AJ 25th Book.

ليلة دامية في تعز

ظل ساكتا لم يستطع الحديث رغم محاولاتنا إجراء مقابلة معه، وشقيق الأم كان في حالة صعبة، لا يستفيق من غيبوبة حتى يدخل أخرى. انتهى عملنا الشاق، وعدنا أدراجنا لنكمل مونتاج التقرير الإخباري مكتبيا قبل نشرة المنتصف. لم أستطع الكتابة، ففي كثير من الأحيان تستوقف المراسل الميداني -خاصة الحربي- مواقف صعبة مثل تلك التي مررنا بها، فتجد ذهنه يعتصر سعيا وراء الكلمات المناسبة لوصف المشهد الذي رآه ولمعالجة القصة بطريقة تجعل التقرير سهلا ومستساغا للمشاهد، بالإضافة إلى محاذير مراعاة المهنية ومحاولتي أن أكون حيادية وأن أقف على مسافة واحدة مع الإنسان، أو أخاف أن تخونني الكلمات أثناء الكتابة ولا أعطي للقصة حقها لمحدودية وقت التقرير ولاعتبارات أخرى كثيرة، فمن رأى ليس كمن سمع. أنجزنا التقرير وأرسلته للقناة، لكن آثار تلك القصة ما زالت عالقة في ذهني، وأشلاء الأم وطفلها تأبى مفارقة ذاكرتي المثخنة بعشرات المشاهد المشابهة.

في تلك اللحظات يتوقف عقل المرء ولا يستوعب، سألني المصور: ما هي اللقطات المناسبة للتقرير، لكنني لم أسمعه. كنت في حالة ذهول وعاجزة عن الكلام. كل ما كنت أفكر فيه حينها هو إسقاط الموقف على نفسي وأسرتي، وذهب خيالي بعيدا في تخيل مجريات هذا السيناريو. يخبرني الجيران أن المكان كان يهتز وقت القصف، وسمعوا أصوات الضحايا يستنجدون، لكنهم لم يستطيعوا إنقاذهم من شدة القصف على المنطقة. حين حل الصباح، وتركز القصف في مكان آخر ليس ببعيد، تم إسعاف العائلة التي تتكون من طفلتين ما زلت أتذكر اسميهما (رسائل ورحمة)، وطفل والأم. أما الأب فلم يكن موجودا حينها، فقد كان ممن توجهوا إلى محافظة إب -وهي محافظة محاذية لتعز - سعيا وراء الرزق. بدأت أتفحص المطبخ. أرى بقايا وجبة السحور وعليها حجارة متناثرة، وفي رأسي سؤال: كيف ناموا مع أمهم، كيف كانت حالتهم بجانب أمهم؟، ولم أجد نفسي إلا وقد زلقت رجلي وسقطت إلى أسفل التبة في حالة ما بين الوعي واللاوعي، لم أحتمل المنظر. أصبت حينها ببعض الرضوض والخدوش، والحمد الله لم تكن هناك أضرار جسدية كبيرة توازي الضرر الروحي الفادح الذي أصابني حينها. لاستكمال التقرير التلفزيوني، توجهنا إلى المستشفى لنعرف من تبقى سنوات 6 منهم على قيد الحياة. الأم وابنها الذي يبلغ من العمر قتلا، والطفلتان أصيبتا بجروح ما بين المتوسطة والخفيفة. أما الأب، ويدعى «علي» فقد هرع عائدا إلى المدينة فور سماعه الخبر فجر ذات اليوم.

199

198

Made with FlippingBook Online newsletter