إنتاجية -فورية إن أمكن- تزيد المعروض المحلي من الســلع والخدمات، في خلق مزيد من التضخم في االقتصاد. وعلــى هذا الصعيــد، فقد أفرطت الحكومة المصرية باالســتدانة، داخلًّيًا وخارجًّيًا، طــوال عــدة عقود الماضية، مع تراوح في درجة االعتمــاد بينهما. من جانبه، أدرك نظام مبارك مخاطر اإلفراط باالستدانة الخارجية بتجربته طوال الثمانينات التي كادت مصــر تفلس بنهايتهــا، لوال اإلنقاذ بإلغاء نصف الديون وجدولة نصفها اآلخر كثمن ، واستدار لالعتماد على االستدانة الداخلية 1990 لمشاركتها في حرب الخليج الثانية باألساس طوال العقدين الباقيين من عهده. ومن ناحيته، نسخ نظام السيسي في عقده المنصرم عقد الثمانينات المباركي باإلفراط في االستدانة الخارجية، مستهلًكًا أغلب القروض في بنية تحتية ومشاريع قومية بعضها مشكوك في جدواه وبعضه بعيد العوائد بأفضل األحوال، أي لم ينعكس بشكل مباشر في نمو اإلنتاج أو االستثمار المحلي، مما سنتناوله في موضعه. لهــذا نمــا الدين العام المحلي دون توقف؛ مع تراكم العجز المالي المزمن، ومع ما يرتبه االنخفاض المســتمر للجنيه من تضخم لكافة عناصر اإلنفاق العام بالموازنة، وعلى رأســها خدمة الدين العام الخارجي (وبالتالي نموها باألرقام المطلقة حتى لو انخفض بعضها بالنســبة للناتج المحلي اإلجمالي) من جهة، ومن انخفاض للعبء الحقيقي لل َّدَْيْن المحلي على الحكومة (ومن ثم قدرتها على االســتمرار باالســتدانة دون تدهور كبير بالمؤشــرات المالية) من جهة أخرى. وهكذا يســتمر الدين العام المحلي بالنمو بالتغذية الذاتية للمديونية نفســها في ظل العجز المالي المزمن، وفي سياق عالقتها بما تنتجه من تضخم وضغط ائتماني يفرضان رفع أسعار الفائدة؛ فيزيد ، االتجاه العام 2020 ) التالي الذي ينتهي بعام 3 أعباء خدمة الدين، وُيُظهر الشــكل ( للَّدَْيْن العام المحلي طوال العقدين األخيرين.

25 |

)29(2020-1998 ): ال َّدَْيْن العام المحلي لمصر خالل الفترة 3 شكل (

تريليونات جنيه في يونيو/حزيران 5 . 4 وقد اســتمر الدين العام المحلي بالنمو إلى )، مؤكًدًا االتجاه 31 ( 2023 تريليونات جنيه في الربع األول من 6 . 86 )، ثم 30 ( 2022 التصاعدي باألرقام المطلقة، وإن كان اتجاهه بالقيم النسبية، قد أبدى تذبذًبًا واض ًحًا، 2018 / 2017 % عام 72 . 8 بما شمل تراجًعًا في نسبته إلى الناتج المحلي اإلجمالي من ، 2022 / 2021 % منه عام 68 . 1 ، ليعاود االرتفاع إلى 2020 / 2019 % منه عام 63 . 4 إلى % سنوًّيّا، بعد الهبوط االستثنائي 15 مســتعيًدًا نسب نموه المعتادة الحًقًا حول معدل .) 32 % فقط من الناتج اإلجمالي في عام الكورونا( 3 إلى معدل أما الَّدَْيْن العام الخارجي، فقد عاد للنمو بعد حالة شبه االستقرار التي استمر عليها ، لينمو من حوالي 2015 لعقدين ونصف تقريًبًا، منذ أوائل التسعينات إلى أوائل عام ،) 33 ( 2023 مليار دوالر بنهاية 168 إلى 2015 مليــار دوالر فــي الربع األول من 40 % خالل ما يقرب من تسعة 320 ) التالي، بنمو إجمالي بنســبة 4 كما يظهر بالشــكل ( .% 35 . 5 أعوام فقط، أو بمتوسط نمو سنوي

