قصص أثرها لا يزول
للحديث عنهم إنما هم بعض من أهلهم. فمن قال بأن الصحفي عليه أن ينسلخ عن القصة التي يغطيها؟ ربما يجوز هذا فقط حين يكون الصحفي بعيدا عن التأثر بتداعيات هذه القصة ومآسيها وأحداثها. أما غير ذلك فأرى أن الصحفي لا محالة، ودون أن يدري، يصبح جزءا من القصة التي يكتبها، ولا محالة ستلمس هذا في متن ما يكتبه، وفي صوته إذ يقرأ، وفي لغة جسده إذ يتحدث. الصحفي في النهاية إنسان، وفرد في عائلة، واسم في سجل مدني. ومهما اجتهد الصحفي لأخذ مسافة من كل الأحداث التي ينقلها من داخل غرفة الأخبار أو في الميدان، حتما سيخفق في الوقوف محايدا
قصص أثرها لا يزول منتجة في قناة الجزيرة الإخبارية | نسيبة موسى
انقبض قلبي ولم أستطع التركيز. رحت ألاحق تفاصيل وصور الخبر على صفحات الناشطين. ظهرت لي صور القصف، وإذا بسيارة متفحمة تماما، صرت أتأمل الصور وفي داخلي أترحم على من كان بداخلها. بعد لحظات وإذ باسمي الشهيدين، عندما قرأت اسم أحدهما تملكتني الصدمة ورحت أقول هذا اسم عمي، ويرد صوت داخلي يطمئنني ربما تشابه أسماء. اتصلت بأمي وأخي ولا أحد منهما يجيب، ما هي إلا لحظات حتى وصلتني رسالة بأن «عظم الله أجركم ونحسبه عند الله شهيدا». هذه اللحظة لا يمكن نسيان شدة وجعها. أتذكر أنني من الصدمة لم أقو على فعل شيء. غادرت غرفة الأخبار وأنا أحاول استيعاب الخبر، وشريط طويل من الذكريات يمر أمام ناظري. كم هي كثيرة الأخبار والقصص التي نكتبها كصحفيين في غرف الأخبار، وكم هي صادمة تلك الصور التي نضطر لمشاهدتها. لكن أن تكون أنت جزءاً من الخبر، والصورة لأشخاص مقربين منك ومن أهلك يجعلك تستشعر بعدا آخر للقصة. سمعنا كثيرا قصص زملاء لنا كانوا يغطون أحداثا في الميدان سقط فيها ضحايا ليتضح لهم أن هؤلاء الضحايا الذين يقفون أمام الكاميرا
، في تقويم الحروب على غزة هو اليوم 2021 الثالث عشر من مايو الرابع لعملية أطلقت عليها إسرائيل اسم: «حارس الأسوار». كما هي عادتنا في غرفة أخبار الجزيرة كان العمل غزيرا منهمراً، فمنذ ساعات صباح ذلك اليوم صعّد الجيش الإسرائيلي عدوانه واشتد قصفه من أقصى شمال قطاع غزة إلى جنوبه. كانت الصور صادمة للشهداء والدمار. ولأنني من غزة، هناك ولدت وكبرت ويعيش أهلي جميعا، أمي وإخوتي، كان العمل في غرفة الأخبار بالنسبة لي عونا ومؤازرة لأهلي. لا أملك الحيلة لحمايتهم، لكنني أشارك في نشر صور وأخبار ما يلاقونه. كنت أسمع مراسلينا يقولون على الهواء: «القصف استهدف منطقة الفخاري، وبني سهيلا، والقرارة شرق خانيونس»، فينقبض قلبي من الرعب والخوف والقلق، فشرق خانيونس هناك، في أحد البيوت، تعيش أمي وأخي وزوجته وخمسة أطفال صغار. رابع أيام الحرب، كان يصادف آخر أيام رمضان، وكنت منهمكة في إنجاز تغطية عاجلة، وفي الوقت ذاته أتابع الأخبار عبر صفحات صحفيين وناشطين محليين من خانيونس. وفجأة ظهر خبر عاجل عن سقوط شهيدين في قصف على بلدة بني سهيلا شرق خانيونس.
363
362
Made with FlippingBook Online newsletter