العدد24

يبحث الكتاب معضلة الفراغ الاستراتيجي والتجزئة (1971- 2018)) فيما يقوم بين دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية من علاقات قبل إنشاء المجلس وبعد تأسيسه. كما يتناول مسارات التعاون والصراع في تلك العلاقات، وتطورها خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين، ومطلع الألفية الثالثة، وكذلك العوامل المحلية والإقليمية والدولية التي أثَّرت وتؤثر فيها سلبيًّا أو إيجابيًّا. ويسعى الكتاب لمؤلفه، الدكتور محمد صالح المسفر، بصفة عامة إلى محاولة فهم العلاقات الخليجية-الخليجية وتقييمها في إطار التداخل بينها وبين السياسات الإقليمية والدولية ودراسة اتجاهاتها والبحث في مصير الدول الخليجية.

L U B A B   دورﯾﺔ ﻣﺤﮑﻤﺔ ﺗﺼﺪر ﻋﻦ ﻣﺮﮐﺰ اﻟﺠﺰﯾﺮة ﻟﻠﺪراﺳﺎت 2024 - ﻧﻮﻓﻤﺒﺮ/ﺗﺸﺮﯾﻦ اﻟﺜﺎﻧﻲ 24 اﻟﺴﻨﺔ اﻟﺴﺎدﺳﺔ - اﻟﻌﺪد

هﯿﺌﺔ اﻟﺘﺤﺮﯾﺮ     .        .    .     .  € ‚ƒ€ . „ „ „ .  † ‡     ˆ‰ ˆ ‘ ’  .. ﻣﺪﯾﺮ اﻟﺘﺤﺮﯾﺮ “    ” . رﺋﯿﺲ اﻟﺘﺤﺮﯾﺮ Š‹Œ ˆŽŒ   . ﻧﺎﺋﺐ رﺋﯿﺲ اﻟﺘﺤﺮﯾﺮ

اﳌﺮاﺟﻊ اﻟﻠﻐﻮي •Ž  –— ˜

دراسات وأبحاث

Studies and Research

Mohamed El- Moctar El-Shinqiti The Seeds and Roots of Strategic Thought in Ancient Chinese Civilization

محمد المختار الشنقيطي بذور الفكر الإستراتيجي وجذوره في الحضارة الصينية العتيقة

9

عبد الحكيم أبو اللوز السلفية وثقافتها السياسية الامتثالية

Abdelhakim Aboullouz Salafi Compliance Political Culture

71

ElKhair Omar Ahmed Suleiman Dimensions of the conflict in Sudan

الخير عمر أحمد سليمان أبعاد الصراع في السودان

95

سفيان جرضان الانخراط داخل الحزب السياسي بالمغرب: بناء العضوية بين المسار والتداعيات

Soufiane Jardan Engaging in the Moroccan Political Party: Building Membership between Pathways and Implications

125

Adel Anejjar The Political Parties and Protest in Morocco: From Connection to Disconnection

عادل النجار الأحزاب السياسية والاحتجاج: من "الاتصال" إلى "الانفصال"

157

Abderrafie Zaanoun Capitalismo de amiguetes: Cómo las élites han manipulado el poder político

عبد الرفيع زعنون رأسمالية المحسوبية: كيف تلاعبت النخب بالسلطة السياسية

189

5 |

افتتاحية العدد

عدد جديد ودراسات منوعة يحاول هذا العدد من (لباب) أن يسلط الضوء على واقع الصراع الراهن في السودان، . 2023 وحالة الحرب المتواصلة بين الجيش وقوات الدعم السريع، منذ أبريل/نيسان ، سعى " الأبعاد الإقليمية والدولية للصراع في الســودان " وفي الدراســة الموســومة الباحث إلى معالجة محددات هذا الصراع وتقديم تفســير علمي للأســباب الرئيسية التي قادت إلى الحرب. وتطرح الدراســة مجموعة من العناصر التي تســببت بهذا الواقع، ومن بينها ظاهرة تعدد الجيوش الموازية، وغياب الحوار السياســي البنََّاء الذي يُُفضي لتوافق سياسي، وغياب المشروع الوطني المتفق عليه، وضعف دور الأحزاب في المساهمة في إنتاج ذلك المشــروع، وعجزها عن إنتاج سياســات كلية لإدارة التنوع الذي يعد أحد أبرز المعضلات التي يواجهها السودان، كما تناقش الدراسة أهم الأبعاد الإقليمية والدولية التي أسهمت في استمرار الحرب. بذور الفكر الإســتراتيجي وجذوره في الحضارة " وفي العدد دراســة مطولة بعنوان ، وهي دراســة تحليلية لنصين تأسيسيين من النصوص الإستراتيجية " الصينية العتيقة ، الذي " فن الحرب " التــي أثمرتهــا الحضارة الصينية العتيقة، وهما: كتاب صن تزو ، وهو نص " سـِت والثلاثون � الإســتراتيجيات ال " كُُتــب قبل الميلاد ببضعة قرون، و مجهول المؤلف، يرجع تاريخه إلى القرن السادس الميلادي. وضعت الدراسة النصين في سياق الزمان، وتتبعت أثرهما في الصين وخارج الصين يـ ًا وحاضرًًا، وقدمت مضامينهما فــي خلاصات مكثفة ومبادئ آمرة. كما بيََّنت � ماض الدراسة ضرورة مدارسة هذين النصين لفهم العقل الإستراتيجي الموج ِِّه للصين اليوم، وهي القوة العظمى التي تطرق أبواب المنطقة العربية والعالم الإسلامي، في صعودها إلى قمة العالم بصبر وصمت، مستلهمة حكمتها العتيقة، وحضارتها العريقة. وتتتبع السلوك " السلفية وثقافتها السياسية الامتثالية " وفي العدد أيض ًًا دراسة بعنوان السياســي للحركة الســلفية المغربية، وتتلمس ثقافة سياسية من خلال تأويل السلفية

| 6

خطابات وممارســات وتفســيرهما في أفق اكتشــاف تفاعلات اجتماعية جديدة دالََّة وســرديات ذات مغزى. وتخلص الدراســة إلى أنه في حالة المغرب تتســع دائرة الدنيوي في طبيعة الســلفية؛ ما يجعلها حركة سياســية صريحة وإن تلبســت بلبوس الوعظ الديني. وفي دراسة تتعلق بعلاقة الأحزاب السياسية بظاهرة الاحتجاج، يقوم الباحث بتطبيقها ، ويمتد " الاتصال " علــى حالة المغرب من خلال تتبع زمني بين نمطين، هما: نمط ، بدءًًا من أواخر " الانفصال " إلى بدايات التســعينات، ثم نمط 1934 زمنيًًّا من عام . 2022 التسعينات إلى وفي العدد دراسة حول مفهوم الانخراط في الأحزاب السياسية وعلاقة ذلك بسلوك هذه الأحزاب، تحالفاتها ومواقفها السياســية وعلاقتهــا بالأزمات واهتمامها بتأطير المواطنين، وقد ســعت الدراســة إلى البحث في كيفية وجود الفرد في الحزب؛ أي دراسة بنية الحزب من الداخل عبر نظام العضوية، والتجربة الفردية للمواطنين داخل الحزب السياسي، وتركز بالأساس على دوافع انخراط الأفراد في الأحزاب السياسية وآثاره. وفــي زاوية (قراءة في كتاب) نقدم في هــذا العدد قراءة لكتاب جديد صدر مؤخرًًا رأســمالية المحســوبية: كيف تلاعبت النخب بالســلطة " باللغة الإســبانية بعنوان ، وفيه يعمد مؤلفه، كارلوس سانشــيز، إلى استقصاء الأسباب الجوهرية " السياســية؟ للتخلف التاريخي لإســبانيا، والتي يُُرجعها بالأســاس إلى الأدوار الســلبية للنخب السياســية والاقتصادية، في ظل تحالفات موضوعية بين شبكات المصالح المصرفية والصناعية وجماعات الضغط التي رعتها الأوليغارشيات الإقليمية في منطقتي الباسك وكتالونيا، التي انســاقت وراء حلم الحكم الذاتي للإقليمين لتثبيت السياسة الحمائية التي اتخذتها في الواقع غطاء للســيطرة على الأســواق مع تغليف مساعيها بمسوح قومية لتحصين امتيازاتها.

دراسات وأبحاث

بذور الفكر الإستراتيجي وجذوره في الحضارة الصينية العتيقة

 The Seeds and Roots of Strategic Thought in Ancient Chinese Civilization * Mohamed El-Moctar El-Shinqiti – محمد المختار الشنقيطي

ملخص هـذه دراسـة تحليليـة لنصيـن تأسيسـيين مـن النصـوص الإسـتراتيجية التـي أثمرتهـا ، الـذي ك ُُتـب قبـل "فـن الحـرب" الحضـارة الصينيـة العتيقـة، وهمـا: كتـاب صـن تـزو الـميلاد ببضعــة قــرون، و"الإســتراتيجيات الس ِِّــت والثلاثــون"، وهــو نــص مجهــول المؤلـف، يرجـع تاريخـه إلـى القـرن السـادس المـيلادي. وقـد وضعـت الدراسـة النصيـن يـًا وحاضـرًًا، وقدمت � في سـياق الزمـان، وتتبعـت أثرهمـا في الصيـن وخـارج الصين ماض مضامينهمـا في خلاصـات مكثفـة ومبـادئ آمـرة. كمـا بي ََّنـت الدراسـة ضـرورة مدارسـة جـِه للصيــن اليــوم، وهــي القــوة � هذيــن النصيــن لفهــم العقــل الإســتراتيجي المو العظمـى التـي تطـرق أبـواب المنطقـة العربيـة والعالـم الإسلامـي، في صعودهـا إــلى قــمة العاــلم بصــبر وصــمت، مــستلهمة حكمتــها العتيــقة، وحضارتــها العريــقة الصين، صن تزو، الفكر الإستراتيجي، فن الحرب، النظام الدولي. كلمات مفاتيح: Abstract: This analytical study examines two foundational texts on strategic thought from ancient Chinese civilization: Sun Tzu's The Art of War, composed a few centuries BCE, and The Thirty-Six Strategies, an anonymous essay penned in the 6th century AD. The study situates both texts in their historical context, traces their past and present influence within China and beyond, and relays their content through concise summaries and commanding principles. Moreover, it emphasizes the necessity of studying these texts in order to understand the strategic mindset guiding China today, as this nation knocks on the gates of the Arab region and the Islamic world, and climbs quietly and patiently to the peak of global power, drawing inspiration from its ancient wisdom and rich civilization. Keywords: China, Sun Tzu, strategic thought, The Art of War, international order. * د. محمد مختار الشنقيطي، أستاذ الشؤون الدولية المشارك، قسم الشؤون الدولية، جامعة قطر. Dr.Mohamed El-Moctar El-Shinqiti, Associate Professor of International Affairs, Department of International Affairs, Qatar University.