| 26

)34(2023-1998 ): ال َّدَْيْن العام الخارجي لمصر خالل الفترة 4 شكل (

انعكــس هذا في تضاعف نســبة الدين الخارجي إلــى الناتج المحلي اإلجمالي عبر 2016 % فقط مــن الناتج اإلجمالي أوائل عام 15 مجمــل العقد األخير، مرتفًعًا من % منه تقريًبًا 33 ا إلى متوســط ، ليتراجع قلياًل 2018 % منه بحلول عام 37 إلى حوالي ) 5 ، حســب البيانات الرســمية المتاحة، وكما يظهر بالشكل ( 2022 حتى أوائل عام التالــي، والتــي لم تترجم بعــد االنخفاضات الكبيرة في الناتــج المحلي اإلجمالي 47 جنيًهًا إلى 16 بالــدوالر، الناتجــة عن انخفاض الجنيه مقابل الدوالر من حوالي جنيًهًا للدوالر عبر ثالثة تعويمات كبيرة خالل العامين األخيرين؛ بما يعنيه ذلك من ارتفاعات لنسبة الدين الخارجي إلى الناتج اإلجمالي. ): نسبة ال َّدَْيْن الخارجي إلى الناتج المحلي اإلجمالي خالل الفترة 5 شكل ( )35(2022-2000

27 |

والبد من اإلشــارة هنا إلى مالحظة أولية (ذات داللة على طبيعة النمو بالمديونية) بخصوص ســلوك النسبة ما بين الدين الخارجي والناتج المحلي اإلجمالي، أظهرت تســارًعًا كبيــًرًا في العقد األخير خصو ًصًا، هي وجود نوع مــن الدورية في العالقة بينهما ارتفاًعًا وانخفا ًضًا؛ حيث يؤدي توظيف القروض في االقتصاد لنمو فوري في الناتج اإلجمالي، فيما يؤدي سدادها الحًقًا مع حلول آجال استحقاق أقساط أغلبها إلــى اقتطــاع أغلب ذلك النمو، في صورة تدفقات للخارج، تنعكس غالًبًا في صورة أزمات دوالرية باحتياطيات النقد األجنبي؛ تنتج ســوًقًا سوداء وفجوة بين السعرين، السوقي والرسمي، للدوالر، ما ُيُعاَلَج عادًة باقتراض جديد، وبرامج جديدة غالًبًا مع صندوق النقد الدولي، وتخفيضات رسمية جديدة لسعر صرف الجنيه. وقد أسهم هذا اإلفراط في االقتراض الخارجي؛ بما ضخه في االقتصاد من تدفقات ضخمة من النقد األجنبي، في زيادة المعروض من النقد المحلي، عبر قنوات الطباعة ا عن دور ذلك االقتراض الخارجي وغيرها؛ بما يمثل من رافد مباشر للتضخم، فضاًل األساســي في التدهــور الكبير الحًقًا فــي الموقف التمويلــي واالئتماني لالقتصاد المصري، وضغطه على ســعر صرف الجنيه، في سياق سوء التوظيفات االستثمارية، وما طرأ عالمًّيّا وإقليمًّيّا من أزمات اقتصادية واضطرابات سياســية، إلى آخر القصة المعروفة التي ما زلنا لم نخرج من تبعاتها بعد. وكانت النتيجة المنطقية لهذا التوليف من السياسات المالية والنقدية، وتضخم ال َّدَْيْن العام بشقيه، أن تضخمت مدفوعات الفوائد بالموازنة العامة، حتى بلغت في المتوسط ثلــث المصروفات العامة، وما يقرب مــن نصف اإليرادات العامة، وثلثي اإليرادات الضريبية، وبالعموم، أصبحت أكبر بنود الموازنة العامة وأســرعها نمًّوًا خالل العقد ) التالية. 8 ) و( 7 ) و( 6 األخير، كما يظهر باألشكال (

| 28

): نسبة مدفوعات الفوائد من المصروفات العامة في موازنات الفترة 6 شكل ( )36(2023-2014

): نسبة مدفوعات الفوائد إلى اإليرادات العامة واإليرادات الضريبية في موازنات 7 شكل ( )37(2023-2014 الفترة

