torath 309 - july 2025

إضاءة

طرق الباب والذات

كما أن الطرق في حد ذاته يُُمثّّل . القابع الساكن والعالم الخارجي في لحظاته الأولى فعلا نفسيا وحاملا لطاقة القلق لمعرفة هوية القـادم أو الطـارق، والإحسـاس بالمجهـول نحـو هـذا القـادم أمـام الباب، ويتحول هذا الإحساس إلى تفكيروإلى سؤال عن هويته، هـذه الارتباطـات الخفيـة بين الطـرق على البـاب والمجهـول، يفتـح النفس البشرية والذات إلى البحث فجأة عن الأمان والطمأنينة . في اللحظــات الأولى قبــل أن تكشــف هويــة القــادم أو الطــارق واللافــت الجميــل للانتبــاه في العمــارة القديمــة هــو اهتمامهــا بـأدوات الطـرق على الأبـواب التي كانـت تـشكل إبداعـا فنيـا فائقـا أبدعـه الفنـان القديـم، وكانـت غالبـا أدوات الطـرق مـن الحديـد وتتخــذ أشكالا هندســية بديعــة مختلفــة منهــا مــا هــو على شكل اليــد القابضــة أو على شكل حليــة هندســية أو طائــر أو حلقــات إلى غيرهــا مــن الأشكال الجماليــة التي كانــت تضفــي جمــالا على البـاب في إطـار شكلـه الـذي تضمـن نوعـا مـن الاهتمـام بالعناصـر الجماليــة في البــاب أيضــاًً، ممــا يــعني اهتمــام الصانــع القديــم بأهمية الطرق وخاصة أن الدورالعربية القديمة كان يمكن أن يكـون البـاب فيهـا بعيـدا عـن عمـق الـدار العامـرة بالـسكان، ومـن الأسـف أطاحـت الحداثـة بهـذه الأشكال الجماليـة وحـل الجـرس الكهربائــي الآن للإعلام والإعلان عــن الطــارق، مــا جعــل عمليــة الطــرق الآن أكثر غموضــا للــذات الداخلــة، لأن الدرجــة الثابتــة للطــرق الكهربائــي ســتحيل إلى غمــوض هويــة الخــارج المفصــول بالبــاب، فتزداد توترهــا، لأن الإفصــاح بالــرنين لا يكشــف نــوع أو هويــة الطــارق ولــذا تــم اختراع الــعين السحريــة للجــوء إليهــا للتواصل مع الطارق المجهول، للتيقن بعد لحظات التوترالأولى . الباحثـة عـن الطمأنينـة لنوعيـة الطــارق وهويتـه الطــرق على البــاب لــه دلالات متعــددة وهــو مفتــاح لتراســل الــذاتين القابعــتين بين البــاب، حيــث يــشكل مفتاحــا للانسجــام والاســتقبال الــدافئ الحنــون أو العكــس التجهــم وعــدم الرضــا في حضـور الطـارق القـادم، وبالتـالي فإنـه يـشك ّّل رسـالة وفـق معـايير الــذات المتلقيــة للتواصــل برضــا وقبــول أو العكــس، لأنهــا ربمــا تكــون أداة تعريــف للطــارق المجهــول فتتنشــل الــذات المســتقبلة في الداخل من حيرة التردد بين استمرار الإغلاق للباب أو فتحه للطــارق القــادم، وكأن الطــرق ونوعيتــه أداة للانفتــاح والتراســل بين القــادم والســاكن