11 |

مقدمة أثمرت الحضارة الصينية العتيقة فكرًًا إستراتيجيًًّا اتسم بالسبق والأصالة والعمق، لأنه تخلََّق من رحم المعاناة، ونضج في لهيب الحروب الدامية في تاريخ الإمبراطوريات الصينيــة المتعاقبــة. وهو فكر يســتحق الاطلاع والمدارســة مــن كل مهتم بالفكر الإســتراتيجي اهتمامًًا نظريًًّا، ومن كل ســاع إلى شحذ حاســته الإستراتيجية شحذًًا يـ ًا. ويمكن القول: إن الفكر الإســتراتيجي في الحضــارة الصينية العتيقة يحمل � عمل بيــن جنبيه بذور كل الأفكار الإســتراتيجية اللاحقــة وجذورها. فجرْْد أمهات الفكر الإستراتيجي يدل على أن أغلب الأفكار الكبرى التي تضمنتها هذه الكتب لها جذور أو بذور -على الأقل- في الفكر الصيني القديم. ولأن هذا التراث الإســتراتيجي العتيق لا يزال ملهمًًا للنخبة السياســية والعســكرية الصينية، فإن هذه الدراســة تطمح إلى الإســهام في الكشــف عن جوانب من العقل الإســتراتيجي الموجه للصين اليوم فــي صعودها الهادئ إلى قمة العالم، من خلال عــرض تحليلي لنصين من أهم النصوص الإســتراتيجية الكلاســيكية التي أنتجتها لصن تزو الذي يعتقد أنه عاش فن الحرب الحضــارة الصينيــة العتيقة، وهما: كتاب لمؤلف " الإســتراتيجيات الست والثلاثون " في القرن الســادس قبل الميلاد، ووثيقة مجهــول، يترجح أنه كتبها في القرن الســادس المــيلادي، وتدل مضامينها على أن مؤلفها تربطه قرابة عقلية وثيقة بصن تزو. تتركز إشكالية البحث على سؤالين محوريين، هما: ما العلاقة بين التراث الإستراتيجي الصيني الضارب الجذور في التاريخ وصعود جمهورية الصين الشعبية المعاصرة؟ ثم ما مدى صلاحية هذا الفكر الإســتراتيجي الصيني العتيق للاستلهام في سياق الثقافة العربية والإسلامية اليوم؟ وقد وجدنا دلائل استلهام النخب الصينية المعاصرة لذلك التراث العتيق ابتداء من حروب التحرير الصينية ضد الاستعمار الياباني مطالع القرن العشرين، وهو أمر تكثف مع الزمن، خصوص ًًا مع مطامح الصين إلى الريادة العالمية في العقود الأخيرة. كما توصلنا إلى إمكانية استلهام التراث الإستراتيجي الصيني في السياق العربي والإسلامي، بعد نقله إلى البيئة الثقافية الخاصة بالمنطقة العربية والعالم

| 12

الإسلامي، كما اســتلهمته النخب العسكرية والسياسية الغربية، بعد تطويعه لمزاجها الثقافي الخاص. وتنقسم الدراسة إلى قسمين، لكل منهما منهجه ومنطقه. فالثلث الأول من الدراسة مقدمات عامة، تســلك المنهج التاريخي، فتبين أهمية الصين وتراثها الإســتراتيجي، وضرورة أخذهما بجد، وتضع النصين المدروسين ضمن سياقهما التاريخي، وترصد انتقالهمــا مــن المحلية إلى العالمية عبر ترجمات عديدة إلى لغات شــتى، كما تبين أثر هذين النصين في ثقافة الصين المعاصرة، وفي الثقافة الإســتراتيجية الغربية. أما القســم الثاني من الدراســة الذي يقارب ثلثيها، فيعتمد المنهج التحليلي، وهو يركز علــى تقديم لباب النصين للقارئ، فيســتخلص المبادئ الإســتراتيجية الكبرى من النصين، ويصوغها صياغة مكثفة في أربع وعشرين مقولة آمرة أو ناهيةًً، سهلة الحفظ ا عليها بحشد من الاقتباسات النصية، وشارح ًًا لها أحيانًًا بأمثلة والاســتيعاب، مستدل ًّا تاريخية تقربها من ســياق الثقافة العربية والإسلامية. والغاية من تناول النصين بهذه الطريقة هي منح هذه الدراســة صبغة تعليمية وعملية، بعيدًًا عن التجريد الأكاديمي البارد. وليــس هــذان النصان هما كل ما ور ََّثتنا إياه الحضارة الصينية العتيقة من كنوز الفكر الإستراتيجي، بل يوجد عدد لا بأس به من هذه الكنوز، أهمها النصوص الكلاسيكية الســبعة التي اعتادت الإمبراطوريات الصينية المتعاقبة اعتمادها برنامج ًًا لقادة الدولة . لكن اختيارنا وقع على هذين )1( السياســيين والعســكريين، ومنها كتاب صن تزو النصين، لما امتازا به من عمق المضمون، وحبكة الصياغة، وأثر في التاريخ العسكري. مختصر وربما يكون أشبه كتب التراث العسكري الإسلامي بهذين النصين هو كتاب لمفكر عسكري من العصر العباسي، هو أبو سعيد الهرثمي، الذي سياسة الحروب، فهو يقاربهما في عمق الحاسة الإستراتيجية، وكثافة . عاش في القرن الثالث الهجري الأســلوب، وحســن السبك. وســنجري مقارنات خفيفة بينه وبين صن تزو في ثنايا الدراســة. ورغم صدور عشــر ترجمات عربية لكتاب صن تزو، فقد أعيانا الحصول علــى أي دراســة تحليلية جادة لكتاب صن تزو باللغــة العربية، وهذا من محفزات إقدامنا على كتابة هذه الدراسة التي نأمل أن تسد هذه الثغرة.

13 |

الإعصار وتغير المناخ يتركز اهتمام الرحالة المســلمين الأقدمين إلى الصين على براعتها الصناعية، وغرابة ثقافتها عن ثقافتهم، ووضع المسلمين فيها، على نحو ما نجد في رحلة السيرافي في م) في القرن 1377 - 1304 / ـ ه 779 - 703 القــرن الثالث الهجري، ورحلة ابن بطوطة ( . لكن هذه الاهتمامات لم تعد كافية، ونحن في مسيس الحاجة اليوم إلى )2( الثامن النظر إلى الصين بعيون جديدة، والمدارســة الجدية لفكرها، بما يتجاوز اهتمامات أولئــك الرحالة، وعالـــمهم الثقافي، وخيالهم الجغرافــي. فلا مناص اليوم من بذل الجهد لفهم هذه الحضارة العتيقة، المتاخمة لحدود العالم الإسلامي، والمتفاعلة مع المنطقة العربية على أكثر من صعيد سياسي واقتصادي وإستراتيجي. ومن هنا، تعيََّن استئناف القول في استكشاف الفكر الإستراتيجي الذي نبت من أرض هذه الحضارة، ضاربًًا بجذوره في التاريخ السياسي والعسكري البشري. وممــا يجعــل الاهتمام بالصين وفكرها الإســتراتيجي متعينًًا أنها أصبحت اليوم قوة دولية صاعدة تتمدد بهدوء وصمت، وتتقدم إلى الريادة العالمية بصبر وجلد؛ إذ تنقسم الكتــل الدولية الكبرى اليــوم إلى ثمان: أربع فاعلة وأربع منفعلة. أما الكتل الفاعلة فهي: الولايات المتحدة، والصين، وأوروبا، وروسيا. وأما الكتل المنفعلة فهي: الهند، والعالم الإسلامي، وإفريقيا، وأميركا اللاتينية. ولا يختلف الباحثون الإســتراتيجيون فــي أن الصيــن اليوم هــي القوة الصاعدة التي يجب أن تحســب لها الكتل الدولية -الفاعلة والمنفعلة- ألف حســاب، فهي أوْْلى من غيرها بالفهم والدراسة، نظرًًا لما يترتــب على صعودها من انزياحات في مراكــز ثقل القوى الفاعلة، ومن تأثير على القوى المنفعلة. مدير الأمن السيبراني في وكالة الأمن القومي )Rob Joyce( وقد عبََّر روب جويس الأميركيــة، تعبيــرًًا بليغًًا عن صعود الصين الهادئ إلى الريــادة العالمية، مقارنًًا بينها أنا أعتبر روسيا إعصارًًا، يأتي عاصفًًا وقويًًّا، أما الصين فهي تغير " وبين روسيا فقال: . وهذا مجاز )3(" المناخ الذي هو طويل الأمد، بطيء الأثر، لا مهرب منه، ولا مرد له معبِِّر وعميق الدلالة حقًًا: فالإســتراتيجية الروسية تبدو اليوم عاصفة ومتسرعة، لكن تأثيرها في النظام الدولي تأثير سطحي وموْْضعي رغم عنفه وعنفوانه. أما الإستراتيجية الصينية فهي صبورة وهادئة، لكن تأثيرها في النظام الدولي عميق وشامل وبعيد الأثر.

