هنيئا للجزيرة، وهنيئا للعرب
أيضا صانعة له، وهذا شرف لم تنله أي قناة تلفزيونية لا عربية ولا غربية. لقد حاولت وما زالت تحاول قنوات عديدة غربية وعربية التحكم في مجرى الأحداث الكبرى التي تصوغ ملامح العالم. كان الفشل مآلها، لأن محاولة التأثير -خاصة بالنسبة لقنوات استئجار الضمائر- كانت فجّة، وبدائية، وقبيحة، ومنفرة، لذلك كان مردودها صفراً. وعلى عكس هؤلاء البدائيين، كان تأثير الجزيرة واضحا في نحت التاريخ وتوجيهه، لأن القناة التزمت فقط بواجبها المهني في تغطية الأحداث الكبرى التي هزت منطقتنا، خاصة أحداث الربيع العربي. هي لم تحثّ الناس على الثورة، ولم تدع لإسقاط الأنظمة، وإنما اكتفت بنقل الحقيقة كما هي. وبما أن الحقيقة دوما ثورية، فإن الجزيرة كانت ثورية وإن لم تسع إلى ذلك، وهذا ما لم يغفره لها أبدا محور الاستبداد الذي لا يعيش إلا بالتضليل والكذب. كيف يستغرب المرء أن يكون إسكات الجزيرة هدفا استراتيجيا لكل الأنظمة الاستبدادية العربية، وحتى لحماتها الأجانب، الذين كانوا وما زالوا يرون في القناة تهديدا لسيطرتهم القديمة على العقول والقلوب، وليست فقط تهديدا لوكلائهم في المنطقة. ما يثير إعجابي بالجزيرة، بكل صدق، قدرتها على الصمود أمام الضغوطات الهائلة التي كان بوسعها أن تركّع أقوى الشخصيات وأقوى الأنظمة.
وراء هذا الصمود الذي لا يلين لتهديد أو إغراء، ثمة طبعا التزام الصحفيين والصحفيات الكبار الذين تألقوا كما لم يتألق أي إعلامي آخر، ثمة مهنية المديرين الذين تتابعوا على إدارة القناة، وثمة دور أبطال أسميهم جنود الخفاء، لكن ثمة أولا وأساسا صلابة شكيمة رجل تدين له الأمة بأكثر مما تتصوّر، هو الأمير الوالد الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني. أذكر أنه قال لي مبتسما، في زيارته لتونس بعد الثورة، على مأدبة العشاء التي أقمناها في قصر قرطاج على شرفه هو ونجله الأمير الشاب تميم، إن بن علي كان يتصل به ليحتج كل مرة أظهر فيها في الجزيرة، وأنه كان يسمعه بصبر. نعم لم يكن هناك في العالم العربي أو في دول الغرب مجتمعة ومتفرقة من كان قادرا على الضغط على هذا الرجل الذي اصطف مع آلام وآمال أمته، لا يهمّه الثمن الباهظ والأخطار الجسيمة. ويمكن القول إن نجاح الجزيرة لا علاقة له بالمال، لأن ما يصرف على قنوات استئجار الضمائر أكثر بكثير من الذي يصرف على الجزيرة، فالنجاح له علاقة وثيقة بالقيم التي لا تشترى بالمال، وعلى رأسها احترام الذات واحترام المشاهد واحترام الحقيقة. هذا هو سرّ نجاح الجزيرة، فهل يعقلون؟
393
392
Made with FlippingBook Online newsletter