torath 309 - july 2025

سرد الذاكرة

بعيدة، فكانت تلك اللحظة بداية تحو ّّلي من مراقب إلى مساهم . حقيقـي في تفاصيـل الرحلـة بعيون الصقر وقلوب البوصلة رغـم وطـأة السـنين التي أثقلـتني اليـوم، مـا زال بصـري قـاد ار على الرؤية البعيدة، وإن لم يعد بنفس الح ِِد ّّة التي كنت أمتلكها في آنذاك، كان بصري أداة حادة لا تخطئ، وكان عامر . ذلك الزمن المنصوري يعرف ذلك جيداًً، فيتعم ّّد إيقاف سيارته فوق التلال «أطلع!»، وهي الكلمة التي تُُقال :ًً أو المرتفعات، ويقول لي ضاحكا للصقــر «الجرنــاس» المخضــرم حين ي ُُطلــب منــه التمحيــص عــن وكان يرانــي مثــل ذلــك الصقــر، أثــق بنظــري، وأجيــد . فريســة بتلـك الثقـة، انتقلـت مـن . الالتقـاط مـن بعيـد، ولـم أخيـّّـب ظنـه . هامش الرحلة إلى قلبها، من مجرد مرافق إلى عين ترصد وتبادر أمــا ســيف ونصيــب المنصــوري، فقــد كانــا بمثابــة بوصلــتين لا . صى الصحــارى � بشــريتين؛ لا يعرفــان التوهــان، حتى في أق سى يــوم ابتعدنــا عــن المخيــم مســافة طويلــة، وحين وجدنــا � أن موقعـا غني ّّــا بالحبـارى، طلـب الدكتـور مانـع مـن نصيـب أن يعـود

انطلـق نصيـب وسـط الـظلام، بلا طريـق . ليحضـر طعـام العشـاء ممهــد، ولا علامــات هاديــة، ومــع ذلــك عــاد بعــد أقــل مــن ثلاث سـاعات، دون أن يطلـب المسـاعدة اللاسـلكية، وكأنـه يـسير على . خارطــة مرســومة في ذاكرتــه في المقابــل، كنــت أفتقــر تمامــا لتلــك المهــارة؛ فــإذا ابتعــدت . كيلومترين عن المخيم، أضيع كطفل يبحث عن أهله في الزحام ومــع ذلــك، لــم يكــن الصيــد وحــده هــو مــا جعــل الرحلــة مــثيرة؛ بدايــة النهــار مــع الشــيخ . بــل كانــت كل لحظــة مملــوءة بالدهشــة زايــد - رحمــه الله تعــالى - في مجلســه الصبــاحي، والاســتماع إلى حديثــه العميــق والمتنــوع، ثــم الانــطلاق في أحضــان الطبيعــة، ومتابعــة الصقــور، ومرافقــة أصحــاب الخبرة، والنــوم في العــراء كل هــذا ... تحــت الســماء، مــن دون خــوف مــن أفعى أو وحــش . سى � كان متعــة لا تُُن انقضــت أيــام الرحلــة الأولى بســرعة لا تُُصــدق، ولــم أســتغرب؛ فالأوقــات الجميلــة، كمــا الحيــاة نفســها، تمــر خفيفــة كالحُُلــم، بينمــا الأوقــات الثقيلــة تــسير متثاقلــة لا تنــتهي شاعر وإعلامي

اليوميــة أمــام الشــيخ زايــد مســاءًً، ليتــبيّّن مــن التزم ومــن تجــاوز أتذكركيف اكتفى الدكتورمانع سعيد العتيبة وجماعته . الحد بعــدد محــدود مــن الحبــارى رغــم عثورهــم على «جملــة» - أي نحــو اثــنتي عشــرة حبــارى - إذ طلــب منهــم التوقــف عــن «الهــد ّّ» . والعــودة، احترامــا لــروح الرحلــة وتعاليــم الشــيخ زايــد حتى قيــادة الســيارة خلال القنــص لــم تكــن أمــ ار عاديّّــاًً؛ فقــد كانـت تحتـاج إلى براعـة خاصـة، في أراض لا تعـرف الطـرق، فـوق رمال رخوة قد ت ُُغرزفيها السيارة، أو فوق أرض وعرة ت ُُلاحق فيها

الطيروهو يطارد الحبارى، أو تبحث بعينيك عن آثارها الخفيفة كانــت مغامــرة متكاملــة، لكنهــا دومــا مغلفــة بالحكمــة . في الرمــال نظـ ار لكونـي «حض ير ّّــا ًً» في نظـر جماعـة الدكتـور مانـع، . والرحمـة مثــل الشيبــة الهــاملي، وســيف المنصــوري، وعامــر المنصــوري، وأحمـد الظريـف، وعتيـق بـن سـيفان، وسـالم بالفـار المنصـوري، ونصيــب بــن عجلان المنصــوري، فقــد كنــت - بنظرهــم - غير لذلك، اكتفيت . مؤهل لقيادة السيارة في بيئة القنص القاسية بالجلوس إلى جوارعامرالمنصوري، الذي كانت ت ُُعرف سيارته بـ «سـيارة المطبـخ»، لأنهـا كانـت محمّّلـة بترموسـات القهـوة والشـاي . والحليب، إلى جانب التمر والقرص والبثيث والحلوى الع ُُمانية ومـن خلال مرافـقتي لـه، تعل ّّمـت منـه أسـرار قيـادة «اللاندروفـر» كيــف تخــوض الرمــال دون أن تتغــرز، : في التضاريــس الصعبــة وتتنقل في الوعر، وتصعد المرتفعات الحادة، وتهبط المنحدرات دون أن ت ُُعــر ّّض الســيارة لخطــر الانــقلاب، وهــو أمــر لا يتقنــه إلا . مـن خبر الصحـراء وعـرف تقلباتهـا سي دوار فاعلا في الرحلة، فلم أعد � منذ اليوم الأول، وجدت لنف مجرد ضيف أو متفرج لا علاقة له بعالم القنص، رغم أنني لم جــاء هــذا الــدور . أحمــل صقــ ارًً، ولــم تكــن لــدي خبرة الصقّّاريــن بالمصادفــة، حين اســتطعت أن ألمــح طائــر الحبــارى مــن مســافة

75

74

2025 يوليو 309 / العدد

في صحبة الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان: قنص بالبصيرة لا بالصقر

Made with FlippingBook Annual report maker