الجزيرة.. انبثاق الفكرة
لم تقتصر التحديات على إنجاز التغطيات أو إنتاج المحتوى الإعلامي، بل واجهتنا تحديات تقنية كثيرة، منها أن بث الجزيرة الفضائي كان يتم عبر قناة كيو باند بقمر عرب سات، وأغلب أجهزة التقاط البث كانت تعمل بقناة سي باند. كان عدد الذين يشاهدون الجزيرة . كنا نتصارع مع إدارة القمر 20% في الوطن العربي لا يتجاوز الاصطناعي «عرب سات» للانتقال إلى البث على قناة سي باند؛ وبعد مرور نحو سنة من بداية بثنا حصلنا على قناة سي باند. كان ذلك كأننا انطلقنا من جديد. ووصلت الجزيرة إلى كل البلدان العربية ودخلت أغلب البيوت، وبدأنا نتلقى اتصالات كثيرة، وتصلنا سير ذاتية طلبا للعمل. توسع بث القناة، وشدت المشاهد العربي، وأصبحت الجزيرة حاضرة في يوميات المواطنين من المحيط إلى الخليج. بدأت مع هذا التوسع مضايقات الجهات الرسمية وحملات التضييق والاستهداف. أذكر أنني كنت في أحد الأيام مجتمعاً مع الزميل صلاح نجم، وبلغنا أن مكتب القناة في القاهرة أغلق، وسحبت السلطات المصرية رخصة العمل من مديره حسين عبد الغني، دون أن نعرف سبب الإغلاق. ذهبنا أنا وصلاح إلى مصر، وقابلنا صفوت الشريف وزير الإعلام حينها. واستفسرنا عن الخطأ الذي ارتكبته الجزيرة حتى يغلق مكتبنا، فقال لنا: «القناة تهاجم مصر وتعمل ضدها، وهي الدولة الكبيرة والرائدة في الإعلام»، وأخذ يحصي القنوات المصرية ويشيد بتميزها. فقلنا له لكن ما الخطأ بالتحديد؟، فقال إن سبب الإغلاق كان ما ورد في حلقة من شهادة بطرس غالي في برنامج «شاهد على العصر»، حين قال إن قرار زيارة الرئيس المصري السابق أنور السادات إلى إسرائيل اتخذ في جلسة «حشيش وويسكي»، علما أن
لتغطية الحرب، سواء في العراق أو أفغانستان أو غيرها. وأذكر هنا أن الزميل عبد الحق صداح كان من أشجع صحفيينا وأكثرهم إقداماً. كنت أقول له: لقد اجتمعت فيك مهارة الصحفي وجرأة المقاتل. لم يكن يخاف من أي خطر، أذكر أننا عندما خيرناه بين الذهاب إلى كابل (العاصمة الآمنة نسبياً) أو قندهار (المدينة النائية البعيدة) اختار قندهار، رغم خطورة الوضع فيها. ومن القصص التي أثرت في نفسي تأثيراً كبيراً، قصة استشهاد الزميل طارق أيوب رحمه الله. فعندما بدأت حرب الخليج الثانية في ، كان طارق مراسلا اقتصادياً في مكتبنا بعمان، وكان 2003 العام أحيانا يساعد الزميل ياسر أبو هلالة في تغطية بعض الأحداث السياسية. ثم اندلعت الحرب. كان لدينا بعض المراسلين المنتشرين في مناطق مختلفة من العراق، لكن العدد لم يكن كافيا لمواكبة التطورات ميدانيا. مع وصول الاشتباكات إلى الرمادي القريبة من الحدود الأردنية، اقترح طارق أن يذهب إلى هناك، ولما وصل منعته السلطات العراقية من العمل لأنه لا يحمل تصريحا. ذهب إلى بغداد، لكنه لم يستطع استخراج التصريح وبدأ الاستعداد للعودة إلى الأردن. اتصلت ببعض المسؤولين العراقيين لحل المشكلة، وقبل أن يصل طارق إلى عمان حصلت له على الموافقة للعمل في العراق. ما إن وصل إلى منزله بعمان حتى قالت له زوجته: لقد وافقوا لك على العمل. فعاد أدراجه إلى بغداد دون تبديل ملابسه. كان المطار حينها يقصف، وأعد تقريراً ميدانياً بمجرد وصوله. ذهب بعد ذلك إلى مكتبنا في بغداد للالتحاق بالفريق الذي كان يعمل على تغطية متواصلة من العاصمة العراقية. ورغم أننا أعطينا إحداثيات المكتب لقوات التحالف والقوات الأمريكية لكنهم قصفوا المكتب، واستشهد طارق يرحمه الله.
