147 |
ربــوع المعمورة على اســتثمار مجال الدين من أجــل مواجهة كل من يعارض دين المجتمع، الذي هو دين الدولة ورمز هيبتها؛ إذ أحكمت الدولة سيطرتها على العقول لتفرض مجموعة من القوانين والتشــريعات، في ظل مناخ اجتماعي مســاعد لا يقبل تعدد الأديان واختلافها، لأن من شأن ذلك أن يُحدث انهيارًا في بنيان الدولة القائمة على الوحدة والتجانس. وعليه، فقد مهّد هذا المناخ بشروطه وترتيباته المتقدمة لظهور أول الاستعمالات لمفهوم الجريمة السياسية. فــي المقابــل، فإن انتقاد الأديان ومواجهة بعضهــا لبعض لا يعتبر جريمة بالمرة في الدولــة العلمانية، حتــى وإن أثار امتعاض الناس. فالعودة إلى حفريات المفهوم من شأنها أن تساعد في تحديد جذور مفهوم الجريمة السياسية رغم الصعوبات المنهجية التــي تعتــرض البحث في ذلك، خصوصًا عندما يتعلق الأمر بظاهرة تاريخية يتقاطع فيهــا السياســي بالاجتماعي والديني من جهة، وفي ارتبــاط تاريخي بجريمة انتهاك ) من جهة ثانية، وإن كانت هذه الجريمة لا تهمّنا منهجيّا 14 حرمة شــخص الملك( فــي هــذا البحث، بقدر ما تعنينــا الخيوط التي تربطها بالجريمة السياســية وكذلك بالجريمة الإرهابية، لاسيما أن مفهوم الجريمة السياسية تطوّر تاريخيّا في تفاعل مع تلك المفاهيم؛ فتاريخ المفهوم موضوع دراستنا هو تاريخ سياسي أكثر منه قانوني. لقد استنفد الدين أدوراه في وحدة الدولة والمجتمع بعد صيرورة العَلْمَنَة التي عرفتها المجتمعات الأوروبية، وسلســلة الثورات التي انطلقت من بريطانيا وفرنسا؛ إذ ظهر مونتيسكيو مشكّكًا في مضمون الجريمة السياسية، معتبرًا إياها فضفاضة وغير دقيقة؛ ) والدقة في صياغة 15 حيث إن من خصائص التجريم والعقاب مراعاة مبدأ الشرعية( القاعدة القانونية الجنائية. وقد مهّد مونتيسكيو بأفكاره التي انطلقت مع عصر الأنوار لظهور مؤسّس القانون الجنائي في حُلّته الحديثة وهو الإيطالي سيزار بيكاريا صاحب .) 16 ( " في الجرائم والعقوبات " الكتاب الشهير . سي ازر بيكاريا والجريمة السياسية 3 أكد الفقيه القانوني والأخصائي في علم الجريمة، ســيزار بيكاريا، في كتابه الشــهير ) أن تبرير العقاب على أُسُس 1764 ( " في الجرائم والعقوبات " الذي يحمل عنوان: عقلانيــة يعني تقليل العنــف كمّا وكيفًا إلى حدوده الدنيا في المجتمع، غير أن هذه القاعــدة لــم تكن لتقتصر على العنف المرتبط بالجرائم بين الأفراد، وإنما شــملت
Made with FlippingBook Online newsletter