الصنعة الشعرية في مطالع القصائد ونهاياتها أدب ونقد
عبد الرّّزاق الد ّّرباس لكل شاعرأسلوبه وطريقته في بناء قصيدته، وهذا الأسلوب ناتــج عــن خبرة تراكميــة ومــدى تأثّّــر الشــاعر بمــا قــرأ وكتــب واسـتعذب مـن نتـاج أدبـي خلال مسيرتـه مـا كان لـه الانـعكاس المباــشر على نتاــجه الأدــبي وفي لفتــة تاريخيــة نجــد أن القصيــدة العربيــة كانــت تتــميز ببريـق البـدء الـذي يستهـوي القـارئ والسـامع وتظهـرفيه براعة الشــاعر في النظــم وتطويــع المفــردات والمقــدرة على ســبك المطالـع بمـا يدهـش، وهـذا مـا دعـاه النق ـّّـاد (براعـة الاستهلال) كمـا قـال قدامـة بـن جعفـروالآمـدي في بـواكيرالتنـظيرالنقـدي ضي القصيـدة وفـق مـا هـو مرسـوم لهـا � للشـعر العربـي، ثـم تـم حتى تأتــي الدفقــة الأخيرة على شكل بيــت صــادم أو حكمــة عميقــة أو عظــة وعبرة أو مبالغــة تفــوق النامــوس المتعــارف علــيه، ليلــفت الــشاعر الأنــظار لــتميزه وتــفّرّد أــسلوبه وغالبـا مـا عرفـت القصائـد بمطالعهـا فأخـذت القصيـدة شـهرتها مــن البيــت الأول، وإذا كان الأمــر حرفــة وصناعــة فــإن الوصــول ًًا للتـميز في ذلـك ليـس بالأمـر السـهل، وفي التجربـة الشـعرية كـثير ما يلج الشعراء لعالم القصيدة بسهولة، ولكنهم يبد ّّلون المطلع مرا ار وتكرا ار ليختاروا البيت الذي يرونه لائقا بالبداية، ذلك أن الاستهلال يعطـي النـص مفتـاح القبـول والإدهـاش الـذي ينشـده الشــاعر، فــيترك المطــروق الكلاســيكي إلى الجديــد المبتكــر أو . المنساب الجميل على طريقة (السهل الممتنع) كما يقول النقّّاد وتختلـف قـوة المطالـع حسـب غـرض القصيـدة إن كانـت مديحـا أو رثـاء أو غـزلا أو تـأملا أو تحليقـا شـعريا وتطوافـا على الأغـراض كلها بروح عصرية متمردة، ومن المطالع القديمة التي جرت على : ِِكل لسـان قـول أبـي تمـام؛ حبيـب بـن أوس الطائـي
ِِالسيـــــــــف أصــــــــــــــــدق أنبــــــــــــــــــــــــــــــــاء مــــــــــــــــن الكــــــــتب ِ واللعــــــــــــــــــــــــب �ِّ في حد ّّه الحــــــــــــــــد بــــــــــــــــــــــــين الجــــــــــــــــــــــــد فقـد ذهبـت مـثلا في النـاس، وصـارت مفتاحـا خالـدا للدلالـة على .ًً القصيـدة والحادثـة التاريخيـة معا وفي دهشــة المطلــع تتبــدى مقــدرة الشــاعر في الاختزال والإيحــاء والتحليـق، والعذوبـة في اللفـظ والإيقـاع الشـعري، وتوافـق نهايـة الصدرمع حرف الروي، الذي أسماه النقاد (التصريع)، كما في مطلـع قصيـدة شـهيرة لأبــي الـعلاء المعــر ّّي التي يفخــر بهــا بنفســه : ويتكلـم عـن طموحـه وعلـو همّّتـه وإيثـاره أرى العََـنقــــــــــــــــــــــــــــــــاء تكبـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــر أن تُُصـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــادا ِِـنـــــــــــــــــــــــــــــــــــــادا ِِـــــــــــــــــــــــــد مََــــــــــــــــــــــــن تُُطيــــــــــــــــــــــــــــــــق له ع فََجاه ومـن المطالـع التي رسخـت في الذائقـة وصـارت كلمـة مـرورللعصـر سي وتجربــة الشــاعر ابــن زيــدون في الحــب والسياســة � الأنــدل ّّــص تبــدّّل الحــال، وانــعكاس والحيــاة، ذلــك المطلــع الــذي لخ الوقائــع في حالــة الحــب، حيــث استهــل ابــن زيــدون قصيدتــه باللعــب على أوتــار الطبــاق، والبــوح بــالأنين الــذي يصــدره حــرف النـون الـذي كـر ّّره ثمانـي مـرات؛ في كل شـطر أربـع مـرات بطريقـة :ًً هندســية متوازنــة، قــائلا أضحـى التّّـنائــــــــــــــــــــــــي بََديــــــــــــــــــــــــــــــــلا عن تََدانيـنــــــــــــــــــــــــا ونــــــــــــــــــــاب عن طيــــــــــــــــــــــــب ل ُُقـيـانــــــــــــــــــــــــا تجـافينـــــــــــــــــــــــــا ّّــعر الحديــث والمعاصــر مطلــع قصيــدة أمّّــا دليــل ذلــك مــن الش (ترصيـع بالذهـب على سـيف دمشـقي) للراحـل الكـبير نـزار قبانـي الذي كان يخاطب دمشـق وكأنه يخاطب فاتنة سـاحرة الجمال : وعلى طريقــة تشخيــص المنــادى فرشــــــــــــــــــــــــت فوق ثراك الطاهـــــــــــــــــــــــــر الهُُـدُُبــــــــــــــــــــــــــــــا ََـت ََـبــــــــــــــــــــــــــــــــــا؟ فيا دمشـــــــــــــــــــــــــق بمـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاذا أبدأ الع وبالانتقــال إلى ختــام القصائــد أو (الغلقــة) كمــا يســمّّيها أهــل الحرفــة، فهي لا تقــل أهميّّــة عــن المطلــع، وبهــا يصــب الشــاعر