| 14

ولا يعارض الصينيون هذا النمط من التوصيف لصعودهم، بل لعله يعجبهم ويخدم ما يرمون إليه من التســليم بريادتهم، ولكنهم يض ْْفون عليه معنى أخلاقيًًّا مستمد ًًّا من ا-، يجادل تراث صن تزو. فالمفكر العســكري الصيني المعاصر، ليو مينغْْفو -مثلًا ، لكن بمنهج )4(" مبارزة القرن " بأن الصين ستفوز على الولايات المتحدة فيما يدعوه مختلف تمامًًا عن المنهج الأميركي، وهو يرسم صورة هذا الاختلاف بقوله: إن الصين مســاهم أساســي في الفكر العســكري في أرجاء العالم، لكنها لم تكن " مســاهمًًا أساســيًًّا في حــروب العالم. ففــن الحرب الصيني فن ســلمي، ودفاعي، وإستراتيجي، وخِّيٌِرٌ، ومتحضر. فهو فن حرب يستعمل النعومة للتغلب على الحديد، والتروي للتغلب على القوة. وكتاب فن الحرب لصن تزو تعبير كلاسيكي عن ثقافة الصين العســكرية، وتأمُُّل كثيف في شــخصية الصين العســكرية، وعمل إبداعي في . )5(" التعبير العسكري عن خصائص الصين السياسية وســوف نرى بتحليلنا لأفكار صن تزو وحكمه الإســتراتيجية في ثنايا هذه الدراسة مــا إن كان مينغْْفــو دقيقًًا في توصيفه لتلك الأفكار. لكن ما يهمنا هنا هو أن الصين الذي أذاقهم فيه )1949-1840( " قرن المهانــة " قــد خرجــت مما يدعوه الصينيــون المســتعمرون الغربيون واليابانيون صنــوف الإذلال، ثم بدأت خلال العقود الأربعة الماضية صعودًًا مدهش ًًا. وهي تستمد الروح الدافعة لهذا الصعود من أمرين: الإصرار . )6( على محو آثار الإذلال المعاصر، والاعتزاز بأمجاد الإمبراطوريات الصينية الغابرة وهذا الخروج الصيني من طوق الهيمنة الغربية على العالم التي دامت قرونًًا، وتقدمها إلى مســرح التاريخ العالمي من جديد، يترتب عليه الكثير بالنســبة لمستقبل المنطقة العربية والحضارة الإسلامية. التنين يطرق الأبواب ويمكن أن نضيف إلى هذا الصعود الصيني على المستوى الدولي، أن الصين بدأت تتمدد بهدوء وثبات في بيئتنا الإستراتيجية، وتبني لنفسها رؤوس جسور في المنطقة العربيــة، وفــي العالم الإسلامي الذي تجمعها حدود مشــتركة مع خمس من دوله، هي: أفغانســتان، وكازاخستان، وقرغيزستان، وطاجيكستان، وباكستان. وهذه الأخيرة تربطها بالصين علاقات عسكرية متينة في مواجهة غريمهما المشترك، الهند، وعلاقات

15 |

اقتصادية متصاعدة تتضح معالمها في مشاريع الصين في ميناء غوادر الباكستاني على بحر العرب، واستثماراتها الضخمة في البنية التحتية الباكستانية. كما أن الصين على احتكاك مباشر بالدول الإسلامية المطلة على بحر جنوب الصين: إندونيسيا وماليزيا وبروناي، وهي تســتثمر اســتثمارات ضخمة في البنية التحتية في عموم دول آســيا الوســطى الإسلامية، بعد تراخي القبضة الروسية عن تلك الدول. كما ترتبط الصين ، وتضمنت التعاون 2021 بمعاهدة شراكة إستراتيجية مع إيران، وقََّعتْْها الدولتان عام الإستراتيجي بينهما لمدة ربع قرن في كل المجالات، بما فيها المجال العسكري. وإذا تحدثنا عن باكستان وإيران فنحن نتحدث عن تخوم المنطقة العربية التي تتكثف صلات الصين بها، ويزداد حضورها فيها ومن حولها يومًًا بعد يوم، وخصوص ًًا دول الخليج والشــرق الأوســط والقرن الإفريقي. فقد وصل اســتيراد الصين من النفط % من وارداتها، بما 50 ، أكثر من 2022 الخليجــي (العربي والإيراني)، مطلع العــام . وقد )7( يتجاوز ثلاثة أضعاف الواردات النفطية والأوروبية الأميركية من نفط الخليج أولى قواعدها العسكرية خارج حدودها في دولة عربية، 2017 أقامت الصين منذ عام هي جيبوتي، لتقوية حضورها في باب المندب والبحر الأحمر والقرن الإفريقي. يقال إنه عندما استولى " وعلاقة الصين بمنطقة الخليج ليست جديدة على ما يبدو؛ إذ قرب البصرة، في خلافة عمر بن الخطاب، وجد بها المسلمون الأ ُُب ُُل ََّه العرب على ميناء John( . وقد تنبأ منظ ِِّر العلاقات الدولية الأميركي، جون ميرشايمر )8(" ســفنًًا صينية وأوضح " الشــراكة الإستراتيجية الشاملة، " ، باتفاقية 2010 ، منذ عام )Mearsheimer ميرشــايمر ما قد يترتب على هذه الاتفاقية لمنطقتي الخليج والشــرق الأوسط على المدى البعيد، فقال: نظــرًًا لاعتمــاد الصين على نفط الخليج، فمن الراجح أنها ســتتنافس مع الولايات " المتحــدة على النفوذ فــي هذه المنطقة ذات الأهمية الإســتراتيجية، بنفس المنحى التي نحاه الاتحاد الســوفيتي من قبل. وليس اجتياح الصين للشــرق الأوسط بالأمر المرجح، لأنه بعيد عن الصين، ولأن الولايات المتحدة ستسعى لإفشال هذا الهجوم يقينًًا. ولكن من الراجح أن الصين ستؤســس لحضور عســكري دائم في المنطقة إذا اســتعان بها حليف مقرب. على ســبيل المثال من الممكن تصور إيران والصين وقد . )9(" رس ََّخا العلاقات بينهما، ثم إذا بإيران تطالب باستقرار قوات صينية على أرضها

| 16

واللافــت للنظر أن بعض المنظ ِِّريــن الصينيين لا ينكرون غايتهم البعيدة وهي وراثة إســتراتيجيات " النفــوذ الأميركــي في العالم. فبينما نجــد منِّظًِرًا أميركيًًّا يحذر من التي تنتهجها الصين بصبر وطول نفس، سعيًًا إلى وراثة النفوذ الأميركي في " الإزاحة ، نجد منظ ِِّرا صينيًًّا يبشر بعصر )10( العالم دون الدخول في حرب مباشرة مع أميركا في النظام الدولي، رغم سعيه لإقناع الأميركيين وغيرهم بأن الصين " ما بعد أميركا " . )11( ا لن تكون قوة هيمنة، بل قوة تعاون الممســكة بزمام القيادة العالمية مســتقبلًا ومهما تكن النيات الطيبات أو الخبيثات التي تستبطنها القوة الصينية الصاعدة، فإنها قوة تطرق أبواب منطقتنا اليوم، وليس من الحكمة أو الحصافة تجاهلها. المفكر الحاضر الغائب ويجب ألا ننسى أن الفكر الإستراتيجي الصيني الذي نتناوله هنا حاضر في حياتنا عبر الآخرين، وخصوص ًًا الأميركيين الذين هم أكثر الشــعوب مدارسة وتطبيقًًا لفكر صن تزو اليوم، وهم يطبقونه بالفعل في حروبهم وسياســاتهم في المنطقة العربية والعالم الإسلامي. وقد كتب أحد الصحفيين الأميركيين المرافقين للجيش الأميركي في حرب على الرغم من أن الصين لم ترسل إلى الخليج جنديًًّا واحدًًا، " : 1991 الخليج، عام إلا أن هناك صينيًًّا لغزًًا يشارك في المعركة، وهو يقود عمليات القتال. ذلك الجندي . )12( " عام 2500 هو سون تسي [صن تزو] الذي عاش ومات قبل ، الطيار والمفكر 1991 ويكفــي أن نعلــم أن واضع خطة الحرب في الخليج، عــام ، تلميذ نجيب من تلاميذ فكر صن )John Boyd( الإستراتيجي الأميركي، جون بويد تزو، وأنه استمد منه الأفكار الأساسية التي اشتهر بها. ففكرة إيقاع الخصم في حالة أساس ًًا إعادة تأويل معاصرة لكتاب صن " شلل إدراكي ونفسي التي نظ ََّر لها بويد هي المنطلق الذي " ، كما لاحظ باحث عســكري تايلندي، وهي )13( " فن الحرب تــزو ، )14( " انطلق منه بويْْدْْ، وقد كان يعتبر صن تزو أبًًا مؤسسًًا للإستراتيجيات العسكرية كما لاحظ باحث عسكري أميركي، وسنتناول مفهوم الشلل الإدراكي فيما بعد. لقد ظل كتاب صن تزو ملهمًًا للقادة السياسيين والعسكريين عبر العصور. ورغم أن هــذا الكتيب خفيف الوزن، لا تتجاوز كلمات ترجمته أحيانًًا أكثر من عشــرة آلاف كلمة، فإنه نص كثيف المادة، وهذا ما جعله منبعًًا لا ينضب من الحكمة السياســية والعسكرية، يستمد منه كبار المفكرين الإستراتيجيين والقادة العسكريين والسياسيين،