29 |

)38(2022-2010 ): ملخص فعليات الموازنة العامة المصرية خالل الفترة 8 شكل (

هذا النمو الَخَِطِر في مدفوعات الفوائد ال يعكس مجرد فشل تقني للسياسة المالية، بــل يعِّبِر كذلك عن االختيارات األســهل للحكومة فــي مواجهة عجزها المالي وما وراءه من إشــكاالت وانحيازات اجتماعية وسياســية معقدة؛ فيبدو أن شــراء الوقت ا، أضمن سياســًّيًا مــن محاولة الوصول وترحيل األزمات، ولو بتضخيمها مســتقباًل لمصارحة شــفافة وتســوية عادلة مع المجتمع على صياغة جديــدة إلدارة إيرادات ومصروفات الموازنة العامة والرقابة عليها، كذا يبدو أسهل تقنًّيّا وإدارًّيّا من مواجهة ضعف الكفاءة البيروقراطية وجيوب الفســاد والمحاسيبية المتربحة من المال العام، خصو ًصًا تلك الجيوب التي تنمو على تخوم االستثمارات العامة، وتكتسب وجودها الخاص كشــبكات مصالح مستقلة، تدفع الســتمرار أنماط إنفاق واستثمار محدودة الجدوى العامة؛ بما يفسر جزًءًا من المشروعات قليلة األولوية في السياق المصري الحالي، ناهيك عن التي ثبتت محدودية فائدتها في أفضل األحوال، وال نقول ضررها .) 39 حسب بعض اآلراء، كمشروع تبطين الترع والقنوات المائية( فهذا النمو غير الرشيد في اإلنفاق واالستثمار العام هو ما يفسر استمرار العجز المالي، رغــم تقليص مدفوعات الدعم واألجور والتعليم والصحة بالقيم الحقيقية، بالتوازي مع زيادة اإليرادات العامة بضرائب جديدة كالقيمة المضافة وغيرها ومضاعفة الرسوم ) التالي؛ حيث استمرت النفقات 9 الحكومية عدة مرات وخالفه، كما يظهر بالشكل ( العامة بتجاوز اإليرادات العامة، ليس فقط كقيم مطلقة، بل وكقيم نسبية ووتيرة نمو، ) بتاليه. 10 كما يظهر بالشكل (

| 30

)40(2021-2006 ): اإليرادات الضريبية ومصروفات الدعم خالل الفترة 9 شكل (

)41(2021-2006 ): اإليرادات العامة والنفقات العامة خالل الفترة 10 شكل (

وخطورة كل ما ســبق من تجاوز مالي لقدرات االقتصاد، يؤثر ســلًبًا على االدخار الطوعي واالســتثمار اإلنتاجــي، والمتضمن خصو ًصًا لقدر معتبــر من الجباية غير الطوعية، هو أنه بخلقِه لحلقة خبيثة من المديونية والتضخم وارتفاع تكلفة االئتمان، يؤدي لحالة من الركود التضخمي على مســتوى كامل االقتصاد تعمق المشــكالت اإلنتاجية والمالية والنقدية، وتقتل ما تبقى من فاعلية للسياسات االقتصادية التقليدية، المتعلقة في معظمها بإدارة الطلب، من سياسات مالية ونقدية محدودة الفاعلية أسا ًسًا في سياق االقتصاد المصري ألسباب هيكلية؛ ما يؤدي بمجموعه إلى حكومة تزداد عجًزًا؛ فقمًعًا وجباية، وإلى ثقًة تزداد انهياًرًا؛ فهروًبًا ومضاربة!

31 |

): المناورات المكلفة لتناقض التمثيل 42 بوندوجالت الجمهورية الجديدة( والمشروعية ، في سلســلة من 2013 يونيو/حزيران 30 لزيــادة األمــر تعقيًدًا، دخلت الدولة، بعد المشروعات القومية الكبرى، كان كثير منها إما محدود الجدوى االقتصادية أو سيء التنفيذ في أحسن األحوال، مما يدخل فيما ُيُعرف عموًمًا باألفيال البيضاء، وإن كان بعضها أسوأ بمحورية الدوافع السياسية فيه. وكان فاتحة هذه المشروعات مشروع تفريعة قناة السويس التي افُتُتحت في أغسطس/ ، والذي جرى تنفيذه باستعجال غير ضروري رفع تكاليفه، ودون دراسات 2015 آب جدوى حقيقية كانت سُتُظهر أن القناة تعمل بأقل من ثلثي طاقتها بالفعل، وأن العالم ، وهو ما تجلى 2008 يعانــي تراجًعًا في التجارة الدولية منــذ األزمة المالية العالمية في عدم انعكاســها بأي زيادة معنوية في إيرادات القناة، ليصرح الرئيس السيســي، ، بأن الهدف األساســي من المشــروع، الذي تكلف حوالي 2016 في يونيو/حزيران ستين مليار جنيه، أو ما يعادل ثمانية مليارات دوالر بأسعار وقتها، كان رفع معنويات الشعب المصري، وليس المنافع االقتصادية. أما أبرز تلك المشروعات ودرة تاجها فهو بال شك العاصمة اإلدارية الجديدة، التي 25 تتجه بعض اآلراء لكونها مشــروًعًا سياســًّيًا أسا ًسًا لضمان عدم تكرار خبرة ثورة يناير/كانون الثاني؛ بإبعاد كافة أجهزة الدولة الحيوية عن مراكز الكتل الحضرية التي يمكن أن تقود احتجاجات أو تشــعل ثورات، يمكن أن تشــل الدولة وتجبرها على .) 43 أي تفاوض أو تنازل( وبعيًدًا عن هذه االفتراضات المثيرة للجدل التي يصعب إثباتها بشكل قطعي، فالمؤكد بشــكل ال يحتمل الجدل أن العاصمة اإلداريــة الجديدة تمثل بوندوجل الجمهورية الجديدة األكبر، من جهة كونها ذروة األســطورة المكلفة المتمثلة في تقاطع هدف التوســع العمراني مع هدف جذب االســتثمار األجنبي المباشر، وهي ذروة أسطورة مكلفة ألنها مجرد تكرار عمالق لما كانت مصر تفعله عبر عقود، كإستراتيجية تنمية قائمة بشكل شبه حصري على تطوير البنية التحتية، لكن على مستوى أضخم بكثير، وبافتراض غريب بأن تكرار ما لم ينجح سابًقًا على نطاق أكبر حالًّيّا قد يغير النتائج.