معرفــة مــن الطــارق مــن عــدد النقــرات أو جرســها الموســيقي فعادة، وهذا أمر لافت للانتباه وموجود نفسيا كل منا له لازمة محددة عندما ينقرأو يطرق على بابه بنغمة طارقة ذات جرس محــدد مــن خلال عــدد النقــرات أو تتابعهــا، وبالتــالي سيكشــف هــذا النــوع مــن النقــر المتواتــر واليومــي عــن الطــارق هــذا الأب أو الأخ الأصغــر أو الابــن أو الأم، ويظــل الطــرق أحــد أهــم أدوات سي � التعارف بين ذاتين متقاربتين، وسيتم التلاقي والتواصل النف حتى لو كان الباب الحاجزما زال مغلقا وسيتم الفتح بسلاسة، وسيكون التوقع للقادم سلسلا وهادئا ومبهجا لأن هناك شيفرة . فتحــت مكامــن التواصــل بين ذاتين رغــم البــاب العــازل ويمثــل البــاب مــدخلا مهمــا لنفســية الســاكن والقابــع في الــدار خلفـه، هـذا البـاب الـذي يمثـل موثوقيـة للأمـان والطمأنينـة فهـو سي، وحين يفتــح فإنــه � حين يغلــق يــشكل حالــة مــن الهــدوء النــف يحيــل إلى الخــارج الأوســع بحوادثــه الكــبيرة ومرآياتــه اللا نهائيــة فيحيل إلى المجهول رغم عادية الصورالمألوفة من بشريتحركون في كل اتجـاه وآليـات وضجيـج ومظاهـركـثيرة لا حصـرلهـا، ولكـن يظــل طــرق البــاب رغــم عاديتــه محــيلا إلى فضــاءات نفســية مختلفــة وحيــوات مدهشــة أحيانــا أو مقلقــة، لكنــه يخلــق حالــة مــن البهجــة أحيانــا في حالــة الانقطــاع الطويــل وعــدم التواصــل بين الــذات القابعــة والخــارج بصفــة عامــة، فهــذا القــادم يحمــل إلى الداخــل المنعــزل دلائــل البشــرية وكينونــة الحيــاة والتواصــل وفي حالـة غيـاب الطـرق فإنّّــه يـعني . مـع النـاس في المحيـط الأكبر غيــاب التواصــل، وتعطــل البــاب عــن وظيفتــه النفســية في أن يكون رابطا بين الذات المهجورة خلفه والعالم الخارجي، فالباب مـن دون طـرق يتحـول إلى عـازل قاهـر للنفـس، لأنـه دليـل مـادي ومعنوي عن حرمان التواصل مع البشـر، مما يؤكد على خراب النفـس والـذات القابعـة خلفـه ونكـران النـاس لهـا ونسـيانها لـه، وكأنـه - أي البـاب - أصبـح مـع عـدم الطـرق عديـم التوصيـل بين ًًا طـرفين بشـريين، ويصبـح البـاب تجسـيدا لعالـم الغيـاب وفاقـد بصريــا لا ينفتــح على مرائــي الخــارج، أي إن البــاب أصبــح أداة تعطيل للتواصل بين عالمين، لأن الطبيعة البشرية تحتاج عادة إلى الآخــر لتتواصــل معــه إنســانيا للخــروج مــن العزلــة والغيــاب، ويظـل القـرع على البـاب إيذانـا بوجـود زائـر فيتحـول البـاب بهـذا القرع أو الطرق إلى طاقة إيجابية لفتح كوة للتوقع وللخيال بين