17 |

ورؤساء الشركات والمنظمات. ولا تزال الأكاديميات العسكرية المرموقة تدرِِّس هذا الفصول الثلاثة " فإن (Mark McNeily( الكتاب لطلابها إلى اليوم. وكما لاحظ مارك عشــر لهذا النص العتيق لا تزال مرجعًًا اليوم لجنود لم يعودوا يقاتلون بالســيوف والرماح، بل بالصواريخ والطائرات المسيرة، ولا يتواصلون بالأعلام، بل عبر الأقمار الصناعية، ولا يناورون بناء على معالم الأرض، بل باستخدام نظام التموقع العالمي . فــإذا لــم نكــن قد منح ْْنا هذا النص العتيق ما يســتحقه من عناية، فإنه )15( " GPS الحاضر الغائب في حياتنا، لأن الآخرين قد تدارســوه وطبقوا مبادئه الإســتراتيجية علينا. فلنلتفت الآن إلى ملامح شــخصية صن تزو، وشــيء من تاريخ كتابه وبنْْيته، وأثره الباقي، عسى أن نعوض شيئًًا من تفريطنا السالف. شخصية صن تزو تــدل الدلائــل التاريخية المتاحة على أن صن تزو عاش في ظروف صراع مرير بين الدويلات التي كانت تتوزع أرض الصين وتتنازعها، وفي بيئة تقدر الحكمة السياسية والبراعة الحربية. ولكن لا يُُعرف الكثير عن حياة صن تزو الشــخصية، وإنما توجد شــذرات ذات صلة بســيرته السياسية والعســكرية، وليس من الواضح مستوى الثقة التاريخية الذي تستحقه هذه الشذرات المتناثرة. فما صح منها فهو معبِِّر عن الوقائع التاريخية، وما لم يصح منها فهو يعكس ما أضفاه اللاحقون من المفكرين والمؤرخين الصينيين على صن تزو من صفات، ليست بالغريبة عليه، أو على مجتمعه وبيئته. ومن ، ومعناه: " صن تزو " ، لكنه اشتهر باسم " صن وو " هذه الشذرات أن اسمه الأصلي ، تقديرًًا لعلمه وخبرته، وأنه كان قائدًًا عســكريًًّا في بلاط مملكة وو "ْْ المعلم صن " ، وهــي إحــدى الممالك الكثيرة التي زادت على مئة وخمســين دويلة، وكانت Wu . ولا يُُعرف )16( تتقاسم الأرض الصينية آنذاك، وأن جده كان واليًًا من ولاة الأقاليم ، ســوى أنه قاد جيشــها في عدد " وو " الكثير عن حياة صن تزو بعد لحاقه بمملكة من الحروب المظفرة ضد الممالك الصينية المنافسة. ، واختبار الملك لخبرته " وو " ومن أشهر القصص عن صن تزو قصة لقائه مع ملك بتحديه أن يدرب جواري القصر حتى يصبحن محاربات محترفات. فصف صن تزو الجواري صفين، وعين على رأس كل من الصفين إحدى محظيات الملك الأثيرات

| 18

إلى قلبه. وحينما أصدر أوامره إليهن ببدء التدريب العســكري تضاحكن في سذاجة إذا كانت الأوامر غير واضحة ومفهومة فالعتْْب في عدم " واستغراب، فقال صن تزو: تنفيذها يرجع إلى القائد، وإذا كانت واضحة ومفهومة فالعتْْب في عدم تنفيذها يرجع ، ثم كرر أوامره، فتضاحكت الجواري مرة أخرى، فاستل صن تزو سيفه " إلى الجندي وقطع رأس الجاريتين، أمام ذهول وصدمة الملك، وسرعان ما أصبحت المتدربات . )17( طوع يده، ينفذن أوامره بسرعة وهمة وجد جدالات الزمن والسياق ومــا لا يختلــف فيه المؤرخون هو أن صــن تزو عاش في الصين، وفيها كتب كتابه ، قبل الميلاد بفترة من الزمان. لكنهم ينقسمون إلى مدرستين في تحديد فن الحرب الحقبة الزمنية التي فيها عاش المؤلف وظهر الكتاب: مدرسة تتناول الموضوع بمنهج التحليل التاريخي الخارجي، وتعتمد على شــهادات مؤرخين صينيين أقدمين، وهي تميل إلى أن صن تزو عاش في الحقبة الزمنية المعروفة في التاريخ الصيني باســم ق. م.). ويعتقد 481 - 722 التي امتدت مــا بين العامين ( " الربيع والخريف " حقبــة 496 - 544 هؤلاء المؤرخون -تبعًًا لمصادر صينية قديمة- أن صن تزو عاش ما بين ( ق. م.). ا نصيًًّا داخليًًّا، يشــمل لغة تحليل ًا فن الحرب أما المدرســة الثانية فهي تحلل كتاب الكتاب ومصطلحاته، وطبيعة الأحداث العسكرية التي يصفها، وأنماط الأسلحة التي يتحدث عنها، وحجم الجيوش التي يصفها.. وتحاول استخلاص دروس من ذلك في تحديد البيئة التاريخية التي أنتجت النص. وتجادل هذه المدرسة بأن صن تزو وكتابه حقبة " ينتميان لســياق زمني متأخر، وهو الحقبة المعروفة في تاريخ الصين باســم ق. م). وتترجح الكفة 221 - 403 وهي حقبة امتدت ما بين عامي ( " الدول المتحاربة بناء على أن )18( في الحوار الأكاديمي الغربي اليوم لصالح هذه المدرســة الأخيرة أحجــام الجيــوش الضخمة، وتنظيمها المتطور المعقد، على نحو ما يظهر في كتاب مــن تاريخ الصين، وأن " حقبة الربيع والخريف " صــن تزو، لم يكــن موجودًًا في مضامين الكتاب وأســلوبه يتناســبان أكثر مع أنماط التأليف والأســاليب المتبعة في . )19( " حقبة الدول المتحاربة " الكتابات الصينية خلال ويقتــرح باحثون آخــرون توفيقًًا بين الأدلة، بالقول: إن صــن تزو عاش في الحقبة الأولى، لكن تعاليمه العســكرية لم تُُدوََّن في نص واحد متماســك في عصره، بل

19 |

ظلت تراثًًا شفهيًًّا إلى أن دوََّنها وحررها أحد المتحدرين من سلالته، وهو صن بين ، )20( ق.م. 316 - 380 الــذي برهنت الأدلــة التاريخية على أنه عاش تقريبًًا ما بيــن وأن هذا المحرر طعََّم حكمة صن تزو بنكهة جديدة ومعطيات جديدة مســتمدة من عصر متأخر. "فن الحرب" في التاريخ لقد عاش صن تزو في بيئة سياســية وعســكرية، فهو ابن بيئته وزمانه، لكنه تجاوز تلــك البيئة وذلك الزمان أشــواطًًا بعيدة، بهذا الأثر الفكــري الذي لا يزال يتحدى الزمن. ويكفي من صلابة هذا النص أن عمره يزيد على ثلاثة وعشرين قرنًًا في أقل التقديرات، وهو ما زال محافظًًا على طراوته الفكرية، وإلهامه للساسة والقادة، حتى اليــوم. والغريــب أن هذا النص الضارب في أعماق الزمن يحيل في نصه إلى كتاب )، مما يدل على 17 ، فق 7 (فص " كتاب الإدارة العسكرية " آخر ســابق عليه يســميه: عمق التراث العسكري الصيني. وإذا كان الســجل التاريخــي قد خذلنا فيما يتعلــق بتفاصيل حياة صن تزو، لكنه لم ا ًا الذي بقي محفوظ ًًا عبر القرون، وظل متداول فن الحرب يخذلنــا فيمــا يتعلق بكتابه م) 1279 - 960 في الصين منذ كتابته إلى اليوم، بل وجعلت إمبراطورية سانغ الصينية ( دراســة هذا الكتاب -ضمن النصوص العســكرية الســبعة- شرط ًًا لتولي أي منصب . )21( عسكري ذي بال في الدولة صيغ كتاب صن تزو بأســلوب كثيف، جعل نصه أشــبه ما يكون بالأمثال والأقوال الســائرة، لشــدة تركيزه، وعمق أفكاره، وإجمال أسلوبه، وقد وصف هنري كيسنجر نص ًًّا " ، واعتبره الجنــرال ديفيد بترايوس )22( " يقع بين الشــعر والنثر " أســلوبه بأنه . )23( " مزيج من الروح الشعرية والبراغماتية " لأنه " ساحر ًًا ومن الصين انتقل الكتاب إلى مجتمعات شرق آسيا المجاورة، فتُُرجم خلال العصور ، وكان له أعمق الأثر في التاريخ )24( الوســطى إلى لغات التبت واليابان والمانشــو العسكري الآسيوي. يقول البحاثة الأميركي في النصوص العسكرية الصينية القديمة، ظل أهم نص " فــن الحرب إن كتــاب صن تزو )Ralph Sawyer( رالــف ســوير عسكري في آسيا على مدى ألفي عام... فقد تدارسه المنظ ِِّرون العسكريون والجنود

| 20

المحترفون في الصين واليابان وكوريا. وأثََّر كثير من الإستراتيجيات الواردة فيه تأثيرًًا . )25( " بالغًًا في التاريخ العسكري الياباني المروي، ابتداء من القرن الثامن الميلادي ولعــل الأثر الأكبر للكتاب في العصر الوســيط خارج الصيــن كان في اليابان التي وصلها الكتاب مطلع القرن السادس الميلادي، فترك بصمته على تقاليدها العسكرية لعدة قرون؛ حيث احتفى به رجال البلاط الإمبراطوري الياباني، واتخذته المؤسســة ، وظل الكتاب )26( ا عمليًًّا لتكوين القادة والجنود السياســية والعسكرية اليابانية دليلًا منذئذ نص ًًّا تأسيسيًًّا لا يُُستغنى عنه في الأكاديميات العسكرية اليابانية. - 1906 ( )Samuel B. Griffith( لكن العسكري الأميركي، العميد صمويل غريفيث )، الذي خدم ملحقًًا عســكريًًّا في ســفارة بلاده ببيجين وترجم كتاب صن تزو 1983 إلــى الإنكليزيــة، يــرى أن اليابانيين لم يفلحوا دائمًًا فــي الامتثال لحكمة صن تزو 7 الإســتراتيجية، فهم حين ضربوا الأميركيين ضربتهم المؤلمة في بيرل هاربر، يوم ، حققوا نصرًًا تكتيكيًًّا رائعًًا، مقابل خســارة إستراتيجية 1941 ديســمبر/كانون الأول وكان ثمن ذلك " انتصارًًا تكتيكيًًّا، لا إســتراتيجيًًّا " كارثية، فكانت ضربة بيرل هاربر غير محســوب العواقب، " ا متهورًًا عمل ًا " الانتصــار التكتيكــي فادح ًًا جد ًًّا، لأنه كان . ومع هذا الحضور الكثيف لكتاب صن )27( خلافًًا لما ترشــد إليه حكمة صن تزو م) 1969 - 1890 تزو في التراث الآسيوي، لا عجب أن الزعيم الفيتنامي هو شي منه ( قد ترجم الكتاب إلى اللغة الفيتنامية. ترجمات غربية وعربية بدأ كتاب صن تزو يخرج من بيئته الآســيوية القديمة إلى العالم المعاصر في ختام ، بقلم القسيس 1772 القرن الثامن عشــر. فقد صدرت ترجمة فرنســية للكتاب، عام )، الذي عمل من ِّصًِرًا في بيجين 1793 - 1718 ( )Jean Amiot( اليســوعي، جان آمْْيُُو . لكن الكتاب لم يتحول جزءًًا من نســيج الثقافة الإســتراتيجية الغربية إلا في )28( Everard ( القرن العشــرين. فقد نشــر النقيب في الجيش البريطاني، أفرارد كالثروب كتاب ، بعنوان: 1908 )، ترجمــة إنكليزيــة للكتاب، عــام 1915 - 1876 ( ) Calthrop . ولم تكن تلك الترجمة )29( الحرب: النص العســكري الكلاسيكي للشرق الأقصى جيدة، وهذا ما حفز الباحث الأســكتلندي المتخصص في الشــؤون الصينية، ليونيل