| 32

فلمصر تجارب عديدة فاشــلة في التوســع العمراني طوال ما يقرب من نصف قرن، والذي فشل كامتداد لركود تحضرها (المرتبط بركود تصنيعها)، منذ تراجع عن ذروته % من الســكان ما بين سبعينات وثمانينات القرن الماضي، مستق ًّرًا عند 44 عند نســبة % منذ أوائل التســعينات حتى اليوم (منخف ًضًا عن المتوسط العالمي البالغ 43 نســبة .) 44 ()% 57 حال ًّيّا وهكــذا ظلت أغلــب المدن الجديدة التي بنتها الحكومــات المصرية المتتابعة منذ أواسط السبعينات خاوية أو شبه خاوية؛ نتيجة لغياب فرص العمل والحياة المستقرة % فقط وفًقًا ألحد 27 و 3 بها، لتتراوح نســب نجاحها في تحقيق مســتهدفاتها ما بين %. وفي تقدير آخر، نجد حتى أقدم 10 )، وبمتوسط عام لم يصل إلى 45 التقديرات( وأنجح المدن الجديدة التي جاوز عمرها الربع قرن، مثل مدن العاشــر من رمضان % 31 . 9 أكتوبر والعبور والسادات، لم يتجاوز أفضلها، أول ثالثة مدن، 6 مايو و 15 و .) 46 % من مستهدفاتها( 1 % على التوالي، فيما لم تحقق األخيرتان حتى 14 . 2 % و 44 و ؛) 47 يعطينــا هــذا فكرة أولية عن مــدى احتمال نجاح العاصمة اإلداريــة الجديدة( األمر الذي يزداد ســوًءًا مع تكلفتها الهائلة بالنســبة لوضع مصر المالي، فقد وصلت مليار 45 )، ارتفاًعًا من 48 مليار دوالر( 60 و 58 التقديرات الرســمية لتكلفتها ما بين )، بفارق تقدير هائل يصل إلى 49 دوالر كتقديــر أول وقت اإلعالن عن المشــروع( %، يكشف بحد ذاته عن مدى سوء التخطيط والتقدير، وربما ما هو أسوأ 30 متوسط من جهة الخطر المعنوي وسوء التنفيذ. والواقع أنه يصعب بالفعل تفسير مثل هذه المشاريع بالمنطق االقتصادي ال ِّصّرف، رغم ،) 50 أنها جزء من إســتراتيجية تنموية محددة ترتكز أسا ًسًا على تطوير البنية التحتية( وهى اإلستراتيجية التي تتوافق حصًرًا مع برامج المنظمات االقتصادية الدولية وعلى رأسها صندوق النقد، لكنها تناسب كذلك طبيعة النظام السياسي من جهتين. أوالهما: كجزء من إســتراتيجية تنمية اســتعراضية تقوم على المشــروعات القومية العمالقة، التي تصلح لخطاب اإلنجازات مفرط االستخدام في بروباغندا الجمهورية الجديدة، وهى إستراتيجية سياسية كالسيكية تجد صورتها الواعية األولى في التاريخ الحديــث عند النازيين قبــل الحرب العالمية الثانية، بتوظيف المشــروعات القومية )، والتي اعتبرها 51 كسياسة دعائية ورأسمال سياسي أكثر منها نجا ًحًا اقتصادًّيّا حقيقًّيّا(

