AJ 25th Book.

«حي بن يقظان الجزيري» في غابة الصور

يقول غير أن (رجلا أسود أصبح رئيسا لأمريكا). إذا وجدت ظلالا أخرى من المعاني ومن الإيماءات المحفزات للتفكير والتأمل، فاعلم أن ذلك جاء من تلقاء اللغة التي أومأت إلى مكنون الصورة. لقد أشركتك –عزيزي القارئ- في انشغالي بأمر اللغة، وكيف بدت لي مطلبا لا يكون إحسان عملنا بغيره. لقد جهدت أن أحقق للتقرير التلفزيوني -مهما كان موضوعه- جدة في كتابته. ولكم ضاق أقوام بصنيعي ذاك وطرب آخرون، غير أنني رضيت لمّا رأيت جمهرة الراضين تزيد وأعداد الضائقين تنقص. ورضيت أكثر لما استفز صنيعي زملاء كثيرين لطلب فرادة أصواتهم وطريقة كتابتهم. دخل «حي بن يقظان الجزيري» غابة الصور لا يفرق بين واحدة وأخرى أول يومه، فلما أتم خمسة وعشرين عاما وجد من نفسه جرأة أرجو ألا تضيق بها إذ يحدثك: اسع إلى أن يكون نصك المسموع صدى من نصك المرئي، وأن يكون هذا ترجيعا لذاك دون أن يحاكي أحدهما الآخر. فإذا اطمأنت نفسك إلى سلامة طريقتك في الكتابة بالحرف وبالصورة فبقية الطريق إنما هو مجاهدة في الإحسان، وذلك طلب ما له من نهاية ونشدان ما له من دراك.

في التلفزيون إغراء بالترخص في جودة التعبير وحسنه، وعناية أكثر بسلامة اللغة من جهة نحوها، وكل ذلك بذريعة السرعة للحاق بسوق الأخبار. وهذا مذهب في العمل لا أحبذه. للجاحظ كلمة باذخة في شأن المعاني الملقاة على قارعة الطريق، ما تصنع بها بعد التقاطها؟ هنا السؤال. اجعل مكان (المعاني) (الأخبار) فهي ما تنفك تتجاوب أصداؤها فيما يبث على الناس كل آن. وقول الجاحظ يردك إلى معنى أراده عنترة حين قال إن الشعراء ما غادروا من متردم. وكان قد سأل كالمستفهم: هل غادروا؟ ما غادروا يا مولاي. ليس لك إذن إلا البحث عن آنية لغوية جديدة تصب فيها السياسة المدار فعلها، منذ خلق الله الدنيا، حول القوة والنفوذ والصعود والهبوط والمحو والإنشاء. اللغة أداة الإنسان العظمى في نقل الأفكار والمشاعر والحق والباطل والتعبير عن شريف القول وهابطه. اللغة بيت العالم ودثاره. ولست أزعم أن الصحافة التلفزيونية يجب أن تطلب لنفسها صفة العمل الإبداعي، فهي ليست الرواية ولا هي الشعر ولا هي القصة ولا غير ذلك من أجناس العمل الأدبي، ليست كذلك لأنها متصلة بالواقع الماثل شخوصا وأحداثا في زمان ومكان معلومين. لكن هذه الأطر الحابسة طلاقة الخبر الصحفي يمكن أن تنعقد لها صلة ولو يسيرة بسرد يتوخى قيمة فنية فيما وراء الخبر تحرره من سلطة الآن. كنت أقول لخاصة أصدقائي إن لي أربعين ثانية هي سنام ما صنعت في التلفزيون، هي في تقرير فوز أوباما. 1:08 إلى 00:28 خبر ويزيد. إنها الثواني من أربعون ثانية اندغم فيها النصان المرئي والمحكي وبلغا في تقديري ما قصدته بتفتيق المعاني المستكنة في الصورة. ذلك أن خبر الصورة لا