عصــارة فكــره وخلاصــة تجربتــه والمغــزى مــن القصيــدة في بيــت ختامــي مزلــزِِل، لا يترك بعــده شيئــا كــي يُُقــال، ويــدرك القــارئ والســامع أن هــذا البيــت هــو النهايــة الأكيــدة للقصيــدة حتى وإن كان يسمعها للمرة الأولى، وبذلك يصل الشاعربالقارئ إلى مرحلة التمــاهي والانصهــار الوجدانــي، وكأن الاثــنين يتحدثــان بلســان واحد، وهذا ما نجده في قصائد الفحول الكبارمثل بشاربن برد :ًً الــذي ختــم قصيــدة الحــب والإعجــاب بإحداهــن قــائلا لو كنــــــــــــــــــــــــــــــــت أعلــــــــــــــــم أن الحــــــــــــــــــــــــب يقتلـــــــــــــــــــــــني أعــــــــــــــــــــــــد ََد ْْت لــــــــــــــــــــــــي قبل أن ألقــــــــــــــــــــــــاك أكفانـــــا أمــا الشــاعر العبــاس بــن الأحنــف الــذي هــام في حــب فتاتــه صي الرّّكبــان الذاهــبين � الحجازيــة، فإنــه في طــي القصيــدة يــو للحجازأن يأتوه بشربة ماء من ديارها، لأنه يرى في تلك الجرعة شــفاءه مــن الأســقام، لكنــه في نهايــة القصيــدة يضــع احتمــال هلاكه من الحب قبل عودتهم، لذا يوصيهم برش ذلك الماء على قبره، لأنه قتيل حبّّها لا قتيل الحروب والمعارك، فيختم مطو ّّلته :ًً ّّــص معاناتــه قــائلا في بيــت يلخ ّّــــــــــوا على قبــــــــري مِِن المــــــــــــــــاء واندبـــــــــــــــــــــــــــــــــوا ِِف ََـرش ُُـــــــــــــــــــــــــــــروب قـتيـــــــــــــــــــــــــل ك ّّـعـــــــــــــــــــــــــــاب لا قـتـيــــــــــــــــــــــــــــــــل ح ومـن خواتيـم الكبـار المعاصريـن نجـد بيتـا للشـاعر عمـر أبـو ريشـة
في قصيدته المشهورة التي يلوم فيها أمته على الفرقة والانقسام : ِِوالضعف والاستبداد حيث يختمها بقوله المأثوروبيته المشهور ِِلا ي ُُــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــلام الذئــــــــــــــــــــــــــــــــب فــــــــــــــــــــــــي عدوان ِِــــــــــــــــــــــــــــــــــه إن يــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــك الر ّّاعــــــــــــــــــــــــــــــــي عــــــــــــــــــــــــدو الغنــــــــــــــــــــــــم ومــن الوجهــة نفســها التي فيهــا الحكمــة البالغــة والخلاصــة المختصــرة، حيــث قــوة المــعنى وعظمــة الــعِِبرة في أقــل الكلمــات أذكر خاتمة قصيدة أمير الشعراء أحمد شوقي في مدينة زحلة، وهي الأغنيــة الملحّّنــة المشــهورة تحــت اســم جــارة الــوادي، حيــث يجعل الشاعربيته الأخيرزبدة القصيدة في الدهشة والإعجاب
: ٌٌوالبُُعــد الفلســفي والتحليــق الشــاعري فيقــول ِِلا أمــــــــــــــــس مــــــــــــــــن عم ْْــــــــــــــــــــــــر الزمــــــــــــــــــــــــان ولا غـــــــــد
جُُمِِـــــــــــــــــــــع الـزّّمـــــــــــــــــــــــــان فََـكــــــــــــــــــــــــان يََـوم رِِضــــــــــــــــــــــــاك إذا كان المقــال الــنثري يبــدأ بمقدمــة جاذبــة : وفي النهايــة نقــول وينتهي بخاتمة لافتة للنظر والانتباه، وبينهما العرض والموضوع فيستقيم البناء النثري، فإن الشعربجودة السبك أ ََولى، وببراعة الاستهلال وح ُُسن الختام أحق ّّ، لأنه الفن الأقدم والأجمل ولأنه إضافــة إلى بدائــع الــنثر ففيــه الموســيقى، كمــا قــال الناقــد الفــذ شي والشـعر رقـص � الـنثر م : مـارون عبّّــود شاعروأديب من سوريا
111
110
2025 يوليو 309 / العدد
الصنعة الشعرية في مطالع القصائد ونهاياتها
Made with FlippingBook Annual report maker