33 |

البعض إحدى الروافع األساسية لتعاظم شعبية هتلر وتعزيز استقرار نظامه، كذا أحد التطبيقات األولية المبكرة للسياسات الكينزية في مواجهة الركود؛ بما يخلق معدالت نمو سريعة (تفسر االرتفاعات الهائلة بالناتج المحلي اإلجمالي في األعوام الالحقة)، وإن كانت غير مســتدامة غالًبًا (كما حدث فعلًّيّا بضغط أعباء المديونية وأثرها على 2017 سعر الصرف وما أنتجه من انكماش فوري في الناتج اإلجمالي بالدوالر عامي .) 2023 و ثانيتهما: بما تخلقه من مشروعات فرعية تصلح لتوزيع المنافع وتحويل الموارد العامة إلى شبكات محاسيب النظام السياسي؛ ومن ثم تعزيز دوائره االقتصادية واالجتماعية، بما يشمله ذلك من خفض التوترات الداخلية بين هذه الدوائر وترسيخ والئها للنظام؛ ومن ثم ضمان صالبته السياســية واألمنية في مواجهة خصومه السياســيين والدوائر االجتماعية األوسع المتضررة منه، في األجلين، القصير والمتوسط، على األقل. ، " تنموسياســية " ال تتوقف المشــكلة عند هذا الحد، بل تؤدي هذه اإلســتراتيجية الـ إن جــاز التعبيــر، بمــا يرتبط بها من نمط إنفاق عام، إلــى نمو لوبيات متداخلة من البيروقراطيــة ورأس المــال الخاص، متمركزة في القطاعات ذات الصلة كالتشــييد )، تستفيد من توجيه اإلنفاق العام لهذه الوجهة، وتضغط الستمراره 52 والعقار...إلخ( ونموه إن أمكن؛ ومن ثم بروز ميل لتضخم إجمالي التخصيصات اإلنفاقية الموجهة لهذا النوع من المشروعات بالعموم، بعيًدًا عن حسابات الكفاءة الداخلية والخارجية، أي بغــض النظــر عن مدى جدواهــا االقتصادية أو أولويتهــا االجتماعية؛ ما يعني انطالق تخصيصات جانب من اإلنفاق العام من مصالح بيروقراطية وليس المصلحة االجتماعيــة العامــة، وبالطبع يصبح الجزء غير الضروري منه إهداًرًا صافًيًا للموارد، ا لها من العام إلى الخاص، كما يتضمن بالطبع قدًرًا من الفساد. وتحويا ًل ومــا يؤكد تعارض هذا النمط التنموي المتمحــور حول البنية التحتية مع الحاجات الحقيقيــة لتطور االقتصاد المصري حالًّيّا، هــو تعميقه لالنحياز العقاري الكامن في ذلك االقتصاد، الذي يعاني بالفعل ورًمًا عقارًّيًا حقيقًّيّا (يأتي على حســاب ما عداه )) بعد أكثر من عقدين من اتباع هذا النمط، 53 مــن قطاعات أكثر جــدوى وإنتاجية( الذي أســهم في النمو االنفجاري لقطاعي التشــييد والبناء واألنشطة العقارية بنسب .) 54 ( 2017 - 2010 % على التوالي خالل الفترة 952 % و 225

| 34

يعني ذلك تعارض ما يفترض كونه نموذ ًجًا تنموًّيًا مع الحاجات التنموية األكثر إلحا ًحًا لمصر، بل ومع خطاب الحكومة المتكرر نفسه عن توطين الصناعة وتشجيع اإلنتاج، فيما تدمن الحكومة فعلًّيّا أنشــطة الريع وتعمل تاجًرًا وسمســار أراض؛ انطالًقًا من األزمة المالية الخانقة من جهة، وضغوط لوبيات المحاسيب التي أصبحت بيروقراطية القيادة مؤخًرًا من جهة أخرى. وهكذا، فمشــكلة السياســة التنموية المصرية ليست فكرية تتعلق بالخلل في مفهوم اإلنجاز، وال حتى في ضعف الوعي بأهمية دراســات الجدوى، التي ليســت سوى مجرد أعراض للمشكلة، وباألحرى تعمية متعمدة عليها، بل تكمن أساًسًا في طريقة استجابة الطبيعة االستبدادية المحاسيبية للنظام الحاكم في مواجهة ما تسهم في مفاقمته من ركود هيكلي القتصاد شبه صناعي تابع عاجز عن خلق نمو ذاتي مستدام؛ والتي يدفعها -بطبيعتها الطاردة لالســتثمار ذاتها- إلدمان الريع بأنشــطته وقطاعاته كنمط تراكم خاص وتمويل عام من جهة، ولتضخيم اإلنفاق العام باســتمرار لتوليد الريع والحفاظ على دوائر الوالء وترضيات االستقرار السياسي واألمني من جهة أخرى. ال عجب في تزامن تضخم الموازنة العامة، رغم التأزم المالي الشــديد، مع تراجع وحدة " المؤسســية الحكومية وضعف الرقابة على المال العــام، كتراجع عمل مبدأ ، قدس أقداس المالية العامة الحديثة، بتكاثر أعداد ونمو أحجام الصناديق " الموازنــة ) التي تتبادل بعض أموالها -في أحســن األحوال- مع الموازنة العامة 55 الخاصــة( )، والتي تجاوزت بمجموعها حجم الموازنة العامة 57 ) دون تفصيل( 56 كإجماليات( )، وكإضعاف شــفافية ونزاهــة أنظمة المناقصات والمزايدات بالســماح 58 نفســها( ) بعيًدًا عن اآلليات المؤسســية 59 بتخصيص المشــروعات العامة باألمر المباشــر( ا عن مجمل المناخ الداعم لتفشي الفساد من قمع لحرية الصحافة )، فضاًل 60 التقليدية( ومنــع لعلنية المحاكمات وأغلب جلســات البرلمان وغيرهــا، مع اإلجراءات بالغة الداللة من عفو صحي عن بعض كبار القتلة والفاسدين، مقابل حبس رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات -أكبر جهاز رقابي في البلد- المستشار هشام جنينة، بتهمة نشر أخبار كاذبة وإعفائه من منصبه الحًقًا؛ لمجرد نشره تقريًرًا عن حجم الفساد في مصر! تزامن ذلك وتماشــى مع ما لخصه مشــروع العدالة العالمية التابع للبنك الدولي عن ، من نجاح أصحاب النفوذ في مصر على مدى سنوات 2014 الوضع منذ أواخر عام

