الصحافة التي تقاسمك الحياة وحقيبة السفر
الجأش، وأعتقدُ أن سنوات طويلة من التعامل مع أكثر الوقائع والأحداث دراميّة وتأثيرا، مع تجربة مهنية ممتدة أنتجت خلالها مئات القصص الخبرية في الجزيرة أو من الميدان، هي التي ساعدت على تبديد لحظات الجزع وبدلت الحيرة بقرار أن أكون صحفيّة في اللحظة التي كان يمكن أن أكون فيها فقط سائحةً عالقةً في بلد استيقظ على إحدى أكبر الهجمات الإرهابية في تاريخه. يتذكر الزملاء في غرفة الأخبار، وتحديدا منتجي النشرات والمقابلات، ، تلك التغطية التي 2016 في صباح يوم الثاني والعشرين من مارس انطلقت بموبايل، لتصبح بعد أسبوع إحدى أهم التغطيات الخبرية على شاشة الجزيرة. أتذكر ذلك بفخر واعتزاز، فقد كانت أياماً من أثمن ما يمكن أن يعيشه صحفيّ في ميدان حدثٍ متفاعلٍ تتلاحق معطياته، فأن يحكي الصحفي قصّةً تتشكلُ أمامه، وأن يعيش تطوراتها بمزيج من التركيز والتوتر والحذر. كان ذلك فعلا ما يحلم به أي صحفيّ ميداني. غير أنني صبيحة ذلك اليوم كنت سائحةً بموبايل في جيب وجواز سفر في الجيب الآخر. كانت بروكسل بالنسبة لي ولزوجي محطة بين أكثر من مدينة في سفرة خططنا لها لتكون فرصةً للراحة بعيدا عن يوميات العمل. وصلنا قبل ليلة إلى بروكسل قادمين من مدينة بروج في الريف البلجيكي، وكان مقررا أن يكون يوم الثلاثاء بداية خطتنا لاكتشاف عاصمة الاتحاد الأوروبي وسحرها، لكن اتصالا هاتفيا من شقيقتي في لبنان هو ما أيقظنا، وكانت تستفسر بخوف كبير عن حالتنا، ومنها عرفنا بأن سلسلة تفجيرات هزت مطار بروكسل.
الصحافة التي تقاسمك الحياة وحقيبة السفر مذيعة في قناة الجزيرة الإخبارية | رانيه حلبي
أدرك أن الصحافة ليست التزاما مهنيّا مقيداً بساعات دوام يومي، وأتعايش منذ زمان مع فكرة أن العمل الصحفي في قناة مثل الجزيرة يعني السماح لذلك الشغف بأن يأخذ نصيباً من حياتك الخاصة، ويشغل حيزا من اهتماماتك ويومياتك. تتسلل عناوين الأخبار وما تجره وراءها من أسئلة وأفكار حتى إلى طاولة الطعام، وتتداخل الأحداث مع الحوارات بين أفراد العائلة. كنت أعيش ذلك منذ سنوات عملي الأولى في لبنان، فقد نشأت في بيئة عائلية تهتم بالأحداث السياسية، وكبرت مع شغف أبويّ بمتابعة خلفيات القضايا وأبعادها قبل أن يقاسمني حياتي زوج صحفي ومشرف أخبار في الجزيرة.
كنت أدرك ذلك التداخل بين الخاص والعام والمهني والعائلي، ولم أقم بأي مجهود لتغيير هذا الوضع، فالشغف كان أقوى مني، ولم يكتف على ما يبدو بما منحتُه أنا وزوجي للصحافة وشغفها في حياتنا، فقرر ذات يوم أن يلقي بي وبحقيبتي وجواز سفري وبرنامج عطلتي في قلب أحد أبرز الأحداث التي هزت أوروبا. دوي الانفجارات يخترق سكون المكان، والناس من حولي يعتري وجوههم الهلع، ساعات ترقب طويلة لا يعرف فيها ما يحدث في بروكسل ولا أين ستؤول الأمور. هناك لحظاتٌ للحيرة والأسئلة والجزع، وأخرى للعقل ورباطة
173
172
Made with FlippingBook Online newsletter