21 |

، إلــى إنتاج ترجمة إنكليزية رصينة للكتاب )1958-1875( )Lionel Giles( جايلــسْْ ، لا تزال تتداولها أيدي القراء إلى اليوم. ثم توالت الترجمات الإنكليزية 1910 عــام بعد ذلك. وقد أحصيت ســبعًًا وأربعين ترجمة إنكليزية للكتاب صادرة ما بين عام ، واطلعت على نصوص عشرة منها على الأقل. 2020 و 1904 وصدرت نحو عشــر ترجمات عربية للكتاب، اطلعت على أربع منها، هي ترجمات رؤوف شبايك، وربيع مفتاح، وكامل يوسف حسين، وطبعة دار الكتاب العربي التي وهذه الترجمات منقولة عن الإنكليزية، وهي ضعيفة )30( لا تحمل اســم مترجمها! الصياغة، تظهر أخطاء اللغة وارتباكات الأســلوب من صفحاتها الأولى، ويتبين عدم الدقــة والإهمال من مقارنتها مع الترجمات الإنكليزية التي نقلت عنها. وبالنظر إلى ضعف هاته الترجمات العربية، وكونها منقولة عن لغة أخرى وسيطة، لا عن الأصل الصيني، فقد تحاشيناها في هذه الدراسة، وآثرنا الاعتماد على ترجمة إنكليزية نقلها العميد صمويل غريفيث عن اللغة الصينية مباشرة. والســبب فــي اعتمادنا ترجمة غريفيث من بين الترجمــات الإنكليزية الوافرة العدد هــو كــون مؤلفها ضليعًًا فــي الفكر والتاريخ الصيني، وهــذه الترجمة هي موضوع رســالته للدكتوراه في التاريخ العســكري الصيني بجامعة أوكسفورد، بما يعنيه ذلك مــن الخضــوع لمعايير العمل الأكاديمي الرصين. كما أن هذه الترجمة زك ََّتها منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (اليونسكو)، واعتمدتْْها ضمن سلسلة النصوص الكلاسيكية الصينية التي نشرتْْها. ثم إن غريفيث أضاف لترجمته تعليقات عدد من الشراح الصينيين القدامى على كتاب صن تزو، فزاد النص سعة وثراءًً. وهو إلى ذلك لم يكتف بترجمة الكتاب، بل أشبعه وقدم عن حرب العصابات، ا . كما ترجم غريفيث كتيب ماو تسي تونغ دراسة وتحليلًا جيش التحرير الشــعبي الصيني، له بمقدمة تحليلية ثمينة، وألََّف دراســة ضافية عن وســنعود إلى هذين العملين لاحقًًا، لنرى من خلالهما فضل صن تزو على الصين . ومن الواضح أن تمرس المترجم بالســياق الثقافي الذي أنتج النص )31( المعاصرة من أهم الأمور المساعدة على دقة الترجمة. فكل ما اقتبسناه من نص صن تزو في هذه الدراسة فهو من ترجمتنا المباشرة عن نص غريفيث الإنكليزي.

| 22

الأثر الباقي في الصين ومن حيث الأثر الباقي في الصين ذاتها، فقد اســتمد مؤسس الصين المعاصرة، ماو ، ورفاقه الشيوعيون إستراتيجياتهم العسكرية من صن تزو، )1976 - 1893 تسي تونغ ( الشــيوعيون كانوا " ، و )32( " طيلة حياته فن الحرب كان تلميذًًا لكتاب " فماو نفســه ، ولا يزال، ملهمًًا )34( " إنجيلهم في عملياتهم " ، وكان كتابه )33( " تلاميــذ لصن تزو صالح ًًا " للقادة السياســيين والعســكريين الصينيين في الزمن الحاضــر، وهم يرونه ؛ فلا عجب أن كان الكتاب مقررًًا لازمًًا )35( " للتطبيق اليوم كما كان يوم كتبه مؤلِِّفه . )36( في جميع الكليات العسكرية في الصين المعاصرة ويدرك خصوم الصين الذين يراقبون صعودها بريبة وقلق قوة الاســتلهام من تراث صن تزو في تفكير قادتها اليوم. فقد أفرد هنري كيسنجر فقرة من عدة صفحات في " فن الحرب الواقعية السياســية الصينية وكتاب صن تزو " بعنوان: عن الصين كتابه لخص فيها أفكار صن تزو الإستراتيجية، ومظاهر استلهامها من طرف النخب الصينية . وأكــد الجنــرال الهندي المتخصص في الشــأن الصيني، راجيف )37( المعاصــرة على ضرورة الانتباه إلى الاســتمرارية التاريخية في ،) Rajiv Narayanan( نارايانان إستراتيجيات الصين المعاصرة، مشيرًًا إلى أن جميع القادة الصينيين المعاصرين -بمن فيهم قادة تايوان- يســتلهمون نصوص الإستراتيجيات الست والثلاثين وكتاب صن . )38( تزو، وغيرها من النصوص العسكرية التي أنتجتها الحضارة الصينية العتيقة )، فقد أدرك اســتلهام القادة Fumio Ota أمــا أدميــرال البحرية الياباني، فوميو أوتا ( الصينيين اليوم لنص صن تزو خلال زيارات ميدانية له للمؤسسات العسكرية الصينية؛ إذ وجد أن كتاب صن تزو هو أساس برامجها التكوينية. وكان من أطرف ما لاحظه أنه كلما ذكر جملة من نص صن تزو أمام أحد القادة العسكريين الصينيين أكمل له . )39( ا، فهم يحفظون نص الكتاب عن ظهر قلب القائد الصيني تلك الجملة ارتجالًا إســتراتيجية الصين الحالية متأثرة تأثرًًا عظيمًًا بأفكار صن " وقد توصل أوتا إلى أن ا : ، ونصح اليابان بمحاربة الصين من خلال اســتخدام أفكار صن تزو قائلًا )40( " تزو ؛ إذ هو -في نظره- سلاح ذو حدين. )41( " يجب أن نستخدم صن تزو ضد الصين "

23 |

الأثر الباقي في الغرب ،) 1821 - 1769 ورد في بعض المصادر أن الامبراطور الفرنســي، نابليون بونابرت ( اطلع على طبعة من ترجمة القســيس اليســوعي، جان آميوت ْْ، لكتاب صن تزو إلى اللغة الفرنســية، واســتمد منها عددًًا من مناوراته الحربية غير المألوفة التي أذهلت معاصريه. ويرجح غريفيث هذا الاستنتاج بناء على أن نابليون اشتهر بأنه قارئ نهم حين كان ضابطًًا شابًًّا، وأن من المستبعد أن يفوته نص بهذه الأهمية كان متاح ًًا لقراء . ولا يستبعد رالف سوير أيض ًًا اطلاع نابليون على كتاب )42( اللغة الفرنسية في عصره ، )Victor H. Mair لكــن مترجمًًا آخر لصن تزو، وهو فيكتور ماير ( )43( صــن تزو قصة رومانسية صيغت لتحريك " يشك ِِّك في اطلاع نابليون على الكتاب، ويعتبر الأمر ، رغم أنه لا يقدم أدلة نافية مقنعة. ولا يزال الجدل )44( " الخيال، لكنها مجرد تلفيق الأكاديمي في هذا الموضوع محتدمًًا. ومع ذلك، فإن الكتاب لم ينتشر في الغرب ويشتهر إلا بعد الحرب العالمية الأولى ومــا حــدث فيها من فظائع، حيث بدأ الغربيون يبحثون عن منظور إســتراتيجي أقل عناء وأكثر غناء من أنماط الحروب التي قادتهم إليها نظرياتهم العســكرية المتوارثة منذ القرن التاســع عشر، وأهمها نظريات المفكر العسكري البروسي، كارل كلاوس )، التي تنحو منحى المصادمة والتدمير، ولا تهتم 1831 - 1780 ( ) Clausewitz فيتز (( كثيرًًا بالمناورة والالتفاف، والاقتصاد في الدماء والدمار. لقــد وجد الغربيون ضالتهم في كتاب صــن تزو فن الحرب، ويرجع الفضل الأكبر ،) 1970 - 1895 ( ) Liddell Hart في ذلك للمفكر العسكري البريطاني، ليدل هارت ( الذي ســو ََّق الكتاب لدى الأوســاط الإســتراتيجية الغربية، وتبنََّى عددًًا من مقولاته ، وهي " المقاربة غير المباشــرة " الأساســية. وبإلهام من صن تزو صاغ هارت فكرة ينبغي " من أهم إسهاماته في الفكر الإستراتيجي. وخلاصة هذه الإستراتيجية هي أنه على المرء -كقاعدة عامة- أن يضرب ضد أكثر نقاط العدو ضعفًًا، وليس ضد أقوى . وهذه فكرة مستمدة من صن تزو، على نحو ما سنبينه فيما بعد تحت )45( " حصونه . " اضرب الخواصر الرخوة " عنوان: وفي تقديمه لترجمة غريفيث الإنكليزية، وصف ليدل هارت كتاب صن تزو بأنه من أقدم الكتب في فن الحرب، وبأنه لم يوجد نص استطاع تجاوزه في العمق والشمول.

