AJ 25th Book.

عيون زرقاوي

حاجز اللغة مشكلة تعودت أن أتخطاها بابتسامة من القلب إلى القلب. ولكنه دائما حوار قصير زمنيا ويفتقر إلى تفاصيل تكتب له عمرا أطول. انتهت مهمتي الأولى بأفغانستان ولم تنته علاقتي- المتقطعة- بزرقاوي وحياته. بعد تفكير طويل ومرهق وصلت إلى صيغة - أتمنى لو تحققت- أن أكفله ماديا وتتبناه رسميا صديقتي المقيمة في فرنسا. هي أم وكانت متحمسة جدا لاحتضانه في بيتها. وأنا باعتباري غير متزوجة وأعيش في بيئة محافظة، فالمسألة كانت معقدة جدا حتى يقيم عندي. تواصلت مع عمه عن طريق زميل مصور في قناة الجزيرة الإنجليزية بشأن الموضوع. كان الجواب رفضا قاطعا رغم وعودي بضمان تعليم أفضل له والعيش في أسرة مسلمة مثله والسماح له بزيارة أهله في أفغانستان سنويا. انهارت كل الأحلام الوردية التي بنيناها أنا وصديقتي خديجة. شعرنا بخيبة أمل كبيرة وبحسرة وألم من كل الأشياء الجميلة التي كنا سنوفرها لزرقاوي. تخيلناه يلعب في أكاديمية إحدى الفرق الفرنسية لكرة القدم، ويحضر مباريات في ملعب حديقة الأمراء ليشاهد زيدان اللاعب أو المدرب. لن أخوض في المسائل القدرية ولكن كنت أتمنى تكملة أخرى لقصة هذا الطفل. لكننا، وبمصطلحات التلفزيون، مونتاج الحياة ليس بأيدينا. بقيت أتابع أخباره وأبعث له هدايا عن طريق زميلي المصور. ولكن توقف كل ذلك بعد بضع سنوات لأسباب عديدة مرتبطة بعم الطفل

مليون سؤال في رأسي: كيف ستكون حياته الآن؟ لماذا هو بالذات؟ ماذا يمكن أن نفعله من أجله؟أي مستقبل ينتظره؟ هل ستكون زوجة عمه حنونة عليه؟ ألن تتذمر منه خاصة وأن العائلة فقيرة؟ فكل الشعب الأفغاني فقير باستثناء أمراء الحرب. هل سيكمل تعليمه؟ هل سيستمر في حب ولعب كرة القدم؟ قصتي مع زرقاوي كانت من تلك القصص التي تبدأ فعليا وتستمر معنا بعد أن نطفئ الكاميرا. في الكثير منها، وخاصة في مناطق النزاعات أو الحروب أو التوتر -حسب التصنيف الرسمي للبلد- ثمة صراع بداخلك كصحفي وإنسان. والأخطر هو الجدل الأخلاقي الذي لا يفارقني. هل أنا أعيش على أحزان ومآسي الآخرين؟ هل تقدمت مهنيا فقط لأنني أوصلت وجعهم بتقرير تلفزيوني مدته دقائق قليلة؟ لا توجد إجابات عن كل الأسئلة بيد أن ما آمنت به على مدى سنوات طويلة هو أنه من واجبنا أن نكون معهم. أردت أن أكون مع زرقاوي وأن تكون له حياة أخرى وفق معاييري وقناعاتي حينها. عدنا لزيارته أنا وفريق العمل من مكتب الجزيرة في كابل. كان عيد الفطر على الأبواب، وشعرت بأنه من حقه أن يفرح مثل باقي الأطفال بلعب وثياب جديدة. الصور الوحيدة التي تجمعني به كانت خلال تلك الزيارة. أتذكر أنني اشتريت عمدا زيا أفغانيا بلون مبهج حتى تكون الصورة معه بألوان غير الأسود، في الحقيقة هي حياته التي كنت آمل أن تكون بلون الزهري الذي ارتديته.

أتذكر أنني شعرت بدوار وأنا أرى آثار الدم على الجدران، لا أدري هل تركت عمدا أم أن أسرة عم زرقاوي التي تقيم في نفس البيت لم . وأنا 2008 تنظفها جيدا.المجزرة بحق هذه العائلة وقعت في سبتمبر ذهبت لتصوير التقرير بعد نحو عام من المذبحة التي لم يسمع عنها كثيرون أو تم تجاهلها عن قصد. اعتذرت منهم وجلست على الأرض لفترة لأستجمع قواي. تحججت بتعب الصيام، والحقيقة أنني لم أستطع الوقوف بسبب مشاهد رعب يوم كنت أتخيله فقط، فماذا لو عشته أو رأيت بأم عيني ما جرى؟! صورنا التقرير وأجرينا مقابلة مع عم زرقاوي الذي لم يقاوم البكاء أمامنا. العارف بالمجتمع الأفغاني يعرف جيدا ماذا تعني دموع الرجال أمام امرأة غريبة. أعترف أنه، صحفيا، لم يكن أفضل تقرير أنجزته في مسيرتي المهنية، فقد عاقتني بعض المشاكل الفنية الخاصة بالصوت الطبيعي وتنوع اللقطات الصورية. ولكن مشكلتي الأكبر كانت خلال التصوير نفسه. ضاعت مني الأسئلة المناسبة في مثل هذه الحالات والترجمة من العربية إلى الداري صعّبتها علي أكثر. هل يوجد في قاموس أي لغة في العالم مفردات تسأل بها أقارب أشخاص قتلوا بغير حق، وتجعلهم يسردون لك القصة دون أن تكون السبب في أن تقلب عليهم المواجع؟ والأقسى على شخص مثلي يبكي بسرعة البرق ويغضب أيضا بنفس السرعة كيف أحبس دموعي أمامهم!هذه القصة تحديدا كانت من المرات التي ضعفت فيها، وفشلت في الفصل بين ما ينبغي أن أقوم به بحكم مهنتي والغرق في تفاصيل حياة هذا الصغير.

259

258

Made with FlippingBook Online newsletter