وهم السلطة الرابعة
الكلمات المنمقة والعبارات المرصعة، لكن هذه الأحاديث تتحول إلى هشيم تذروه الرياح بمجرد أن يتعرض أحدهم للتجربة بنفسه، ويكتب له أن يعيشها واقعا مريرا. وأنظر إلى حالتي وأحوال زملائي الصحفيين الذين قُدر لي أن ألتقيهم أو أعيش معهم فترات زمنية متفاوتة، فأجدني أمام سؤال كبير: هل يوجد بالفعل ما يسمى بالسلطة الرابعة؟ وهل هذه السلطة تكفل لنا معشر الصحفيين حماية من أي نوع تمكننا من ممارسة عملنا الصحفي بأريحية واطمئنان؟! فعلى سبيل المثال، صحفي مثلي تقف وراءه مؤسسة ذات ثقل دولي وذات باع طويل في الدفاع عن الحريات العامة والحقوق، لم تدخر جهدا في تقديم كل أشكال الدعم النفسي والاجتماعي والإعلامي له، ولم تترك بابا من أجل المناداة بحريتي إلا وطرقته، عبر وقفات تضامنية، وبيانات صحفية، ومناشدات دولية، وسخرت كل إمكانياتها للإبقاء على قضيتي حاضرة في الوجدان.. إلا أن هذه الجهود -على كثرتها- كانت تنكسر على صخرة التجاهل والعناد من قبل السلطة الفعلية، التي لم تلق لكل هذه الجهود بالا ولم تحرك ساكنا.
وهم السلطة الرابعة منتجفي قناة الجزيرة الإخبارية | محمود حسين
أشعر به وهذه المرارة التي أتجرعها كل يوم وكل ساعة وكل ثانية، ولا أقول كل أسبوع وكل شهر، وكل عام؟! دوامة هائلة من التساؤلات تحيط بي. أتأمل، فأجدني أحدث النفس حديثا ذا شجون: لا شك أن زملائي الصحفيين يدركون حجم المعاناة التي يعيشها زملاؤهم الذين يتعرضون لتجارب ومحن على أيدي الحكومات والسلطات، من قتل وتنكيل أو سجن وتكبيل لحرياتهم بسبب ممارستهم عملهم الصحفي. يتبارى الصحفيون في تدبيج
«أن تتحدث عن المعاناة شيء؛ وأن تعيشها شيء آخر». على مدى أربع سنوات لم أستطع أن أستوعب هذه اللحظة الكئيبة، اللحظة التي يُغلق فيها باب الزنزانة الضخم الصدئ علي، ذلك الباب السميك الذي لا تضاهي غلظته إلا غلظة قلب السجان الذي يجذبه بكل ما أوتي من قوة، مصدرا صوتا تتزلزل معه جدران الزنزانة وتنقطع معه صلتي بالعالم. عندها يعاودني نفس السؤال كل ليلة، سؤال طاردني خلال فترة الاعتقال كلها: كم من زملائي الصحفيين يشعرون بهذا الألم الذي
359
358
Made with FlippingBook Online newsletter