31 |
وهذا ما عبَّر عنه بريجنسكي منذ مطلع التسعينيات بقوله: إن روسيا من غير أوكرانيا .) 58 تصبح دولة عادية، وبأوكرانيا -جزءًا منها أو تابعة لها- تصبح إمبراطورية( فأقل ما ســترضى به روســيا من هذه الحرب هو اقتطاع الجزء الشــرقي الثري من أوكرانيا وتملُّكه، وضم سكانه ذوي الغالبية الروسية األرثوذكسية إلى روسيا، وربما تتملَّك أيضًا جزءًا من الســاحل األوكراني المطل على البحر األســود، مع االحتفاظ لنفســها بجزيرة القِرْم وبحر آزوف ألهميتهما اإلســتراتيجية. فليس في وسع روسيا -إســتراتيجيًّا- التسليم بالخسارة الكاملة في أوكرانيا، مهما يكن ثمن الحرب، حتى وإن اقتضى األمر انشــطار أوكرانيا إلى شــطرين -على نحــو ما حدث أللمانيا في خواتيم الحرب العالمية الثانية- وتحوُّل نهر (الدَّنِيبَر) األوكراني إلى جدار برلين مائي بين الشــرق والغرب. فمنطق الجغرافيا والتاريخ في صالح روســيا في هذه الحرب، ألنها تحارب في بلد متاخم لها، وبينها وبينه تداخل بشــري وتاريخي وثقافي، بينما يحــارب األميركيون حربًا غير مباشــرة من بعيد، حيث تفصــل بينهم وبين أوكرانيا نحو خمســة آالف كيلومتر. واألمر نفسه يَصْدُق على الصراع بين الصين والواليات المتحدة على تايوان؛ حيث منطق الجغرافيا والتاريخ في صالح الصين التي ال تبعد عنها تايوان ســوى نحو مئة وســتين كيلومترًا، بينما تبعد عن الواليات المتحدة أكثر من اثني عشر ألف كيلومتر. ويتعين التأكيد أخيرًا على أن الصين لن تسمح بهزيمة إستراتيجية لروسيا أمام الغرب، بشــكل يغيِّر من طبيعة نظام الحكم الروســي، أو يحجِّم روسيا ويفكِّكها، أو يجعلها دائرة في الفلك الغربي. فالحدود بين الصين وروسيا تزيد على أربعة آالف كيلومتر، وأي ســقوط لموسكو في فلَك الغرب سيكشف ظهر الصين أمام حصار إستراتيجي غربي في البر، مع الحصار البحري الذي تسعى واشنطن لضربه عليها، من جهة بحر الصين الجنوبي وبحر الصين الشــرقي. وهذا العمق اإلســتراتيجي الصيني، الذي قد يتحول في أي لحظة إلى مَدَد ال ينقطع، يكفي وحده لجعْل هزيمة روسيا في أوكرانيا مستحيلة عمليًّا. صحيح أن الصين ستستفيد إستراتيجيًّا من استنزاف الطرفين، الروسي والغربي، كما ستستفيد اقتصاديًّا من اعتماد روسيا عليها، ومن تراجع النفوذ الروسي ). لكن انهيار روسيا، أو تغيير عقيدتها 59 في آسيا الوسطى، كما الحظ بعض الباحثين( اإلستراتيجية، أو هزيمتها الكاملة أمام الغرب، أمر ال تستسيغه اإلستراتيجية الصينية.
Made with FlippingBook Online newsletter