وهم السلطة الرابعة
فالسلطة الرابعة مجرد وهم صنعناه نحن، ولا تعدو أن تكون مصطلحا إعلاميا يخلو من أي مضمون، وصنماً من تمر نعبده ونقدسه حتى إذا ما جاعت السلطة أكلته. «فلا سلطة بغير قوة تحميها ولا قوة بغير قانون يلزم الكل باحترامها.» ولن تقوم للصحافة قائمة إلا إذا وجدت آليات قانونية ملزمة تجعل أهل الصحفي الذي قتل وهو يؤدي عمله، يرون من قتله - كائنا من كان- وهو يعاقب على جريمته. ولن ينعم الصحفيون بالأمان إلا إذا سمحت الأطر العدلية الدولية بالقصاص من كل سلطة اعتقلت أو سجنت يوما صحفيا لمجرد أنه يمارس مهنته. وقبل أن يتحقق ذلك، لا تحدثوني عن السلطة الرابعة!
يحرك العالم ساكنا، وتكتفى المؤسسات ذات الصلة ببيانات جوفاء للشجب والإدانة لا تسمن ولا تغني من جوع. فالصحفي - بحكم التعريف- هو ذلك الشخص الذي يملك قلبا فولاذيا ويعمل في بيئة معادية، ويسعى إلى نقل الحقيقة مهما كلفه الأمر من مشقة وتضحيات. هذا الصحفي لا يجد في يده سلاحا يحميه سوى القلم، ولا مظلة يتقى بها شر السلطة سوى أدواته البسيطة، «ميكروفون أو كاميرا»، هذه الأدوات بالتأكيد لا يمكنها مجابهة ترسانات الأسلحة التي تملكها الأنظمة. الحقيقة الوحيدة التي خلصت إليها من تجربتي هي أنه لا وجود لما يسمى السلطة الرابعة، التي نطلقها نحن الصحفيون على من ينتمي إلى هذه المهنة، والسلطات الثلاث الفعلية الأخرى (تنفيذية وتشريعية وقضائية) تتوحد جميعها في مواجهتنا. هذه السلطات تظل تفسح المجال للصحفيين ليصفوا أنفسهم باعتبارهم أصحاب سلطة، ويتسع الهامش الذي تسمح به هذه السلطات بقدر ابتعاد الصحافة عن مناطق نفوذ السلطات الفعلية وعدم تقاطعها مع مصالح الأنظمة، حتى إذا ما تجاوز الصحفيون هذا الهامش وتقاطع عملهم مع امتيازات وحصانات هذه السلطات بمحاولة انتقاد سلوكها أو كشف جرائمها، تغولت السلطات الثلاث وهبت للدفاع عن نفسها بكل السبل، وإن أدى ذلك إلى سجن الصحفي أو قتله.
وأعود لأسأل نفسي، إذا كان هذا حالي فما بال زملائي الصحفيين الذين يواجهون هذه المصاعب فرادى، بصدور عارية، لا نقابات مهنية تسندهم، ولا منظمات حقوقية تشد من أزرهم، ولا حيلة لهم. أتأمل حولي فأرى كيف يتحول ذلك الصحفي إلى «مسخ» يتسول عملا دونيا من الأعمال الإدارية داخل السجن، كي يؤمن ساعة أو ساعتين خارج الزنزانة، بينما يتنافس آخرون للحصول على ميزة داخل محبسهم. أما من لا يملك مثل هذه المهارات فتراه يقف في طابور طويل في انتظار جرعة من علاج نفسي يضعه في منطقة «اللاوعي» أو» غارقا في النوم» عسى أن يساعده ذلك على اجتياز الأيام والليالي. في خضم هذه المعاناة لا تجد أحدا يقدر حجم التضحيات التي يقدمها الصحفيون داخل السجون، فهي تضحيات لا دليل عليها، ولا يشعر بها إلا من ذاق مرارتها. وتعود التساؤلات تنهش عقلي: كيف يرضى العالم الحر أن يحبس صحفيون يمارسون عملهم، في زنزانة واحدة مع عتاة المجرمين معتادي الإجرام؟ كيف يحاكمون في جرائم جنائية ووفق قوانين - صممت خصيصا- لمؤازرة الأنظمة في زعمها بأنها لا تسجن الصحفيين بسبب عملهم الصحفي. لقد رأى العالم كيف تسعى السلطات والحكومات إلى تقييد حرية الصحافة والصحفيين. فهنا تغتال آلة القتل زملاء في الخطوط الأولى للمعارك أثناء تغطية الأحداث؛ وهناك - في غزة- تقصف أبراج تضم مكاتب مؤسسات صحفية ودولية وعربية وتسوى الأرض دون أن
361
360
Made with FlippingBook Online newsletter