| 148
أيضًا العنف الذي تســتتبعه ردود الأفعال على الجرائم من قِبَل الســلطات العامة، أو مــن بعــض الجهات الخاصة التابعة لها. كان هــدف بيكاريا هو تنظيم حق العقاب، واجتثاث جذور كل صور الانتقام والثأر وكل أشكال العنف المرتبطة بالمعتقد. إن أبرز ما ميّز فلسفة القانون الجنائي في عصر الأنوار هو ظهور هذا الكتاب الذي أطلق نقاشًــا فقهيّا مهمّا حول مبدأ الشــرعية، ومن ثمراته المطالبة بالقاعدة القانونية المجردة والصياغة الدقيقة للنصوص الجنائية ضمانًا لاستقرار المراكز القانونية بعيدًا )، التي تسمح بامتداد الحماية الجنائية إلى جميع 17 عن العبارات الفضفاضة والمرنة( الأفعال والنتائج المراد تجريمها دون أن يشــكّل النص القانوني عائقًا لملاحقة تلك الأفعال والنتائج. كما ارتفعت أصوات تنادي بإســقاط جريمة انتهاك حرمة شــخص الملــك، وتقنيــن الأفعال الجرميــة، وتدوين الجرائم في قوانيــن مجردة وواضحة، وإســقاط عقوبة الإعدام بالنســبة للجرائم المرتبطة بأمن الدولة. وتعزّز هذا المنحى مع الموجات الجديدة للانتقالات الســلمية نحــو الديمقراطية في العالم بعد أن تم الاعتراف بالحق في الثورة السلمية ضد الغطرسة والطغيان. إن فلسفة الأنوار الجنائية ضَخّت نَفَسًا جديدًا في منظومة القيم الجنائية التقليدية التي تعتبــر الحاكم أو الملك مركز اهتمامها بــدل المواطنين وحقوقهم وحرياتهم. وفي ظل هذه التحولات أصبح المجرم السياسي يتمتع بوضع اعتباري خاص مقارنة مع باقي الجرائم؛ حيث إن مُحَرّك هذه الجريمة هو سياسي صرف يرتبط بهموم الناس وطموحاتهم بعيدًا عن المصالح الشخصية والفردية. وفي هذا السياق، أُسْقِطَت عقوبة الإعدام ومجمل العقوبات القاسية في حق من يعتبر مجرمًا سياسيّا مع إمكانية خفض العقوبة والاستفادة من امتيازات متصلة بالمعاملة داخل السجون. لقد مثّلت المدرســة الكلاسيكية في القانون الجنائي إذن، ثورة مزدوجة؛ أو ً: ثورة ضد قســوة العقوبات، وثانيًا: ثورة ضد شطط القضاة، وكان أكبر مظهر لهذا الشطط هــو حق القضاة ســابقًا في تحديد ما يعتبر جرائــم، دون معقب، وحقهم في إيقاع الجزاء الذي يريدون بدون أن يتقيّدوا بقائمة دقيقة من العقوبات الموضوعة بشــكل مسبق. من هنا، يمكن التأكيد أن ســياق فلســفة الأنوار المنتصرة لقيم الثورة الفرنسية سمح بتحديد وتدقيق مفهوم الجريمة السياســية، وعزلها عن جريمة انتهاك حرمة شــخص الملك؛ حيث أصبحت الجرائم السياسية -في سياق تطور الأحداث- ذات مضمون
Made with FlippingBook Online newsletter