AJ 25th Book.

«حي بن يقظان الجزيري» في غابة الصور

الصباح لأطلب من والدي أن يشتري لنا مذياعا كمذياع صاحبه حيا يخرج منه الناس لا كمذياعنا الذي يختبئون داخله. فقد الراديو كل سحره وكثيرا من غموضه لدي بعد تلك الليلة التي رأيت فيها التلفزيون. سيقضي «حي بن يقظان الجزيري» ستة أعوام أخر لا يرى فيها تلفزيوناً قبل أن تتيح له مناسبة سعيدة السفر إلى الخرطوم. كان التلفزيون في الأيام تلك قد أصبح ملونا قريبا من الحياة، يحاكي هيئتها ما وسعته التقنية. ثم تمر ثلاثة أعوام أخر ما رأى فيها «حي بن يقظان الجزيري» التلفزيون غير مرة أو مرتين. كنت أظنني وحدي. لكني بعد معرفة بجغرافيا أكبر من جغرافيا قريتنا وبلاد أكثر من بلادنا، عرفت أن ذلك كان على نحو ما حال الأرياف جميعا في البلاد العربية. كان الجميع أداة طيعة في يد الدولة الممسكة بكل شيء، ومما أمسكت قوة: الإعلام. تصدر للناس الأخبار التي تريد وتحجب عنهم ما يفسد عليها براءتهم السياسية. كان العالم جزرا قبل أن تنكسر الجدر أول التسعينات ثم تتهاوى تباعا حتى صار العالم قرية في توصيف كلاسيكي قديم أراد أن يمسك بحال الاجتماع الإنساني بين يدي تدفق المعلومات والصور. كلا. لقد صار العالم غرفة وربما أقل من ذلك. ما كنت أظنني، بهذه الصلة الفقيرة بالتلفزيون، سأكون بعد سنوات من تخرجي من الجامعة في قلب تجربة إعلامية مثيرة اسمها الجزيرة، كان قدرها أن تبدأ مع عهد انفتاح المجتمع الإنساني بعضه على بعض. كانت الجزيرة معنى جديدا في الإعلام العربي، ولم تأت ريادتها وإبهارها بسبب الجانب التقني وحسب، بل فيما اجترحته هذه القناة من تعاط مع الخبر، لا سيما السياسي، يفارق معهود الإعلام العربي الذي لم يكن

«حي بن يقظان الجزيري»فيغابة الصور صحفي رئيسيفي قناة الجزيرة الإخبارية | فوزي بشرى

صاحب لوالدي من كبار تجارها. في المساء أخرج شباب الأسرة إلى فناء الدار صندوقا ضخما بإطار خشبي كبير يحيط بسطح زجاجي مقعر. بدا لي مذياعا عظيما أكبر من مذياعنا في القرية. قلت في نفسي هكذا إذن تكون راديوهات المدينة. أحدهم فعل شيئا بالصندوق فالتمع السطح الزجاجي ليخرج منه خلق يحدثوننا حديث بعضنا لبعض، وجاء بعدهم مغنون وجاءت نشرة الأخبار، فإذا رئيس البلد الذي كنا نستمع إلى أحاديثه في رهبة، ها هو ذا جالس بيننا كأنه يكلمنا نحن دون الآخرين في جلستنا تلك. بقيت في ركن قصي أنظر في عجب إلى الصور التي تتحرك وإلى المغنين الذين بدأت أغنياتهم تخرج من ذاكرتي فيكسوها هذا الصندوق جسدا وروحا. لم أنم ليلتي، بقيت أنتظر

ما كان التلفزيون شائعا في الريف السوداني، في طفولتنا سني الستينات، شيوعه الآن حتى ليكاد يصبح اليوم بعض متاع كل دار. فالناس يدينون بثقافتهم للإذاعة يتحرون لديها الأخبار، ويطلبون الترفيه، ويسرون بالغناء لمغنين يسمعونهم ولا يعرفون لهم هيئة. كانوا يبصرون العالم بآذانهم، فسطوة التلفزيون، أو قل الصورة، ما أحاطت بالخلق بعد. ثم دخل «حي بن يقظان الجزيري» غابة الصور. رأيت التلفزيون أول مرة بعد أن تجاوزت السابعة من عمري. فقد اضطرتنا ليلة ليلاء ماطرة إلى المبيت -والدي وأنا- في مدينة سنجة، الأقرب إلى قريتنا، عند

أنفقت طفولتي وصباي وطرفا من شبابي أتعرف على العالم عن طريق أذني والقراءة: الإذاعة والكتاب، فلم يكن في بيتنا تلفزيون، ولما رأيته على كبر مصدرا للمعارف والتسلية، كف العالم عن أن يكون محض أصوات وأصبح أكثر من أي وقت مضى، لي ولأهل الأرياف القصيات، صورة شديدة التكثيف شديدة الاحتشاد بالمعاني، وفي الآن نفسه شديدة القدرة على الخداع والإيهام بقوة أسرها. ذلك أن وقائع الحياة وأحداثها أصبحت على نحو ما (مدركات بصرية) تصادر أناة التفكر وتسطو على (المتخيل) بشديد وطئها على الإدراك.

69

68

Made with FlippingBook Online newsletter