البــاب أحــد مفــردات العمــارة، لأنــه جــزء مــن الــدار أو المنزل، سي واضح المعالــم، وهــو عنصــر مــن عناصــر المكان � ومكــوّّن أســا . أيضــا ومهــم جــدا في هندســة المعمــار مهمــا كان نوعــه أو حجمــه والبــاب الــذي ابتغيــه الآن ليــس بوصفــه حارســا أو عنصــر أمــان وردع في إطــار وظيفتــه، ولكــن لنفكــر في وظيفــة أخــرى معنويــة ومهمة جدا بوصفه فاصلا ماديا بين عالمين، عالم داخلي سواء كان المكان منزلا أو دا ار أو حتى غرفة يقبع فيها فرد أو أفراد ربما يكــون، وفي هــذه الحالــة وفي الأغلــب يكونــون أســرة بينهــم رابــط إلخ، وعالــم .. أســري أو معــارف أو زملاء عمــل أو أصحــاب مهنــة خارجي قد يكون باقي الدارإذا كان الباب يطل على غرفة أوشارع في الحالين فالباب . أو حارة أو إذا كان الباب بابا داخليا في الدار . هنــا هــو عــازل وفاصــل بين ذاتين، ذات خلفــه وذات خارجــه وسيـشكل الطـرق أو النقـرعلى البـاب مـن شخـص مـثلا أمامـه في المساحة الخارجية، وآخرفي الداخل في المساحة العميقة داخل المنزل أو حتى الحجــرة، وســتتباين الفــروق النفســية والمعنويــة والروحيــة بين الــذاتين المنفصلــتين بحكــم الإغلاق للبــاب المانــع والفاصــل والحاجــز بينهمــا، وســنلاحظ أن كل ذات مجهولــة بالنسـبة إلى الآخـر، وفعـل الطـرق سـيكون المفتـاح لـتلاقي الـذات الداخلـة مـع الخارجـة الطارقـة، وسيـشكل الطـرق مرآة التواصل ونوعــه حســب درجــة الطــرق، حيــث سيــشكل الطــرق نوعــا مــن الـوعي بالطـارق الخـارجي، فـإذا كان لينـا فربمـا هـو مـن أهـل الـدار أو المعــارف أو الأقــارب أو المعــروفين لــدى ذات الداخــل قبــل أن يتحــول الطــارق عــن وســيلة الإبلاغ التي اختارهــا وهي الطــرق، فــإذا كان لينــا بطيئــا فهــذا إمعانــا في هــدوء الطــارق وطمأنينتــه التي يحــاول تســريبها للداخــل، وأنــه يمعــن في الإعلان والإعلام عـن نياتـه الحسـنة، وأنـه مـن أهـل المكان أو المعـروفين ربمـا، وإذا كان العكـس وكان رتـم الطـرق عاليـا مفزعـا فإنـه يـعلّّي مـن درجـة الخوف لدى الداخل لأنه ربما عدوأومقتحم بشر ٍٍ، وخاصة إذا تسارعت الطرقات العالية، فإنها دلالة العدوان والشروحيوات وإن الطارق يبث دلائل الغموض، وإنه مجهول الهوية . الكراهة ويفتــح مســارب للخــوف، وتتناســل أوهــام اللحظــة الأولى عــن

عبد الفتاح صبري روائي وناقد مصري

شـر قـادم مـن فاعـل مجهـول يتحـدى السـكينة ويعصـف بهـدوء المكان، وصدمــة مــا ســيدحث تاليــا مــن فاعــل مجهــول، يتحــدى السكينة بصخب مقصود، وشراسة في الطرق تحيل إلى اختلال النفــس وارتبــاك القابــع خلــف البــاب الفاصــل، والــذي عليــه أن يتكهـن بهـول مـا سـيحدث في التـالي الـذي لا يمكـن تكهنـه تمامـاًً، ولكنـه يحيـل إلى شـر وخـوف وهلـع لمسـتقب ِِل الطرقـات مـن هويـة مجهولـة مسـتفزة، يجعـل أفـق التوقـع للشخـص صاحـب المكان تتوقــع المفاجــأة غير الســارة التي يمكــن أن يحملهــا هــذا الطــارق . الـذي يقتحـم المكان بطرقـات فازعـة تحيـل للمجهـول العلاقــة الآن بين الــذات الداخلــة والمســتقبلة للطــرق، وبين الــذات الخارجــة الطارقــة تــدور في إطــار مــن الغمــوض والخــوف والصدمة والمفاجأة، الذات الداخلة التي تتأهب لكسرالفاصل والحاجــز بين عالــم الداخــل الــذي كان مســتق ار ًً، أو بين الخــارج الــذي أصبــح مكــتن از بالخــوف والمفاجــأة، تــشكل هــذه المســاحة النفســية العلاقــة الأولى بين الــذاتين، قبــل الإفصــاح والإعلام ومعرفة ما وراء الطرق المستفز، مساحة نفسية قلقة مضطربة، عكـس الحـال لـو كان الطـرق متخـذا شكل الـلين والهـدوء وعـدم ضي إلى دفء بين ذاتين منفصلــتين يحكــم � التســارع، فإنــه ســيف البــاب الحاجــز بينهمــا، وسيتــم بســرعة التواصــل المباشــر بقطــع وكســر الحاجــز المتمثــل في الفتــح للبــاب المغلــق لتواصــل الــذاتين ويُُــشكّّل طـرق البـاب حدثـا مهمـا حينمـا يكـون طرقـا . المتعضـلين متعارفــا عليــه بــأن يكــون ذات نقــرات معينــة يمكــن مــن خلالهــا

41

40

2025 يوليو 309 / العدد

طرق الباب والذات

Made with FlippingBook Annual report maker