هنيئا للجزيرة، وهنيئا للعرب
هنيئا للجزيرة، وهنيئا للعرب الرئيس التونسي السابق | المنصف المرزوقي
بقيت الجزيرة وفية للغة الضادّ، وهذا بالنسبة لعاشق للغة العربية مثلي أهم ميزات الجزيرة. إن عربيتها العريقة الأنيقة المبسطة التي تجمع أبناء وبنات أمة تمزّقت بينهم كل الروابط هي اليوم من أثمن مكتسباتنا الثقافية. انظر ماذا فعلت وسائل الاتصال -قل التخاصم- الاجتماعي بلغتنا، وسوف تقدّر فضل الجزيرة وأهمية دفاعها الصامت الفعال عن لغة القرآن وابن خلدون والمتنبي والشابي. بقيت الجزيرة على نفس المستوى من المهنية العالية، تعطي المثل والقدوة لإعلام عربي رسمي ما انفك يقلد ولا يصل أبدا إلى المستوى المحسود، لأنه لم يفهم الدرس أو كان أعجز من تحمل تكلفته. يا للشماتة! في كل تلفزيونات محور الاستبداد وأموالها الباهظة، التي أنفقتها عبثا في حرب شعواء وخاسرة، لأنها لم تفهم أن المصداقية هي أثمن ما تصل إليه وسيلة الإعلام، وأن هذه المصداقية لا تكتسب إلا عندما يكون الخبر مقدسا والتعليق حرّا، وليس العكس. في الواقع يمكن القول إن الجزيرة هي أول قناة إعلامية عربية بالمعنى المتعارف عليه للإعلام، أي نقل الخبر الصحيح وترك التعليق عليه حرا بين كل الأطراف. أما القنوات التي تدعي في الإعلام معرفة فأغلبها أدوات تضليل، لذلك نفر منها الجمهور وبقي وفيا للجزيرة. ما يجعل الجزيرة أيضا متميزة أنها لم تكن شاهدة على التاريخ، وإنما
ربع قرن إذن مرّ على ولادة القناة التي قلبت رأسا على عقب المشهد الإعلامي العربي، ونحن لا ننتبه لمرور الزمن. بعد كل هذه الفترة من علاقتي بالجزيرة، ما يرفع معنوياتي في هذا العالم الذي يبدو وكأنه لم يعد فيه ثوابت، أنه لا الجزيرة تغ ّت ولا أنا تغ ّت. أقصد التغيير في العمق، أي في الخيارات الأساسية وفي التوجهات الكبرى، لأن كثيراً من شعري تساقط، والجزيرة مرّت من علبة الكبريت -التي سخر منها حسني مبارك- إلى مؤسسة ضخمة فخمة. نعم بقيت نفس الشخص، على نفس المواقف، في المعارضة، وفي السلطة، وبعد عودتي من جديد للمعارضة. كل الديمقراطيين التونسيين مستنفرون اليوم للتصدي للمستبدين الذين يحاولون مجددا التسلل إلى تونس. كذلك لم تتغّ القناة. بقيت الجزيرة على نفس المظهر المتميز بأناقة مذيعيها والجمال الوقور لمذيعاتها. بقيت الجزيرة على نفس النهج التحريري وفيّة لشعارها «الرأي والرأي الآخر».
391
390
Made with FlippingBook Online newsletter