| 24

كما ذهب هارت إلى أن النص الذي ربما يداني صن تزو في هذا المضمار هو كتاب ، لكن كتاب صن تزو يفوقه، رغم أنه مكتوب فن الحرب كلاوس فيتز بالعنوان ذاته: يمتــاز صن تزو برؤية أوضح، ونظرة أعمق، وبطراوة " قبلــه بأكثر من ألفي عام؛ إذ . )46( " أبدية ولا يزال المفكرون الإستراتيجيون والقادة العسكريون في الغرب يتبارون في تمجيد Robert هذا الكتيب الصيني العتيق. فالمفكر الإستراتيجي الأميركي، روبرت غرين ( إن أعظم مفكر إستراتيجي في كل العصور هو صن تزو من دون " )، يقول: Greene )، قائد القوات David Petraeus ، والجنرال الأميركي ديفيد بترايــوس ( )47( " ريــب ، CIA الأميركية في العراق وأفغانستان والمدير السابق لوكالة الاستخبارات الأميركية ويذهب إلى أن كتابه " سابق لزمانه، وفكره لا يزال صحيح ًًا حتى اليوم، " يصفه بأنه . )48( " لا يزال محافظًًا على أهميته كما كان وقت كتابته " ست وثلاثون إستراتيجية لصن تزو، فن الحــرب كل مــا قدمنــاه مــن مقدمات حتــى الآن يتركز على كتاب وهو النص الأساســي المســتهدف بالتحليل في هذه الدراســة، بيد أن النص الثاني: نص مهم أيض ًًا، وهو نص مجهول المؤلف كما " الإســتراتيجيات الست والثلاثون " أســلفنا. وقد ذهب المؤرخون مذاهب شــتى في التخمين بشــأن مؤلفه، فمنهم من نسبه إلى صن تزو نفسه، ومنهم من نسبه للقائد العسكري الصيني، تان داوْْجي (ت م)، دون إثبات تاريخي في الحالتين. 436 وقد ورد أول ذكر للإستراتيجيات الست والثلاثين في نص صيني يرجع تاريخه للقرن الســادس الميلادي، ثم أصبحت هذه الإســتراتيجيات متداولة بين النخب السياسية )، أخرى الإمبراطوريات الصينية 1911 - 1644 والعســكرية خلال إمبراطورية شــينغ ( الكبرى التي انهارت تحت وطأة الاستعمار البريطاني أواسط القرن التاسع عشر، ثم الفن السري للحرب: الياباني مطالع القرن العشرين. وكان النص معروفًًا آنذاك باسم: الإستراتيجيات الست والثلاثون. . 1941 تعتمد الطبعات والترجمات المعاصرة لهذا النص على مخطوط مكتشف عام أما من حيث البنية والمضامين، فإن الإســتراتيجيات الســت والثلاثين هي مجموعة

25 |

مقولات تشبه الأمثال والأقوال السائرة، صيغت بأسلوب كثيف، بحيث لا تتجاوز أي منها جملة أو جملتين، وترشد كل منها إلى مكيدة من المكائد العسكرية والسياسية الفعالة. وقد قسمها مؤلفها -أو محررها- إلى ستة أقسام يشمل كل قسم منها ست إستراتيجيات، تختلف عن غيرها باختلاف السياق المناسب لتطبيقها، وهي:

- الإستراتيجيات المناسبة عند رجحان ميزان القوة لصالحك. - الإستراتيجيات المناسبة لمصادمة العدو مصادمة مباشرة. - الإستراتيجيات المناسبة لمهاجمة العدو بمبادرة وقرار منك. - الإستراتيجيات المناسبة لظروف الاضطراب والالتباس. - الإستراتيجيات المناسبة لانتزاع مواقع جديدة من العدو. - الإستراتيجيات المناسبة لحالات الاختلال الميؤوس منها.

وتوجد اليوم عدة ترجمات إنكليزية لنص الإستراتيجيات الست والثلاثين، من أحسنها )، وهي Stefan H. Verstappen صياغة ترجمة الأكاديمي الكندي ستيفان فرسْْتابن ( مشــفوعة بشــروح من المترجم، ونماذج تاريخية تطبيقية انتقاها من التاريخ الصيني . وتوجد ترجمات )49( واليابانــي، وهــي الترجمة التي نعتمدهــا في هذه الدراســة وترجمة ويليام )50( ) Peter Taylor إنكليزيــة أخــرى، منها ترجمة بيتــر تايلــور ( وهي منقولة عن ترجمة وشرح ياباني، بقلم هيروشو ،) William Wilson( ويلسون . وعن ترجمة ويلسون صدرت ترجمة فرنسية بقلم )51( ) Hiroshi Moriya موريا ( . أما اللغة العربية فلم )52( ) Josette Nickels-Grolier الباحثــة، جوزيت غروليــي ( نجد من ترجم الإســتراتيجيات الســت والثلاثين إليها، ســوى رؤوف شبايك الذي ألحقهــا بترجمتــه لكتاب صن تزو، لكــن ترجمته للنصين ضعيفــة الصياغة، تظهر الأخطــاء اللغويــة من صفحتها الأولى، صفحة الإهداء! لذلــك آثرنا اعتماد ترجمة بعض أشد المكائد " سـْتابن الإنكليزية. وتتضمن الإستراتيجيات الست والثلاثون � فر ، كما لاحظ فرسْْتابن الذي يرى أن العديد من )53( " الحربية وأخفاها على الإطلاق الحيل الحربية المعاصرة لها جذور في هذه المكائد الصينية.

| 26

لباب النصين ورسالتهما يوجد تداخل بين مضامين الفصول الثلاثة عشر التي يتألف منها كتاب صن تزو، كما ا عن يوجد تداخل بين المعاني المعبََّر عنها في الإستراتيجيات الست والثلاثين، فضلًا أوجه الشــبه بين مضامين النصين. ولا عجب في ذلك، فهما ثمرة من ثمار تشــكل ثقافي واحد، هو الحضارة الصينية وتقاليدها السياسية والعسكرية. ويعين هذا التداخل على ضم أفكار بعضها لبعض في شــكل خطــوط عريضة بارزة. ولذلك عمدنا هنا ا من اســتعراض إلى اســتخلاص لباب النصين بالتركيز على مضامينهما الكبرى بدلًا أفكارهما استعراض ًًا خيطيًًّا. وقد تجاهلنا ما ورد في كتاب صن تزو من التفصيلات الفنية ذات الصلة بأعداد الجيوش، وأنماط الأسلحة التي كانت مستخدمة في الصين القديمة، لأنها أمور تنتمي لعصر مضى وانقضى. لقد استنبطنا من النصين ما اعتبرناه مبادئ إستراتيجية عامة، صغنا جلها بلغتنا الخاصة، لأن أغلبهــا لــم يرد في النصين بلفظه، لكــن معانيها مبثوثة -صراحة أو ضمنًًا- في ثناياهما. وقد دلََّلنا على كل من هذه المبادئ باقتباســات من النصين، وأبرزنا شــيئا مــن دلالاتهــا بما يقر ِِّبهــا أكثر إلى ذهن القارئ المعاصر، وعضدنــا أحيانًًا ما ذكره صن تزو بكلام بعض شــراحه الصينيين الأقدمين، أو بنصوص من الإســتراتيجيات الست والثلاثين، إذا حصل تشابه في المعنى بين هذه النصوص. وقد نفتتح التأصيل للمبدأ الإســتراتيجي بنص من الإســتراتيجيات الست والثلاثين ابتداءًً، إذا كان معناه فيها أوضح وأبرز، ثم نعضده بما ذكره صن تزو وشراحه عن ذلك المبدأ. ولابد من التأكيد هنا على أن أهمية هذه المبادئ لا تقتصر على الشؤون العسكرية، بل هي مبادئ إســتراتيجية عامة، يمكن تطبيقها في الحرب، كما يمكن تطبيقها في الســلم، خصوص ًًا في عالم الأعمال، والسياسة، والإعلام، والثقافة، بل وسائر أنماط الحياة البشــرية المبنية على المدافعة والصراع. ولعل أحد مترجمي كتاب صن تزو ا ًا بدل )54( فن الإستراتيجية إلى الإنكليزية استصحب هذا المعنى، فآثر ترجمته بعنوان ومثله شارح الإستراتيجيات الست والثلاثين، الياباني فن الحرب. من عنوانه الأصلي: دليل النصوص الكلاسيكية الصينية " هيروشي موريا، الذي وضع له عنوانًًا فرعيًًّا هو: . )55( " الحرب والأعمال والحياة إلى النجاح في

27 |

ونظرًًا لكثافة الاقتباسات من نص تزو فيما يلي من هذه الدراسة، وأن أشهر طبعات كتابه -ومنها ترجمة غريفيث التي نرجع إليها هنا- مرقمة الفقرات، فسنكتفي بالإشارة عند نهاية كل اقتباس من كتاب صن تزو بإحالة مختصرة داخل متن الدراسة على رقم الفصل (فص) والفقرة (فق) من الكتاب، تجنبًًا لتشــتيت ذهن القارئ بكثرة الرجوع للهوامش. ومثل ذلك فعلناه في الاقتباس من نص الإســتراتيجيات الست والثلاثين، فقد اكتفينا بذكر رقم الإستراتيجية، إعفاء للقارئ من الرجوع المتكرر إلى الهوامش. فكل طبعات هذا النص مرقمة الفقرات، بما فيها ترجمة ستيفان فرس ْْتابن التي نقتبس منها هذه النصوص. وبعد هذا التطواف الطويل في الســياق التاريخي، نتجه الآن إلى استكشــاف لباب هذين النصين، وما اكتنزاه من بذور الفكر الإستراتيجي وجذوره في الحضارة الصينية العتيقة. . انْْتق حروبك بعناية 1 إن أول المبــادئ الإســتراتيجية التي يوصي بها صن تــزو هو أخذ قرار الحرب بما يستحقه من جد وروية وتأمل في العواقب، ففي أولى الجمل الافتتاحية لكتابه يقول إن الحرب قضية ذات أهمية حيوية للدولــة. فهي طريق إلى البقاء أو " صــن تــزو: ). ذلك أن 1 ، فق 1 (فص " الفناء، الازدهار أو الاندثار، ولذلك تتعين دراســتها بعمق دخول الحرب أمر سهل، لكن كسبها ليس كذلك، ولا شيء أكبر ضررًًا وأعظم خطرًًا على الدول والمجتمعات من استسهال أمر الحرب، والتهور في الاندفاع إليها، دون إدراك كاف لعواقبها المدمرة، وتفكير عميق في ثمارها المريرة. ولذلك يوصي صن )، وبناء على رؤية 17 ، فق 12 (فص " لا تتصرف إلا لتحقيق مصلحة الدولة " تزو بأن إذا لم تكن قادرًًا " موضوعية لحقيقة الخطر الداهم، مع التأكد من الظفر على العدو: .) 17 ، فق 12 (فص " على الظفر فلا تستخدم قواتك، وإذا لم تكن في خطر فلا تقاتل وتزداد قيمة هذا المبدأ في حالة الدول الصاعدة التي يتربص أعداؤها بها، ويسعون لتهشيمها في عنق الزجاجة، قبل أن تستكمل بناء قوتها، وتحقق كامل منْْعتها. وهذا ا، وغاب عن بعض الدول العربية. ففي أمر استوعبته الصين المعاصرة استيعابًًا كاملًا العلاقة المعقدة بين القوة الصاعدة والقوة الســائدة، يحتاج قادة القوة الصاعدة إلى

