ربيع لا ينتهي
فقد التقطت عشرات القنوات المختلفة بث الجزيرة من موقعها على الإنترنت، وأعادت بثها عبر شاشاتها، وإذ بالجزيرة تعود إلى مشاهديها في زمن قصير. ميزة الجزيرة أنها لا تخشى التجديد ولا تخاف التطور، لذلك وجدت عبر مراحل عديدة نفسها تلتقط خيوط المستقبل وتواصل عملها رغم المتغيرات الجامحة، سياسية أو اجتماعية أو تقنية، لقد واصلت الجزيرة مسيرتها لتحتفل بربع قرن من العطاء. عندما خرجت من سيارتي والتحمت بجموع المحتفلين في تلك الليلة الفريدة قبل عقد من الزمان، تذكرت أولئك الذين قدموا أرواحهم من زملائنا من أجل الحقيقة. إنهم من زودنا بربيع لا ينتهي؛ بالطاقة اللازمة للمضي في الطريق رغم كل الصعاب، وجعلوا من الجزيرة منبرا للكلمة الصادقة مهما كانت التضحيات.
مسيرتها بمهنية وصبر استراتيجي، وبالطبع ما كان ذلك ليتم لولا صمود القيادة القطرية في وجه كل هذه الضغوط، شجاعة نادرة، أتاحت لنا أن نستمر بعملنا، حتى اجتزنا تلك المرحلة العصيبة. إن الأحداث على الأرض أثبتت مجددا أن تغطية الجزيرة للشأن العراقي كانت أصدق وصفا وأعمق من التغطيات الإعلامية الغربية، فقد اشتبك الأمريكيون مع المقاومة العراقية، وانشغلوا بجحيم عراقي لم يكونوا قد حسبوا له حسابا. أما الواقع العربي فقد واصل انحداره صوب التردي والتفكك، ووقفت الجزيرة مدافعة عن حق الإنسان العربي في المعرفة، وحقه في الحرية والكرامة. لم نر أنفسنا يوما حزبا سياسيا ولا ثوارا، بل كنا صحفيين وحسب، لكننا كنا نعلم أن الواقع العربي لا يمكن أن يستمر على حاله. أذكر أننا كنا منشغلين بسبق صحفي حول أوراق المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، عندما بدأت المظاهرات في تونس. لم نتوقع حينها أن تكون هذه هي شرارة البداية لثورات تجتاح العالم العربي. ورغم أننا منزرعون في الضمير الشعبي العربي، إلا أن الشارع كان متقدما علينا في تحركاته. فاجأنا التوقيت وتسارع الأحداث. لم يكن للجزيرة حضور في تونس. ومع انتقال الثورة إلى مصر سرعان ما سيغلق مكتبها في القاهرة، وتُحظَر إشارة البث عبر الأقمار الاصطناعية. وجدنا أنفسنا معزولين تماما، لا أحد يشاهدنا. عندها تجلى إبداع غرفة أخبار الجزيرة عبر أصغر صحفييها سنا، فريق الإعلام الجديد -كما كان يُسمى وقتها- قاموا بتحويل البث إلى مواقع الإنترنت، وتواصلوا مع الناس لإعلامهم بالطريقة الوحيدة لمتابعة الجزيرة. لقد كانت لحظة رائعة، تجلى فيها التحام الناس بالجزيرة.
أن هذه الروح هي التي مكنت الشبكة من الثبات على نهجها التحريري في أكثر مناطق العالم اشتعالا، هذه الروح تربط الخط التحريري بالوجدان الشعبي، وتربط العاملين بالجزيرة برسالتها الممتدة، وتربط الجميع بأفق أوسع بكثير من الإعلام الربحي أو الإعلام الرسمي. التحام الجزيرة بالناس منحها ميزة فريدة؛ أنها أكثر عمقا في وصف الواقع والتنبؤ بمآلاته. ، وقتها كانت الجزيرة تخوض معركة على 2005 تعود بي الذاكرة لعام جبهات متعددة: إدارة جورج بوش أعلنت عداءها للشبكة، عداء وصل حد الجنون، فاقترح جورج بوش على رئيس الوزراء البريطاني حينها، توني بلير، قصف مقر الجزيرة في الدوحة. القصف لم يتم، كما علمت لاحقا، بسبب تدخل وزير الخارجية الأميركي يومها كولن باول، الذي وجه حديثه للرئيس مذكرا إياه أن القوات الأمريكية جاءت إلى العراق لنشر الديمقراطية، فلا يحسن بها أن تبدأ بقصف مقر أكبر مؤسسة إعلامية عربية. القصف لم يتم، لكن المضايقات والحملات المعادية من قبل قيادات التحالف الدولي على العراق تصاعدت، بحجة أن الجزيرة تمنح الإرهابيين منبرا. بالإضافة إلى ذلك، كانت الأنظمة العربية تواصل الضغط على الجزيرة بكل وسيلة ممكنة، تعتقل المراسلين وتغلق المكاتب وتبث الإشاعات عن القناة ومصادر تمويلها. لقد تعددت الاتهامات وبلغت حدودا مضحكة، من الاتهام بأن الجزيرة أداة صهيونية أسسها الموساد، إلى وصفها بقناة أسامة بن لادن. كانت أياما عصيبة، لكن الشبكة واصلت
45
44
Made with FlippingBook Online newsletter