35 |

فــي بناء شــبكات من أصحــاب المصالح في القطاع الحكومــي والقضاء والجيش والشــرطة وبعض من القطاع الخاص المســتفيد من العقود العامة، وقد اســتفادوا ومعارفهم من ممارســات الســعي للريع، ولم تسمح البيئة المؤسسية التي نموا فيها ســوى بقليل من الشــفافية والوصول للمعلومات، إن لم ينعدم ذلك تماًمًا؛ فسادت .) 61 التقديرات الفردية حتى فيما يتعلق بالقرارات البيروقراطية الصغيرة( وكأثر تخصيصي آخر، وبدفع من الحصص السوقية واالستثمارية المضمونة في سياق المحاســيبية والهيمنة االستئثارية المغلقة على القرار العام، ترافق هذا الميل للتوسع في االستثمار العام، وتضخم الموازنة العامة، مع نمو الحصة الحكومية من االئتمان % 65 . 12 المصرفــي، فقد نما االئتمــان الممنوح للحكومة والقطاع العام من حوالي ، بينما 2023 % منه عام 67 . 78 إلى 2017 من إجمالي االئتمان بالعملة المحلية عام % منه خالل 20 . 82 % إلى 23 تراجــع االئتمــان الممنوح لقطاع األعمال الخاص من نفــس الفترة، فيما يظهــر تحول دفة االئتمان بوضوح أكبر بكثير على جبهة االئتمان % 66 . 5 بالعمالت األجنبية؛ حيث نما االئتمان الممنوح للحكومة والقطاع العام من ، مقابل تراجع االئتمان الممنوح بالعمالت 2023 % منه عام 79 . 4 إلى 2017 منه عام ؛) 62 % فقط منه خالل نفس الفترة( 17 . 8 % إلى 29 . 8 األجنبيــة للقطــاع الخاص من لينمــو إجمالي االئتمان الممنــوح للحكومة والقطاع العام بشــقيه، بالعملة الوطنية ، 2023 % منه عام 70 . 7 إلى 2017 % من إجماليه عام 65 . 6 والعمالت األخرى، من % منه 20 % من إجمالي االئتمان إلى 25 . 3 مقابــل تراجــع نظيره للقطاع الخاص من خالل الفترة نفسها. وقــد فاقمت هذه االتجاهــات المالية واالئتمانية التي تقودها الحكومة، متضافرًة مع تدهور السياق االقتصادي والمؤسسي األوسع، من اتجاهات تراجع االدخار الطوعي % من 15 واالستثمار اإلنتاجي، فانخفضت االستثمارات الخاصة من متوسطها حوال % 7 ، ثم 2011 % في 10 ، إلى 2008 - 1989 الناتــج المحلي اإلجمالي طوال الفتــرة ، كما يبين الشــكل 2021 % فقط من الناتج اإلجمالي عام 2 ، لتصــل إلى 2014 فــي ) التالي؛ ما يعكس ما سلفت اإلشارة إليه من وهمية معدالت نمو الناتج القائمة 11 ( على تدفقات الديون من جهة، ومن تزايد اتجاهات االكتناز والمضاربة والخروج من ا عن آثار تراجع الدخول الحقيقية مع صدمات اإلفقار السوق من جهة أخرى، فضاًل المتتابعة بالتعويمات المتتالية والضرائب والرسوم المتزايدة باستمرار.

