الصحافة التي تقاسمك الحياة وحقيبة السفر
المتظاهرين وقوات الأمن، تحت صراخ وأناشيد هادرة حشد فيها المتظاهرون كل غضبهم وتطرفهم. وبدأ المشهد يصبح أكثر عنفا مع الاعتداء على من كان يبدو من ملامحهم أنهم أجانب. ولا أتذكر كيف استطعنا الخروج سالمين من هذه المظاهرة. استمرت التغطية ضمن أوركسترا فريق واسع خُصّصت له الإمكانات في وقت قياسي. أما ساعات العمل فقد كانت متواصلة نهارا وليلاً، ولم يكن فيها أي معنى للورديات ولا للراحة. كانت النتيجة أن الجزيرة أنتجت من بروكسل، العاصمة التي لم يكن للقناة مراسل فيها تغطية من أشمل التغطيات الميدانية، وكانت بالنسبة لي من أكثر التغطيات تأثيرا، لاعتزازي بما قدمته في لحظات حاسمة وصعبة لشاشة الجزيرة، فقد كنت جزءا من قصة نجاح تستحق الفخر. هذا مهنيا، أما ذاتيا فقد كانت معركة أخرى استولت فيها الصحافة على مساحة أخرى من حياتي الشخصية والعائلية، بتواطؤ مني أنا طبعاً، فلا داعي للمكابرة.
ساعات صعبة من البث المتواصل كنا نصارع فيها الزمن والخوف وتعليمات الأمن وخيط السماعات القصير، وعندما بدأ شحن الهاتف يتناقص قمت بتصوير تقرير «آز لايف» بالموبايل وأرسلناه للدوحة عبر الواتساب. ولم يكن ليريحنا في تلك اللحظات إلا خبر وصول التقرير، ثم اتصال من رئيس قسم المراسلين الذي نقل لنا الإشادة بما تم تأمينه بل وأخبرنا أنه تقرر تكليفنا بالبقاء في بروكسل لتأمين تغطية متكاملة ستستمر أسبوعاً لمتابعة الأحداث والتداعيات. تقرر إرسال عربة بث من جنيف ونقل فريق من باريس مع التحاق مراسل آخر. كان ذلك الاتصال الذي أعادنا للواقع لندرك ماذا حدث طيلة اليوم، ونلتقط الأنفاس ونعرف طريق العودة إلى الفندق، ثم نعرف أن إجازتنا انتهت رسمياً، وأننا في بداية مغامرة مهنية متكاملة وفريدة. أسبوع كامل من التغطية والتحدي. حتى بطاقة عمل الجزيرة تركتها في الدوحة، فيما لو سئلت من قبل السلطات المختصة عما يثبت هويتي، لكن رغم ذلك، مرّ أسبوع كامل من تحدي الذات والصعوبات الكثيرة. كنت أنجز في نفس الوقت مهامّ التخطيط للأحداث المتوقعة، وتحرير الأخبار، والترجمة بشكل فوري والإرسال للدوحة، ثم العمل مذيعةً لبرنامج «مرآة الصحافة» من بروكسل ومراسلة ومذيعة لنوافذ التغطية التي كانت تبث على نشرات المنتصف والحصاد. وما بقي راسخا في ذاكرتي يوم أنجزت تقريرا عن مسيرات تيارات من أقصى اليمين كانت وصلت بروكسل من جميع أنحاء بلجيكا. وانتبهت أثناء إجراء المقابلات أنني واكبت المصور لأصبح وسط
عندما يتدخل الخوف أو التوجس أو القلق أو تغيب الرؤية الواضحة، يجب أن تكون الخطوات محسوبة بالنسبة للصحفي، ولكن الوقت كان قد تأخر كثيرًا على هذه الحكمة وهذا الحذر، فحينما اقتربنا من مقر شركة البثّ كان قد وصل الخبر بأن تفجيرا آخر هزّ محطة مترو قرب مقر المفوضية الأوروبية والذي يقع بجوار الشركة، وجدنا الطريق مغلقاً بحواجز أمنية، وكانت حشود تتدافع غير بعيد بتوجيهات من قوى الأمن، دون أن يعرف أحد ما إذا كان انفجار آخر سيحدث هنا أو هناك. وِ الأثناء أخبرتنا شركة البث بإلغاء الحجز وغلق مقرهم بسبب مخاوف أمنية. كان الزملاء في الدوحة يواصلون الاتصال بنا، وكنا نبحث معا عن طريقة ما لتستمر التغطية خاصة مع وصولنا إلى مكان قريب من موقع التفجير الثاني ببروكسل. هل يمكننا إنجاز أي شيء يظهر على الشاشة؟ كان قرارنا أن ذلك ممكن، ولكن الهاتف وحده ربما لن يكون كافياً، وكان علينا في شوارع الخوف والتوجس والبرد تلك أن نجد محلا يبيعنا سماعات. في الأثناء كانت الزميلة إيناس بن عمران في المقابلات صاحبة فكرة ترتيب مقابلة بالفيديو عبر تطبيق ميسنجر، وفي لحظاتٍ ضبطنا الأدوار: قمت أنا بدور المصور، واضطررت للتعويل على إدراكي لما يحدث حولي لعدم فقدان خلفية المشهد حيث لم أكن على تواصل مع الغاليري، بينما تحول زوجي نصر الدين اللواتي، إلى مراسل ميداني.
من شباك الفندق كان المشهد لافتا لمدينة اختفت منها الحركة، ولم يبق مهيمنا عليها سوى صوت موحش لسيارات الأمن. على شاشة التلفزيون وعبر تويتر علمنا بأن هجوماً ضخما استهدف المطار، وأن عدد القتلى غير محدد، وفي ردهة الفندق اكتملت صورة ما حدث: كان عشرات النزلاء يحتشدون خلف الأبواب البلورية. عبثا كان الموظفون يحاولون طمأنتهم وطمأنة المسافرين بعد أن بلغهم خبر إغلاق مطار بروكسل والحدود البرية. كان القرار حاسما بعد وقت قليل، اتصلنا بغرفة الأخبار وأبلغناهم بوجودنا في بروكسل، وكانت أخبار بلجيكا في تلك الفترة تُغطّى عبر مكتب باريس حيث لم يكن لدى القناة مراسل في المدينة. أبلغنا الزملاء في الدوحة باستعدادنا وجاهزيتنا للنزول إلى الميدان وتغطية الأحداث بكل الوسائل، ولكن في الواقع لم تكن لدينا أي وسائل للتغطية. بقينا على اتصال بالدوحة في مقابلات هاتفية طويلة على النشرات نواكب فيها الأحداث إما من البيانات الرسمية أو المؤتمرات الصحفية المباشرة التي أسعفتنا اللغة الفرنسية لترجمة فحواها على الهواء. ثم اتصل بنا الزملاء في التبادل الإخباري لإعلامنا بأنه تم الحجز للظهور في مقابلة عبر الأقمار الاصطناعية من مقر شركة لخدمات البث توجد بجوار مقر الهيئات الاتحادية الأوروبية. ورغم بعد المسافة كان من العبث البحث عن سيارة أجرة في مدينة توقفت فيها الحركة وتعيش على وقع هجمات دامية، لذلك كان خيارنا شحن هواتفنا، والتحرك في شوارع بروكسل اعتمادا على غوغل ماب.
175
174
Made with FlippingBook Online newsletter