| 208
في الحقيقة، ليســت الظاهرة بجديدة، فمنذ الثمانينات برز زعماء يتباهون بجهلهم، وبأنهــم رجــال عاديون من صفــوف الجماهير، علــى غرار رونالــد ريغان. وهذا التعريف نفسه يصبح جزءًا من الخطاب الديماغوجي الذي يسعى إلى كسر المسافة مع المســتهدَف بالخطاب، الناخب المحتمل. فالقائد الشعبوي ال يمثل الشعب، بل يجســده. إن مفارقة الشــعبوية أنها فعل وحركة تتبلور من داخل الديمقراطية، تحتاج مؤسســات الديمقراطية ومســاطرها وقواعدها، اللتهام الديمقراطية وتحويلها لشيء مختلف دون تحطيم واجهتها. تقوم الشــعبوية على إنكار وجود أســباب موضوعية للتراجع االقتصادي واألزمات االجتماعية والسياسية التي تعيشها الديمقراطيات. بالنسبة لها، ظواهر التغير المناخي وغالء الطاقة وندرة المواد األساســية كلها مجــرد مؤامرات محبوكة. صناعة العدو مكون أساسي في الخطاب: ضد المهاجرين، ضد المؤسسات الدولية، ضد اإلسالم، ضد مركبات البحث العلمي، ضد اإلعالم التقليدي المتآمر. تعيش الشــعبوية في وهم ماض تتم أســطرته، عبر تخصيب التاريخ الزاهر من جهة، والتاريخ الســلبي الذي يضع اآلخرين موضع االتهام والعداء، من جهة أخرى. ترفع شعار حرب صليبية الستعادة سنوات المجد والنقاء الوطني، العرقي أحيانًا، وترميم ) 5 السيادة المخترقة وتحصين الحدود، وترسيم التميز الوطني عن اآلخرين.( في عالم ترامب وبوريس جونســون وبولســونارو وأوربــان، تتخذ المواقف الحدية والمعلومــات المضلِّلــة وتيرة يومية بحيث يحتجــب الحدث خلف الحقه فال يظل وقت للتمحيص والتقييم والربط بين األشياء. ال مفر من االنخراط التام في الموجة. المشهد السياسي فرجة لكن خلفها يكمن مهندسون من الخبراء والباحثين في البيانات ، يرشــدون محترفي السياسة إلى سبل كسب معارك الرأي العام Big Data الضخمة وتفكيك معســكرات الخصوم وفتح قنوات اســتهداف الناخبين عبر كل الوســائط التكنولوجية المتاحة. الكتاب يحكي قصة هؤالء الذين ال يظهرون أمام الكاميرا، بل ينهمكون في إعداد وجبات المطبخ السري للزعماء الجدد الذين يختطفون السياسة رهينة في قبضة الشعبوية الجديدة. إن هوية الكاتب وتجربته تضيء أهمية الكتاب وميزاته، وربما نقائصه أيضًا؛ فجيوليانو ، ويزاول " فولتا " دا إمبولي باحث في العلوم السياسية، يدير مركزًا للتفكير في ميالنو
Made with FlippingBook Online newsletter