أحلام شباب التحرير
زملاء لي من التبعات المحتملة، ومع ذلك وضعت القرار جانبا وخرج الرد بلهجتي الفلسطينية التي تتخللها كلمات شامية: «نحنا هون لننقل رأيكم وحكايتكم». صمت الشاب صاحب الأصول العراقية الجنوبية، وسأل: من أين أنت؟ لا بد أنك من سوريا أو لبنان أو فلسطين، فأجبته: كلها معاً، لينتهي الحديث ببساطة بتقديمه لنا بعض البرتقال والتفاح وليقول أخيرا: «لا تصدقوا ما يقال عنا، لسنا جميعا من ممارسي العنف والشغب كما يروجون، نحن فقط نريد تحقيق أحلامنا كشباب عراقي». لم تكن سهلة تلك الرحلة عبر الطوابق الأربعة عشر في مبنى يقف شامخا من الخارج، لكنه مدمر تقريبا من الداخل ومزقت الحفر جدرانه الرمادية. لقد تعرض لضربات دبابات أمريكية كانت قد ،2003 أعلنت وصولها لبغداد بتوجيه قذائف نحو المكان في عام وهذا بعد أن كان مركزا تجاريا معروفا وفيه مطعم تركي منحه هذا اللقب. كلما تذكرت المكان تداعت لذاكرتي رائحة البخور الذي كانت تستعمله شابات وقفن أمام البوابة الرئيسية في محاولات فاشلة للتغطية على الروائح الكريهة في المبنى المهجور منذ سنوات، وقدمن المساعدة برفقة سيدات أكبر عمرا للشباب المقيمين هناك، فحضرن معا في الطوابق السفلية لتحضير الطعام أو لغسل الملابس، بينما كانت الطوابق العليا تضم شبانا يبدو أنهم قسموا أنفسهم على ما يشبه الفرق الأمنية لتشرف على الوضع في ساحة يحتشد فيها المتظاهرون، وعدد كبير منهم من الفئة الشابة أيضا.
قبلها بأيام، قالت لنا حوراء نفس العبارات، فهي أيضا شعرت حينها بأن الحلم قد لا يبقى حلما، وهي الشابة التي تدرس الإعلام وتعمل مع زملاء لها في خيمة تقع وسط ساحة التحرير على إصدار صحيفة يومية يكتبون فيها أخبار الاحتجاجات. ودون أي لثام، يستلم هؤلاء مهمة أخرى، فيحلم صحفيو وصحفيات العراق بمنابر حرة لا يغتالها مجهولون، وحوراء شابة في مقتبل العمر لم تكن تتردد في الذهاب إلى ساحة التحرير كل يوم للقيام بدورها، رغم أنها كانت تضطر للمغادرة باكرا لتصل إلى بيتها الذي يقع في أطراف العاصمة. الشابات يشاطرن شباب التحرير الكثير من الأحلام، ولربما تكون مختلفة في بعض التفاصيل. قالت لي إحداهن إن النساء لم يكن يصلن إلى ساحة التحرير والمناطق التي تحيط بها في السنوات الأخيرة. ربما لأنها ذات طابع تجاري شعبي ما يجعلها غير مناسبة لهن حسب رأيها، بينما اختلف ذلك خلال فترة الاحتجاجات، فوقفت المتظاهرات والمحتجات إلى جانب الشبان. مها مثلا كانت تسعف الجرحى والمصابين في ساحة التحرير، وظلت مقيمة في الساحة، مواصلة الليل بالنهار. عاشت في خيمة مع أقرباء لها قرروا الاعتصام حتى تحقيق المطالب التي رفعها المحتجون ومن بينها إسقاط الحكومة ومحاربة المحاصصة والفساد بما يحسن من الوضع المعيشي. عاشت مها الحلم المتعلق بالشعور بالأمان في بلد يعيش عدم الاستقرار منذ سنوات طويلة، مثلما عاش الشاب الملثم في مبنى «المطعم التركي» أو أمثالهما في الساحة واقعا قد يتغير فيتحقق الحلم.
كم يشبه هذا المكان من كانوا داخله، ممزق إثر ما عايشه طوال سنوات الحرب، لكنه ما زال قائما صامدا يشرف على ساحة استعادت حيويتها بعد انتعاش الحلم. الجميع في «المطعم التركي»، وفي الأماكن القريبة منه في ساحة التحرير -التي امتلأت بخيام المعتصمين- عاشوا حلم المستقبل في هذه الاحتجاجات. فهؤلاء الشباب كبروا مع تبعات حرب الخليج والغزو الأمريكي للعراق، ونضجوا على أصوات القصف والتفجيرات والتهديدات وباتوا يتمنون حياة هادئة. قال لي دليلنا في مبنى «المطعم التركي» إنه يعرف العراق العظيم من حكايات أمه، ويحلم بحياة لا ينشغل فيها بكيفية تأمين أدنى الاحتياجات والخدمات الأساسية، وإنه سئم عدم الاستقرار، فهو يشعر أن احتجاجات تشرين أعطته فرصة له ولأقرانه للتعبير عن الحلم وربما تحويله لحقيقة.
253
252
Made with FlippingBook Online newsletter