| 28

قدر كبير من الحكمة السياسية، والصبر الإستراتيجي، وطول النََّفََس، والسكوت على ما لا يسر، والتنازل عن المكاسب الصغيرة، وتجنب الصدام السابق لأوانه.. من أجل ولذلك " اســتكمال أســباب الصعود، وحرمان الأعداء من أي ذريعة لوأد المسيرة: فإن الحاكم المتبصر متأن، والقائد الجيد حذر من التسرع، وبذلك تظل الدولة آمنةًً، .) 19 ، فق 12 (فص " ويظل جيشها مصونًًا وحاصــل هــذا المبدأ أن أخطر ما في الحــرب هو قرار الحرب، ومن هنا يلح صن " من يعرف متى يســتطيع القتال، ومتى لا يســتطيع القتال، ســينتصر " تزو على أن ). أما من يخوض الحرب دون حساب دقيق واستشراف عميق لمآلات 25 ، فق 3 (فص الحرب فهو يقفز في الظلام، ويسبح في دماء شعبه باستهتار، وهو لا يستحق موقع الصدارة والقيادة في أي جماعة بشرية راشدة. فانْْتق حروبك بحكمة، ورتب العداوات والصداقات بدقة، واحذر من الانجرار إلى حروب الوكالة، والحروب السابقة لأوانها، والمتأخرة عنه. . الأذهان قبل الميدان 2 مــن أهم ما يميز الفكر الإســتراتيجي لدى صن تــزو هو إدراكه أن الحرب تخاض فــي الأذهــان قبل أن تخاض في الميدان، وأن هزيمة العدو في المعركة الذهنية هي المفتاح للانتصار عليه في المعركة الميدانية. فالهََم الأهم لصن تزو هو وجود صفة الفطنة والذكاء في القائد، بحيث لا يحكم على الأمور بالظواهر والبدائه التي يدركها توقع النصر حين يكون عامة الناس قادرين على توقعه " غيره، وهو في ذلك يقول: ا على قمة البراعة... وتمييز الشمس من القمر ليس علامة على حدة النظر، ليس دليلًا ). وإنما يتميز 9 - 8 ، فق 4 (فص " ا على حدة الســمع وســماع صوت الرعد ليس دليلًا القائد على غيره بسبر أغوار الظواهر، والغوص على خبايا الأمور، واستنباط ما وراء ذلك. فليس كل الناس مؤهلين للفهم الدقيق والاستنباط العميق، والأصل أن يكون القادة ا لموقع القيادة، فقد تنتج عن ذلك أصناف ا لذلــك. أمــا إذا لم يكن القــادة أهلًا أهل ًا مــن الجهــالات المهلكة للجيوش والدول، تحدث صــن تزو عن ثلاثة منها، فقال:

29 |

توجد ثلاث طرائق يمكن للقائد أن يجلب بها الدمار لجيشــه، وهي: حين يجهل " أن على الجيش ألا يتقدم ثم يأمره بالتقدم، وحين يجهل أن على الجيش ألا ينسحب ثم يأمره بالانســحاب، وهذا يســمى إصابة الجيش بالعرج. وحين يشــارك في إدارة الشؤون العسكرية وهو جاهل بها، فهذا يوقع ضباط الجيش في الحيرة. وحين يجهل معضلات القيادة، ثم يشارك في تحمل هذه المسؤولية، فهذا أمر يثير الريبة في أذهان .) 22 - 19 ، فق 3 (فص " ضباط الجيش القادة العســكريين المتمرســين الذين لا يتدخل الملك " وقد ذهب صن تزو إلى أن إن بعض أوامر " )، بل ذهب إلى حد القول: 29 ، فق 3 (فص " في قراراتهم ينتصرون ا من القيادة السياسية فيما لا ) إذا كانت تدخلًا 8 ، فق 8 (فص " الملك يجب ألا تطاع ا : تحســنه من أمر الحرب. وعلق على ذلك أحد شــراح صن تزو، وهو شيا لين قائلًا إن إقدام الجيش وإحجامه [في ســاحة الحرب] يخضع لإرادة القائد العســكري، " طبقا للظروف الســائدة، وأسوأ الشرور في هذا السياق هي صدور الأوامر من بلاط .) 19 ، فق 3 (فص " رأس الدولة ويذك ِِّرنــا هــذا الأمــر بالجدل بين القادة السياســيين والعســكريين حــول قرارات )، المتضاربة بشــأن تقدم 1981 - 1918 الرئيــس المصــري، محمد أنور الســادات ( الجيــش المصــري من الضفة الشــرقية للقناة إلى المضايق في صحراء ســيناء أثناء ، وتــردده المهلك بين رفــض التقدم حيــن كانت الظروف 1973 حــرب رمضــان مواتيــة، والإصــرار على التقــدم بعد أن ضاعت فرصته، وقد تــم تبرير عدم التقدم فــي البدايــة بالحاجــة لإبقاء القــوات المصرية تحــت حماية حائــط الصواريخ، ــمن الطــيران المعادي، ثم ــجرى تبرير التــقدم في وقت لاحق، حينما حــشدت إسرائيل قواتها في سيناء، بالحاجة إلى تخفيف الضغط عن الجبهة السورية، ومع ذلك، لم يخدم في القوات " فقد فسر بعض نقاد السادات الأمر بجهله بشؤون الحرب، لأنه . )56( " المســلحة سوى ثلاث ســنوات، وهو برتبة الملازم والنقيب في الأربعينيات وهنا تظهر مساوئ الجهل بمعادلة الإحجام والإقدام الذي حذر منها صن تزو، كما تظهر مخاطر الجانب الذهني من الحرب الذي منحه رجحانًًا على غيره.

| 30

ويرتــب صن تزو مســتويات المعرفة التي تتحكم في مصائــر الصراع، فيضعها في مراتــب ثلاث: معرفــة النفس والعــدو كليهما، ومعرفة النفــس دون معرفة العدو، ومعرفــة العــدو دون معرفة النفس، ثــم يرتب على ذلك نتائجــه المنطقية، فيقول: اعرف العدو، واعرف نفســك، تتجنب المهالك، حتى ولو خضت مئة معركة. إذا " ا بالعدو، عارفًًا بنفسك، فإن حظوظك في الفوز والخسارة متساوية. أما إذا كنت جاهلًا .) 33 - 31 ، فق 3 (فص " ا بالعدو وبنفسك، فإنك ستخسر كل المعارك يقينًًا كنت جاهلًا ويعلق شــارحه لي شــوان على هذا الصنف الأخير الجاهل بنفسه وبالعدو، فيقول: .) 33 ، فق 3 (فص " هؤلاء عصابات من الحمقى، فما الذي يتوقعونه غير الهزيمة؟! " وأعلى مراتب التفوق المعرفي هي التي تقود إلى الانتصار دون قتال، وتلك هي قمة إن الفوز بمئة انتصار في مئة معركة ليس قمة " البراعة الإستراتيجية. يقول صن تزو: ). وقد أشــار 3 ، فق 3 (فص " البراعــة. إنمــا قمة البراعة هي إخضاع العدو دون قتال م)، إلى هذا المعنى بقوله: 1188 - 1095 ه/ 584 - 488 الفارس الأمير، أسامة بن منقذ ( . ولا )57( " ا أحزم الملوك من لم يلتمس الأمر بالقتال، وهو يجد إلى غير القتال سبيلًا " يتحقق هذا النمط من الظفر السلمي إلا بمعرفة عميقة بالخصم، كما يقول صن تزو: المعرفة الســابقة بالعدو هي السر في أن الأمير المتبصر والقائد العسكري الحكيم " .) 3 ، فق 13 (فص " ا، وأن إنجازهما يفوق إنجاز غيرهما يهزمان العدو حيثما حلَّا ولأن صراع الأذهان أهم من صراع الميدان وأسبق، فإن المتوفق في معرفة عدوه وفي التحــوط من معرفة عــدوه به، هو الذي ينتصر في الحرب عادة. وهنا تتقاطع أفكار أول العمل في الحرب، ورأس التدبير فيها، " صن تزو مع أفكار الهرثمي؛ إذ يقول: ، بل إن المتفوق ذهنيًًّا )58( " ألا يظهر عدوك على عوراتك، ولا تسْْتتر عنك عوراته الجيش المحكوم له " ليضمن الانتصار في الحرب قبل خوضها، كما يقول صن تزو: ا ، بالنصر ينتصر قبل خوض المعركة، أما الجيش المحكوم عليه بالهزيمة فيقاتل أولًا ). وإلى هذه الحكمة التي تؤكد رجحان 14 ، فــق 4 (فص " ثــم يأمل الظفر بعد ذلك أضعف حيل الحرب " حرب الأذهان على حرب الميدان أشار أسامة بن منقذ بقوله: . )59( " اللقاء