| 36

): إجماليات االدخار واالستثمار الكلي واالستثمار الخاص 11 شكل ( )63(2021-2006 كنسب من الناتج المحلي اإلجمالي خالل الفترة

لكن المفارقة األكبر ليست في نمو حصة كل من الحكومة والقطاع العام من االئتمان بما تجاوز حصة القطاع الخاص بحد ذاتها، بل في أنها قد تجاوزت حتى حصتهما عندمــا كانت مصر ال تزال تتبنــى علنًّيّا نهج التدخل االقتصادي وقيادة القطاع العام للتنمية، وتعمل بالقطاعات اإلنتاجية السلعية والصناعة التحويلية (األمر الذي استمر ) التالي، مــا يبدو تناق ًضًا 12 يـ ّا حتــى أواخر الثمانينات)، كما يظهر بالشــكل ( � عمل غيــر مفهــوم ألول وهلة، ليس فقــط من زاوية التناقض بين الخطاب والممارســة، بل باألســاس، من زاوية مدى منطقية اســتهالك أغلب األرصدة االئتمانية للبلد في مشروعات بنية تحتية، على حساب ما يفترض أن تستهدفه تلك البنية التحتية نفسها من تشجيع وتيسير للمشروعات اإلنتاجية!

37 |

): نسبة االئتمان الموجه للحكومة والقطاع العام 12 شكل ( )64 م( 2019-1980 إلى الناتج المحلي اإلجمالي خالل الفترة

عل ًمًا بأن حتى هذه األرقام ال تدل بالكامل على حقيقة حصة القطاع الخاص الحقيقي، المتحرر تماًمًا من أي روابط أو ملكية بيروقراطية، والذي ينكمش بمجموعه منذ أكثر )؛ كون جزء معتبر ال توجد شفافية كافية بشأنه مما يحسب قانوًنًا 65 من ثالثة أعوام( ألجهزة بيروقراطية، تحظى -على " شركات واجهة " ضمن القطاع الخاص ما هو إال األقل- بأغلب االمتيازات والتســهيالت التي تمتلكها هذه األجهزة في بلد محدود المؤسسية والحوكمة، والتي كان بعضها يتسم بالقانونية الصريحة حتى وقت قريب، .) 66 ولم يتم التخلي عنه رسمًّيّا سوى تحت ضغط االتفاقات مع صندوق النقد( ومشــكلة هــذا التحول في حصص االئتمان لصالــح الحكومة والقطاع العام، أنه ال يو ِّجِه -كما أشــرنا ســلًفًا- ألفضل االستخدامات بالمعايير االقتصادية، بل في غالبه إلنفاق اســتثماري، ناهيك عن مشكالت االســتهالكي ال ِّصّرف منه وما يتضمنه من فاتورة إهدار وفساد مرتفعة، يذهب معظمها إلى مشروعات بنية تحتية مثيرة للجدل عموًمًا، وتثير إشكاالت تخصيصية من زاوية تحفيزها الضار للقطاع العقاري المنتفخ ا عن كونه يخلق معدالت فعلًّيّا -والضار بنمو االقتصاد بمجموعه- خصو ًصًا، فضاًل نمو ســريعة، لكنها زائفة في معظمها وتتبخر الحًقًا؛ كونها أرصدة لم توجه ألفضل )، فيما هى محملة بمكونات مديونية عامة داخلية 67 اســتثمار اقتصادي واجتماعي( وخارجية مرتفعة، لم نناقش هنا مدى استدامتها بالمعايير المالية واالقتصادية التقنية؛

