ربيع لا ينتهي
ردهات أهل السلطة والمال إلى جنبات الشوارع والميادين، وقدمت بمهنية عالية سياسات تحريرية وضعت الإنسان في المركز. الجزيرة ليست سرا عصيا على الفهم، ولا لغزا يحتاج كثير استقصاء. إنها ببساطة الحالة الطبيعية لما ينبغي أن يكون عليه الإعلام الحر. حالة يصوغها نخبة من الإعلاميين ممن يعتنقون القيم العليا لمهنة الصحافة، متنوعين في أفكارهم وأعراقهم وجنسياتهم، لكنهم مجمعون على ماهية الشبكة: منبر تعددي ينشد الحقيقة في إطار مؤسسي، منبر وجد في الدوحة وأهلها خير سند، مما منح الجزيرة حرية وإمكانات، وأطلق العنان لتجربة صارت الأجمل والأروع. طوال السنوات التي قضيتها مراسلا للجزيرة في إفريقيا وأفغانستان والعراق، أدركت أن الأداة الأهم في «صحافة العمق» هي فهم البنية النفسية والثقافية للشعوب التي نغطي أخبارها. لقد تفوقت الجزيرة في ذلك، فبنت أوسع شبكة تغطية ميدانية بمراسلين فهموا هذه الشعوب وخبروا تاريخها وثقافتها ومكامن التميز فيها، فوضعوا الخبر في سياقه، ونقلوه من مجال المعلومة إلى مجال المعرفة. وفي هذه السنوات من السيولة الإعلامية التي فاقمتها وسائل التواصل الاجتماعي، تكتسب صحافة العمق أهمية أكبر من أي وقت مضى، لتصبح ضرورة لا غنى عنها في طريق الشعوب نحو الوعي والإدراك، بعيدا عن الإشاعة ونظريات المؤامرة وتوظيف الخبر. «روح الجزيرة» مصطلح استخدمناه للاحتفال بالعشرية الأولى لقناة الجزيرة. روح الجزيرة هي الانحياز للإنسان المهمش، وللمجتمعات المقهورة، ولقيم الحرية وحق الناس في معرفة نزيهة. وما زلت أعتقد
ربيع لا ينتهي المدير العام السابق لشبكة الجزيرة الإعلامية | وضاح خنفر
توزع الحلوى. سيارتي تشق الجموع ببطء وحذر، وفجأة أجد باب السيارة قد فُتح، لقد تعرف عليّ بعض المحتفلين، فأرادوا التعبير عن شكرهم للجزيرة بالعناق ودموع الفرح. خرجت من السيارة، والتحمت بالناس، وفاضت مشاعري دمعا. كانت هذه هي اللحظة الأسمى في مسيرتي الإدارية التي استمرت ثماني سنوات. الجزيرة هي الناس؛ نبضهم، أحلامهم، آمالهم، آلامهم ووعيهم الجمعي. ولأنها كذلك صارت رافدا طبيعيا في حياتهم. لقد فهمت الجزيرة نبض الجماهير، وانحازت للناس، فارتقت بالإعلام من
بعد يوم تاريخي ازدانت فيه الشاشة بعاجل: الاحتفالات تعم الوطن العربي من المحيط إلى الخليج، غادرت غرفة أخبار الجزيرة. قدت سيارتي عبر الطريق المعتاد؛ شارع الكورنيش بالدوحة. عشرات الأفكار والمشاعر تحتشد في نفسي، يظللها إرهاق شديد بعد ليال من السهر الطويل. هناك على ضفاف مياه الخليج الهادئة، بدأت أرى جموعا من الناس تهرول ملتحقة بمجموعات أخرى خرجت بعفوية تامة، من جنسيات وعرقيات متعددة مبتهجة بسقوط الرئيس المصري محمد حسني مبارك. ازدحم الطريق بالمحتفلين؛ مجموعة تردد الأهازيج وأخرى
، اقترح جورج بوش 2005 عام على رئيس الوزراء البريطاني حينها، توني بلير، قصف مقر الجزيرة في الدوحة.
43
42
Made with FlippingBook Online newsletter