31 |

. لا تكن أحمق شجاع ًًا 3 فإذا كان استســهال أمر الحرب خطرًًا عظيمًًا، فيســتلزم ذلك التفكير في شــأنها بدم بــارد، بعيــدًًا عن التهور. فقرار الحرب ليس مما يصلح فيه الارتجال، ولا أن يتولاه الهــواة، أو يُُتخــذ على عجــل. بل يجب أن يصاغ بناء على تأمــل وتدبر ونظر في العواقــب، لأن كل تعجل فيه على غيــر هدى فهو مهلكة للدول والأمم والأوطان. ويكفي من مركزية هذه الفكرة لدى صن تزو أنه ضمنها الجملة الافتتاحية من كتابه إن الحرب قضية ذات أهمية حيوية للدولة؛ فهي طريق إلى " التي أوردناها من قبل: ). ولا يفتأ صن تزو يحذر من 1 ، فق 1 (فص " البقــاء أو الفنــاء، الازدهار أو الاندثار التهور في خوض الحرب، وهذا أمر يتفق معه فيه المنظ ِِّرون العسكريون المسلمون؛ اطلب الأناة ما استقامت لك، واقبل العافية ما وُُهبت لك. " ا - يقول: فالهرثمي -مثلًا ا. لا تسأمن مطاولة عدوك، فإن في ولا تعجل إلى اللقاء ما وجدت إلى الحيلة سبيلًا . )60( " الأناة انتظار إمكان فرصة، وظفرًًا من عدو بعورة كما يؤكد شــراح صن تزو الصينيون القدماء على هذا المعنى، فشــارحه تو مو يعلق " القائد الأحمق الشــجاع مصيبة " علــى تحذيرات صن تزو مــن التهور بالقول إن ). ثم يبين تو مو العواقب الوخيمة المترتبة على هذا النمط من القيادة 18 ، فق 8 (فص غير المتزنة، لأنها تتسم بالانفعال، ويتحكم فيها الارتجال، وتورد شعوبها المهالك، فما الفرق بين هذا التصرف وسوْْق الناس الأبرياء إلى الماء الذي يغلي أو " فيقول: ؟ (فص " إلى النار؟ ألا يشبه هذا بالضبط جلْْب البقر والغنم لإطعام الذئاب والنمور .) 14 ، فق 4 وتذكِِّرنا الحكمة الصينية في هذا المضمار بقول الخليفة عمر بن الخطاب لسليط بن لولا عجلة فيك لََوََلََّيْْتُُك، ولكن الحرب زبون لا يص ْْلح لها إلا " عمــرو الأنصــاري: وحرب زبون: تزبن الناس، " " رجل مكيث: أي رزيــن، " ، و )61( " الرجــل المكيث عليكم في " . كما تذكِِّرنا بقول المهلب بن أبي صفرة: )62( " أي تص ْْدمهــم وتدْْفعهم ، وبقول الشــاعر أبي الطيب )63( " الحرب بالأناة والمكيدة، فإنها أنفع من الشــجاعة المتنبي:

| 32

هو أول وهْْي المحل الثاني بالرأي قبل تطاعن الأقران

الرأي قبل شجاعة الشجعان

ـه ـــــــ ولربما طعن الفتى أقران الشــجاعة إذا لم تص ْْــدر عن عقل أتــت على صاحبها " ومعنــى البيــت الأول أن قد طعن أقرانه بالمكيدة، ولط ْْف " ، أمــا البيت الثاني فمعناه أن الفتى )64( " فأهلكتــه

. )65( " التدبير، ودقة الرأي . خذ الوقائع ودع الرغائب 4

يدعــو صن تزو إلى بناء الخطط الإســتراتيجية على المعطيــات الصلبة التي بيدك، من مبادئ الحرب ألا " لا علــى الأماني حول أمور يرجــع قرارها للخصم، فيقول: تفترض عدم قدوم العدو، بل أن تعتمد على استعدادك للقائه حين يأتي. وألا تفترض ). فما 16 ، فق 8 (فص " أن العدو لن يهاجم، بل أن تجعل نفسك حصينًًا أمام هجومه يعو ِِّل عليه القائد ذو الحاسة الإستراتيجية ليس ما قد يفعله العدو تخمينًًا، بل ما يفعله حصانتك الدفاعية ترجع إليك، أما وجود ثغرات " نـ ًا. وكما يقول صن تزو: � هــو يقي .) 5 ، فق 4 (فص " في صف العدو فهو أمر يرجع إلى العدو وهنــا يكون صــن تزو قد بذر البــذور الأولى لمبدأ إســتراتيجي معاصر، هو مبدأ وهو مصطلح جديد نســبيًًّا، بدأ اســتخدامه في Net Assessment " التقييم الصافي " سبعينات القرن العشرين لدى باحثين أميركيين. والمقصود بمصطلح التقييم الصافي هــو التقييــم الموضوعي المتجرد مــن الرغائب والأماني لعناصــر القوة والضعف لديــك ولــدى الخصم. لكن المفهوم الذي يعبِِّر عنــه هذا المصطلح ليس بالجديد، فقــد ورد معناه في صدارة كتاب صن تــزو الذي خصص الفصل الأول منه لعملية التقييم الأولي للوضع، وحساب عناصر القوة والضعف، قبل خوض أي صراع. وقد بحثًًا- لصن تزو " التقييم الصافي " اعترف الباحثون الأميركيون -ممن أشبعوا مفهوم . فالفكرة الرئيسية لذلك )66( بفضل السبق إليه، خصوص ًًا في الفصل الأول من كتابه الفصــل هــي ضرورة التقييم الدقيق لعوامل القوة والضعف، والتفكير في مســارات الأمور ومآلاتها، وعدم الانسياق وراء أي خيار إلا إذا تبينت سبل الظفر فيه راجحة واضحة.

33 |

ويدخــل مبــدأ التقييم الصافي ضمن إلحاح صن تزو على ضرورة الجمع بين معرفة النفس ومعرفة العدو. لكنه يتجاوز هنا ذلك الإجمال إلى شيء من التفصيل، فيذهب إلــى وجــود نوعين من العوامل لــكل منهما أثره الخاص، وهــي العوامل التي في صالحك، وتلك التي ليست في صالحك، ويلح على وجوب أخذ كل من الصنفين يســتطيع جعْْل خططه قابلة للتنفيذ إذا أخذ العوامل " في الاعتبار، فيقول: إن القائد التــي في صالحه بالاعتبار. ويســتطيع تجــاوز العوائق إذا أخذ العوامل التي في غير ). ولعل أكثر ما شاب الحروب العربية المعاصرة هو 13 ، فق 8 (فص " صالحه بالاعتبار عدم الدقة في التقييم الصافي عند بدء تلك الحروب؛ حيث ترجع أســباب الخسارة إلى ترجيح الرغائب على الوقائع في قرار الحرب وفي إدارتها، وعدم صياغة الخطط على أساس من المعطيات الصلبة والتقييم الصافي. . اكسب دون أن تغلب 5 شـًا إلى ســفك الدماء وهدم الممتلكات، ولا كانت هزيمة � لم يكن صن تزو متعط الخصم غاية في ذاتها بالنسبة له، بل كان يميل إلى أن كسب العدو أفضل من كس ْْره. وهــو يــرى أنك يمكن أن تكســب دون أن تغلب، فليســت الغاية إذلال العدو، بل س ـْب المنهزم إلى صف المنتصر يزيد من قوة المنتصر، � تحقيق الأهداف. كما أن ك ويمحــو مــا تزرعه الحرب في النفوس من الأحقاد المترســبة، وبذلك يكون النصر مثمرًًا، وذا أثر باق، لا مجرد جولة ظرفية من حرب أبدية. وربما يفســر هذا النمط مــن التعامل الحكيم مع المنهزمين عمق الأثر الإيجابي الباقي للفتوحات الإسلامية الأولى، بخلاف الغزوات المغولية العاصفة التي اجتاحت العالم، لكنها لم تترك أثرًًا باقيًًا يُُذكر. يجب أن تكون غايتك هي السيطرة على كل ما تحت السماء كما " يقول صن تزو: هو، وبذلك تتجنب استنزاف قواتك، وتكون مكاسبك كاملة. هذا هو فن الإستراتيجية ). وهو ينصح باســتخدام الوســائل السياسية والدبلوماسية 11 ، فق 3 (فص " الهجومية والنفسية، لإخضاع العدو وكسب الخصم، دون حاجة إلى مواجهة دموية معه، ما كان فإن المتمرسين بالحرب يُُخضعون عدوهم دون قتال، ويستولون على " ذلك ممكنًًا: ، 3 (فص " مدنه دون هجوم عليها، ويُُســقطون دولته دون عمليات اســتنزاف متطاولة ). فإذا تعينت الحرب فلتكن سريعة خاطفة، خفيفة الثمن، قصيرة الزمن. 10 فق

Page 1 Page 2 Page 3 Page 4 Page 5 Page 6 Page 7 Page 8 Page 9 Page 10 Page 11 Page 12 Page 13 Page 14 Page 15 Page 16 Page 17 Page 18 Page 19 Page 20 Page 21 Page 22 Page 23 Page 24 Page 25 Page 26 Page 27 Page 28 Page 29 Page 30 Page 31 Page 32 Page 33 Page 34 Page 35 Page 36 Page 37 Page 38 Page 39 Page 40 Page 41 Page 42 Page 43 Page 44 Page 45 Page 46 Page 47 Page 48 Page 49 Page 50 Page 51 Page 52 Page 53 Page 54 Page 55 Page 56 Page 57 Page 58 Page 59 Page 60 Page 61 Page 62 Page 63 Page 64 Page 65 Page 66 Page 67 Page 68 Page 69 Page 70 Page 71 Page 72 Page 73 Page 74 Page 75 Page 76 Page 77 Page 78 Page 79 Page 80 Page 81 Page 82 Page 83 Page 84 Page 85 Page 86 Page 87 Page 88 Page 89 Page 90 Page 91 Page 92 Page 93 Page 94 Page 95 Page 96 Page 97 Page 98 Page 99 Page 100 Page 101 Page 102 Page 103 Page 104 Page 105 Page 106 Page 107 Page 108 Page 109 Page 110 Page 111 Page 112 Page 113 Page 114 Page 115 Page 116 Page 117 Page 118 Page 119 Page 120 Page 121 Page 122 Page 123 Page 124 Page 125 Page 126 Page 127 Page 128 Page 129 Page 130 Page 131 Page 132 Page 133 Page 134 Page 135 Page 136 Page 137 Page 138 Page 139 Page 140 Page 141 Page 142 Page 143 Page 144 Page 145 Page 146 Page 147 Page 148 Page 149 Page 150 Page 151 Page 152 Page 153 Page 154 Page 155 Page 156 Page 157 Page 158 Page 159 Page 160 Page 161 Page 162 Page 163 Page 164 Page 165 Page 166 Page 167 Page 168 Page 169 Page 170 Page 171 Page 172 Page 173 Page 174 Page 175 Page 176 Page 177 Page 178 Page 179 Page 180 Page 181 Page 182 Page 183 Page 184 Page 185 Page 186 Page 187 Page 188 Page 189 Page 190 Page 191 Page 192 Page 193 Page 194 Page 195 Page 196 Page 197 Page 198 Page 199 Page 200

Made with FlippingBook Online newsletter