AJ 25th Book.

حقل التجارب النووية

-جميعها بلا استثناء. تنهد الدكتور فرحات واختفت ابتسامته، وبعد برهة تابع قائلا: التلوث النووي في كل مكان، في الهواء والماء والتربة. لا يمكن أن تمحى آثاره على مدى خمسمئة عام على الأقل. أخذني الدكتور من يدي كمن يقود طفلا تائها في مشهد مرعب، وأدخلني إحدى غرف النزلاء. -تعال لأعرفك على أشهر نزيل لدينا. في زاوية الغرفة، تمدد رجل يتأمل في نافذة مطلة على سريره، كان من الصعب عليّ تحديد عمره. كان الرجل مشوه اليدين والقدميين، أحدب الظهر، وجنتاه بارزتان بشكل كبير، وكذلك الحال مع صدغه الأيمن، واعتلت رأسه قلنسوة تقليدية كازاخية. اقتربت من المريض موجها التحية:

حقل التجارب النووية مدير مكتب الجزيرة في روسيا | زاور شوج

-الزازيرة؟ سألنا مبستما بوجه تغمره السعادة كعادة كل الكازاخيين حين يستقبلون الضيوف. -ربما تقصد الجزيرة؟ أجبته بود. إنه الدكتور فرحات، وهو مدير المستشفى الوحيد في هذه المنطقة، مستشفى أغلب نزلائه ضحايا التجارب النووية السوفيتية التي أجريت على مدى أربعة عقود في مقاطعة سيميبالاتنسك شمالي كازاخستان. أقنعت الدكتور فرحات، بعد جهد كبير، باختصار طقوس الضيافة المتبعة لدى الكازاخيين، وبدأنا جولتنا داخل المستشفى ومعها بدأت مشاهد الصدمة. ليست وحدها الغرف كانت مكتظة بالمرضى، الأسرة بنزلائها انتشرت على طرفي ممرات المستشفى بطوابقه الثلاثة. معوقون خلقيا وجسديا في كل مكان. صرخات تخرج بين الحين والآخر لمرضى يطلبون مسكنات تخفف من آلامهم. صدمني المشهد، وأدرك الدكتور فرحات أنه حان الوقت للشرح. -جميع المرضى هنا مصابون بأمراض السرطان المختلفة أو بالتشوهات الخلقية والجسدية. أما المرضى النفسيون فليست لدينا القدرة على استيعابهم هنا وهم كثر في هذه البلدة ومحيطها. -وهل جميع الإصابات ناتجة عن آثار التجارب النووية؟ سألت الدكتور فرحات.

كبقعة ضوء في قلب هاوية مظلمة، تشق سيارتنا وحيدة بأنوارها الباهتة وحشة براري شمالي كازاخستان التي تبدو بلا نهاية. أربع ساعات من السفر المتواصل عبر طرق ترابية وعرة، لم نر خلالها أي سيارة أخرى أو عابر طريق. ومع بزوغ الفجر، وصلت سيارتنا مشارف بلدة قاينار التي لا تختلف بشيء عن قرى وبلدات كازاخستان الأخرى؛ بيوت من الطوب، أسقفها ألواح زنكية، بعض البيوت محاط بأسوار خشبية منخفضة مائلة بفعل الرياح والزمن. في ساحة البلدة الرئيسية الصغيرة ينتصب بناء قديم مكون من ثلاثة طوابق طليت جدرانه الخارجية بالكلس الأبيض. إنه مستشفى البلدة، وهو وجهتنا وهدفنا. وقفت في وسط ساحة البلدة محاولا تفحص المكان الخالي من أي حركة. هدوء ثقيل وكأن أهالي البلدة هجروها قبل وصولنا بساعات. خرق الهدوء ضجيج بضعة جمال قادمة من أحد الطرقات الفرعية متوجهة عبر ساحة القرية نحو مراعيها. مشهد مألوف، كثيرا ما تصادفه في القرى الكازاخية. من داخل المستشفى خرج باتجاهنا رجل لفتت انتباهي جثته الضخمة وشارباه وثلاث أسنان ذهبية لمعت حين ابتسم مرحبا بنا بود كبير.

125

124

Made with FlippingBook Online newsletter