| 38

لخروجهــا عــن نطاق الورقة، ولكونها تدخل في بــاب النافل مع األزمات المتتالية الناتجة عنها مؤخًرًا. وبالطبــع، فهذا اإلفراط في اســتخدام آليــات االقتراض واالســتدانة، متزاوًجًا مع طباعــة النقد وضريبة التضخــم، كحل ملتو لتناقض التمويل والتمثيل؛ لتمويل الحل التنموسياســي المكلف -وغير الكفء الذي ال يفعل أكثر من مجرد شــراء الوقت- لمواجهة تناقض التمثيل والمشــروعية، بما يجمعهما من تحويل غير طوعي للموارد المالية من الشعب إلى النظام، ومن تحديد تحكمي ألولويات االستثمار وتخصيصات الموارد المادية بعيًدًا عن مشــاركته، ليس ســوى عملية غير مســتدامة مالًّيّا وتنموًّيّا وسياســًّيّا؛ خصو ًصًا مع غلبة أحادية اتجاهها من األول إلى الثاني من ناحية، وغلبة الهدر والتســرب خارج االقتصاد وخارج البلد بالجملة عبر طرف المعادلة المستفيد من ناحية أخرى. يوم الحساب: سباق الهاوية بين النظام والشعب تنبع خطورة سعر الصرف، ليس فقط من كونه أبا األسعار كلها؛ باعتباره سعر العملة الوطنية التي تمثل مظهر ورمز اســتقالل االقتصاد؛ ومن ثم تأثيره على كافة متغيراته وتدفقاته إنتا ًجًا واســتهالًكًا واســتثماًرًا، بل كذلك من كونه في نهاية المطاف مجرد ، بما يعنيه ذلك من انطباق كافة قوانين وأحكام األســعار " قيمة " يعِّبِر عن " ســعر " .) 68 والقيم عليه، بما فيها تأثرها باالضطرابات السيكولوجية وأرواح الحيوانات( وعلى هذا الصعيد، يمكن أن يقع ســعر الصرف كغيره من األســعار فريســة لهذه االضطرابات السيكولوجية المدفوعة بالتوقعات، السلبية غالًبًا في سياقات األزمات، بل ،) 69 إن المضاربة الناتجة عنها هي إحدى الطبقات الخمس المحددة لسعر الصرف( والتي تصبح الطبقة األكثر خطورة واألكبر أثًرًا في هذه الســياقات، بما يتجاوز كثيًرًا كافة الطبقات األخرى، الهيكلية والمؤسسية والتجارية والمالية، التي يفترض أنها أكثر موضوعية وأساسية في تكوين هذا السعر، واألحق بصياغة توازنه الحقيقي العادل. لكــن الوصول للوضع الذي تتســلم فيه هذه الطبقة الســيكولوجية، المدفوعة عادًة بتراجع ثقة هائل في المنظومة االقتصادية، عجلة قيادة ســعر الصرف ال يحدث إال نتيجة لســوء إدارة اقتصادية وسياســية كبيرين، يفقد معه الشعب أية توقعات إيجابية ، كأبرز التجليات النقدية لهذا الموقف، نوًعًا من " الدولرة " تجاه المســتقبل؛ لتصبح

Page 1 Page 2 Page 3 Page 4 Page 5 Page 6 Page 7 Page 8 Page 9 Page 10 Page 11 Page 12 Page 13 Page 14 Page 15 Page 16 Page 17 Page 18 Page 19 Page 20 Page 21 Page 22 Page 23 Page 24 Page 25 Page 26 Page 27 Page 28 Page 29 Page 30 Page 31 Page 32 Page 33 Page 34 Page 35 Page 36 Page 37 Page 38 Page 39 Page 40 Page 41 Page 42 Page 43 Page 44 Page 45 Page 46 Page 47 Page 48 Page 49 Page 50 Page 51 Page 52 Page 53 Page 54 Page 55 Page 56 Page 57 Page 58 Page 59 Page 60 Page 61 Page 62 Page 63 Page 64 Page 65 Page 66 Page 67 Page 68 Page 69 Page 70 Page 71 Page 72 Page 73 Page 74 Page 75 Page 76 Page 77 Page 78 Page 79 Page 80 Page 81 Page 82 Page 83 Page 84 Page 85 Page 86 Page 87 Page 88 Page 89 Page 90 Page 91 Page 92 Page 93 Page 94 Page 95 Page 96 Page 97 Page 98 Page 99 Page 100 Page 101 Page 102 Page 103 Page 104 Page 105 Page 106 Page 107 Page 108 Page 109 Page 110 Page 111 Page 112 Page 113 Page 114 Page 115 Page 116 Page 117 Page 118 Page 119 Page 120 Page 121 Page 122 Page 123 Page 124 Page 125 Page 126 Page 127 Page 128 Page 129 Page 130 Page 131 Page 132 Page 133 Page 134 Page 135 Page 136 Page 137 Page 138 Page 139 Page 140 Page 141 Page 142 Page 143 Page 144 Page 145 Page 146 Page 147 Page 148 Page 149 Page 150 Page 151 Page 152 Page 153 Page 154 Page 155 Page 156 Page 157 Page 158 Page 159 Page 160 Page 161 Page 162 Page 163 Page 164 Page 165 Page 166 Page 167 Page 168 Page 169 Page 170 Page 171 Page 172 Page 173 Page 174 Page 175 Page 176 Page 177 Page 178 Page 179 Page 180 Page 181 Page 182 Page 183 Page 184 Page 185 Page 186 Page 187 Page 188 Page 189 Page 190 Page 191 Page 192 Page 193 Page 194 Page 195 Page 196 Page 197 Page 198 Page 199 Page 200

Made with FlippingBook Online newsletter