التلفزيونات العربية الرسمية كانت تبث نشراتها الإخبارية على رأس الساعة، لنستقطب المشاهدين ونمنحهم متسعا من الوقت لمشاهدة النشرة الرسمية في بلادهم. خلال تلك الفترة كنا أسرة صغيرة، نشاطر بعضنا البعض مشاكلنا الاجتماعية وأفراحنا ومناسباتنا الخاصة. كان الشغف والاندفاع مسيطرا على جميع العاملين في مقر القناة الصغير. كانوا يعملون ساعات متواصلة دون تعويض أو مقابل، هدفهم فقط إخراج محتوى إخباري متميز وغير مسبوق في القنوات الإعلامية العربية. ومن الطرائف أن الزملاء كانوا يسألونني: متى تنام يا أبو جاسم؟؛ كنت دائماً حاضراً في غرفة الأخبار، في الصباح والمساء، أتابع الجزيرة في السيارة وأشاهدها عندما أعود إلى البيت. كان من بين التحديات الطريفة التي واجهتنا داخلياً تدريب بعض الصحفيين والمنتجين على صياغة الأخبار والتغطيات من دون استخدام عبارات التفخيم والألقاب التي اعتادوا ربطها بأسماء الملوك والرؤساء في بلدانهم. أغلب من تعاقدنا معهم من الدول العربية كانوا موظفين في وسائل الإعلام الرسمية، واعتادت ألسنتهم عبارة «السيد الرئيس»، و»صاحب الفخامة والجلالة»، ليجدوا أنفسهم بين عشية وضحها في قناة تورد أسماء هؤلاء القادة مجردة. في بدايات الجزيرة، لم تكن لدى معظم صحفييها ومراسليها خبرة كافية لتغطية الحروب أو العمل الميداني في مناطق النزاعات والاشتباكات، ولم يتدربوا على ذلك. كانوا يتسابقون بكل شجاعة
توقف المشروع بسبب هذا الخلاف. بعد وصولنا لندن تأكد خبر إغلاق قناة البي بي سي العربية وتسريح الموظفين. ركزنا في اختياراتنا على طاقم بي بي سي من المذيعين والصحفيين وتقنيي الغرافيكس والفيديو. بلغ عدد الذين وقع الاختيار عليهم شخصا، من بينهم الزملاء جميل عازر وجمال ريان وسامي 25 نحو حداد ومحمد كريشان وصلاح نجم وأحمد الشيخ وإبراهيم هلال، وغيرهم. واصلنا الرحلة، وتوجهنا إلى المغرب وتونس ومصر والأردن واخترنا عدداً من الصحفيين والمذيعين والفنيين. في بداية الأمر، كنت مرتاحا ولم أكن أشعر بالتوتر؛ لأنني عضو في مجلس يضم أعضاء آخرين نتقاسم معاً المسؤوليات والأفكار. لكن بعد عودتنا، قرر مجلس الإدارة أن أصبح العضو المنتدب والمدير .1996 العام للقناة بالوكالة. اتخذ هذا القرار في مايو كان موعد الانطلاق يقترب، وبما أني أصبحت مديراً للقناة، أصبحت المسؤول الأول عن أي إخفاق في إنجاز مهمة إطلاقها في الوقت المحدد؛ لهذا وضعت خطة، بالتشاور مع مجلس الإدارة، لتحديد على أن يكون الانطلاق 1996 أكتوبر 1 موعد «البث الداخلي» في الفعلي في فاتح نوفمبر، لمدة ست ساعات يوميا. ، الساعة السابعة والنصف مساء بتوقيت 1996 نوفمبر 01 في الدوحة، الرابعة والنصف مساء بتوقيت غرينتش، انطلق بث الجزيرة. كنا نعرض النشرات في منتصف الساعة، لأن معظم
49
48
Made with FlippingBook Online newsletter