سأريك هنا تقريرا لا يكاد يشكل خبرا. فخبره عن احتفالية بالعيد التسعين للمناضل الإفريقي نيلسون مانديلا، خبر يمكن أن يُلقى به في ذيل النشرة للترويح عن شقي أخبارها. رؤية الخبر ما وراء الاحتفال أخرجته من كونه خبرا خفيفا إلى خبر يقتعد مكانا متقدما في شاغل السياسة وهمها. ستجد كيف أن السرد ظل وفيا لخبره لكنه انفك عن أسر (الصورة) فطلب لها معاني ما جاءت في مرفقات الصور مما كتبه مصور ودفع به إلى وكالته المحتفية (بالحفل) لا (المعنى). خذها مني. لن تقول لك الصور خبيئتها حتى تستنطقها بلا رفق، وما زال ذلك شأنك معها وشأنها معك حتى يلين لك قيادها ويسلس. وإذا كان ذلك هو الشأن في الصورة أو اللغة المبصرة فإن عدة الصحفي التلفزيوني لا تكتمل حتى يمتلك قدرة تعبيرية تواتيه لكل موضوع وهو يصنع هذا التركيب بين ما يُرى وما يُسمع. شغلني أمر اللغة في الكتابة الصحفية، وكنت أرى أن أمر العناية بها يجب ألا يقل بحال عن أمر العناية بالصورة التي هي عنصر رئيس في الصحافة التلفزيونية. ولقد وددت دائما لو أن الصحفيين صاروا إلى اصطناع لغة تميز كل واحد عن الآخر تماما مثلما هم متمايزون في أصواتهم. ذلك أدعى لثراء الشاشة بتنوع أصواتها وأغنى لطاقتها التعبيرية. وقد جعلت ذلك مطلبي في الكتابة التلفزيونية على نفور ممن استقر لهم أن لغة الصحافة يجب أن تكون اجترارا دائما للغة تخشبت وفقدت طلاوتها، وهم يحاجون بقولهم إن تلك هي لغة العامة.

فالأحداث هي جسد التاريخ، وهي في التحليل النهائي نهر متدفق لا بحيرات معزولة عن بعضها. التاريخ حالة حركية ليست ساكنة وكذلك الصور. فصورة سقوط برجي التجارة العالميين في نيويورك كانت المعادل الصوري -والمبرر الأخلاقي إن شئت- لخطاب الحروب الأمريكية التي خيضت تحت راية (محاربة الإرهاب) في أفغانستان والعراق، بكل ما فيها من عنف وسفك دماء. وقد بدا لي أن أوجب واجبات الصحفي ألا يكون بريئا تجاه ما يسمع ويرى. عليه أن يصطحب موقفا نقديا تجاه الأخبار. ما قصدته بالموقف النقدي هو أن يصدر الصحفي عن رؤية تمكنه من رواية القصة الخبرية باعتبارها خطابا معبرا عن موقف صانع الخبر. ذلك أن كل خبر يتخفى تحته خطاب ما، وأن الأخبار في جوهرها اصطراع خطابات تستتر وراء الصور. ينجح الصحفي في مهنته بمقدار نجاحه في إماطة تلك الأقنعة ورؤية الأشياء على حقيقتها، ولا سبيل للصحفي وهو يخوض في شائك الأخبار المثقلات بالخطابات إلا أن يطور رؤية تمكنه من رؤية المتفرقات في سياق يردها إلى وحدتها فينتفي عنها ما يبدو من نفرة بعضها عن بعض. الصحافة بلا رؤية كدٌ لا طائل منه، وضرب في بيداء بغير زاد، وضيعة في الطرقات المتشابهات. ولذلك رسخ لدي أن كل خبر يحدد طريقة معالجته وطوله وقصره ولغته كذلك. ما علاقة (البدون) مثلا في المجتمع العربي الخليجي بفوز أوباما؟ أو صراع العروبة والزنوجة في السودان بقضية أن رجلا أسود أصبح رئيسا في بلد غالب أهله من البيض؟ في تقرير (فوز أوباما) ستجد مثل هذه النجعات البعيدة في طلب ظلال للمعاني والصور توسع مدارك المشاهد وتفتح أمامه أفقا للتأمل.

73

72

Made with FlippingBook Online newsletter